فضيلة البطء في عصر السرعة
في عصر السرعة نقضي حياتنا في ركض مستمر دون توقف. نتجاوز التجارب والأحداث بسطحية دون أن نعيشها حقًّا حتى أصبح البطء فضيلة كُبرى.
في عصر السرعة نقضي حياتنا في ركض مستمر دون توقف. نتجاوز التجارب والأحداث بسطحية دون أن نعيشها حقًّا. فقدنا طقوس مائدة الطعام بعد غزو الوجبات السريعة، والأحاديث الجانبيّة مع الغرباء والتأمّل والتفكير خلال أوقات الانتظار بعد غزو الإنترنت، فقدنا وقت الفراغ وحياتنا بسبب متطلبات العمل والإنجازات المستعجلة المتوقعة منّا، وأصبحنا نلهث لنلحق بعقارب الساعة.
تغلغلت روح السرعة في جميع مناحي حياتنا، صار كل شيء مختزلًا وأقل حجمًا وأسرع نتيجة. وبِتنا مهووسين بإنجاز المزيد في وقت أقصر فأقصر، وتحوّل التركيز من الكيف إلى الكمّ تحت ضغط الوقت لتتجه حياتنا للسطحية.
أصبحت ثقافة القراءة السريعة وكتب الجيب الصغيرة والوجبات السريعة والتعلم السريع (Microlearning) والتدوين السريع (Microblogging) وأنظمة التخسيس السريعة ومهام العمل المتراكمة التي ينبغي إنجازها في أقرب وقتٍ، الإطار الذي يمثلنا في ظل انغماسنا واندفاعنا المتهور نحو الحياة.
وغفلنا عن الأضرار المترتبة على ثقافة السرعة والتي تفرض السطحية وتلغي العمق، وتجعلك تفقد اتصالك مع نفسك ومع الآخرين ومع العالم. إذ تجد السريع دائمًا ما يكون مشغولًا ومجهدًا وضجرًا لا يهتم لجودة ما يقوم به قدر اهتمامه بالتخلص من حِمله، على عكس البطيء فهو متأملٌ وصبور ومنفتح، وهادئ يركز على جودة عمله.
لاحظ كيف ينتاب الكل شعور بالإجهاد لأنهم في حركة سريعة مستمرة لا تتوقف.
البطء في زمن كورونا
وبالنسبة لمن كانت حظوظ امتيازاتهم في صفهم، ربما أتت جائحة كورونا كفرصة ليتمهلوا قليلًا، بعدما قضوا حياتهم في سباق مع الزمن. ليلتقطوا أنفاسهم ويراجعوا حساباتهم ويقيّموا قراراتهم التي غفلوا عنها في عملية الركض المتواصل.
قم بعمل بحث بسيط في قوقل عن فترة الحجر الصحي وستجد مئات التغريدات والتدوينات المكتوبة والمرئية التي تحكي تجارب أشخاص قضوا فترة الحجر في ترتيب المنزل والتجرد من الفائض عن الحاجة، أو ممارسة هوايات انشغلوا عنها كالقراءة والكتابة، أو الاعتزال للتفكير؛ أو ببساطة التوقف عن العمل وأخذ استراحة.
لقد مثلت الجائحة فرصة لنا لنتمهل قليلًا لتصبح حركتنا بذلك أبطأ. ولكن إيطاليا التي انتشر فيها الفيروس كالنار في الهشيم كانت قد بدأت منذ الثمانينيات في إنشاء حركات تقف ضد هذه الموجة السريعة التي تعصف بنا.
حراك عالمي لتحدي السرعة
تعتبر إيطاليا الدولة الرائدة في تمثيل حركة البطء، حيث أنشأت حركات تشمل عدة جوانب حياتية انضمت إليها لاحقًا أكثر من مئتي مدينة متوزعة في أكثر من ثلاثين دولة.
بدأتها إيطاليا حينما أسست حركة الطعام البطيء، بعد انتشار مطاعم الوجبات السريعة عام 1986 والتي تهدف إلى رفع تقدير الأهمية الثقافية والاجتماعية لآداب الطعام، من خلال فهم مصدر الغذاء وكيفية إنتاجه. مما يلقن الأفراد تعلم المزاوجة بين متعة التلذذ ومسؤولية الخيارات اليومية.
ثم شرعت بتوعية الأفراد بأهمية الاستمتاع بالطعام وفنون التذوق والزراعة. إذ يقوم الفرد بتحضير وجباته العضوية بنفسه من الألف إلى الياء بدءًا بالزراعة وحتى الطبخ، ولا سبيل للطعام الجاهز على الإطلاق.
لتؤسس بعدها حركة المدن البطيئة عام 1999 تحت شعار «البطء لحياة أفضل»، والتي اشترك فيها أكثر من خمسين ألف عضو من مئتين واثنين وثلاثين مدينة.
تشمل هذه الحركة توفير أسلوب حياة هادئ وبطيء لعديد من جوانب الحياة. فإلى جانب الطعام، شملت أيضًا المواصلات والأزياء وتصميم الأماكن العامة. إذ زُرع الورد في الطرقات ليشد انتباه الناس ويبطئ من حركتهم.
إضافة إلى ذلك، وُفرت المتاجر الضرورية في كل حي سكني حتى لا يضطر السكان لاستخدام المواصلات في التنقل ويعتمدوا على المشي على الأقدام.
ولكن إيطاليا لم تتوقف عند هذا الحد، إذ انطلقت لتضم الأزياء في حركة جديدة في العام 2006، والتي ارتكزت على الاعتماد على أقمشة ومخرجات صديقة للبيئة مع مراعاة الجودة وحقوق العاملين، وتفرد أصالة التصاميم لتراعي التعبير عن الثقافة المحلية.
أما في العام 2011، وفي خطوة فريدة من نوعها، أسست إيطاليا حركة الطب البطيء الساعية إلى الاعتماد على رعاية طبية صديقة للبيئة بلا نفايات، عبر الحوار مع المريض للوصول إلى أفضل المخرجات الصحية الممكنة واللجوء إلى أبسط وأنجع الطرق العلاجية الطبيعية بدل الاعتماد الكلي على الأدوية المصنعة والتقنيات الطبية المكلفة.
لترسم بذلك معالم الطريق في تأسيس ثقافة لا تعتمد على السرعة والعجلة، بل تقف لتصنع مجتمعًا تنمويًا يحقق الاستدامة في جميع فروعه.
العمل مساحة للبطء
في العام 2019 أدرجت منظمة الصحة العالمية الإنهاك الوظيفي ضمن العوامل الخطرة التي تتطلب رعاية صحية، ضمن المراجعة العاشرة للتصنيف الدولي للأمراض، كما بدأت في وضع توجيهات جديدة بشأن الصحة النفسية في مكان العمل.
لتتجه بعدها دول أخرى في شمال أوربا مثل فنلندا والدنمارك والسويد والنرويج إلى تطبيق نظام العمل البطيء الذي يهدف إلى تقليل ساعات العمل المضنية إلى الحد الأدنى المطلوب لإنجاز العمل. مع إعطاء الموظف ساعات استراحة قصيرة متكررة، مما ساهم في زيادة تركيزه وبالتالي إنتاجيته بدلُا من اعتباره آلة تعمل في سباق مع الزمن لإنجاز المهام المطلوبة تحت الضغط.
أثبت هذا النظام أن ازدهار اقتصاد الدول لا يتطلب أفرادًا مدمنين على العمل، بل توفير بيئة وجدول يضمنان الراحة النفسية والبدنية للعاملين. حيث واجهت هذه التجارب الدولية مرض السرعة بالتمهل مع الحفاظ على كفاءة الحياة.
إننا ننتقل من عالم يأكل الكبير فيه الصغير إلى عالم يأكل السريع فيه البطيء
يقول الخبير الاقتصادي كلاوس شواب في خطابه الذي ألقاه خلال القمة العالمية للحكومات لعام 2015: «إننا ننتقل من عالم يأكل الكبير فيه الصغير إلى عالم يأكل السريع فيه البطيء». كما أننا تربينا على الحكمة التقليدية التي تقتضي أن التباطؤ سيحولك إلى فريسة، ليتضح لنا أن العكس هو الصحيح.
في مديح البطء
يقول كارل أونوريه في كتابه «في مديح البطء»:
في هذا العصر الغني بالوسائط والبيانات وتصفح القنوات وألعاب الكمبيوتر، فقدنا فن عدم القيام بأي شيء، وإغلاق ضجيج الخلفية وتشتيت الانتباه والتباطؤ والانفراد ببساطة مع أفكارنا
كما طرح أونوريه في هذا الكتاب الحركات العالمية التي تحدت عبادة السرعة، وناقش أهم مناحي الحياة التي تقع ضحية لعبودية الزمن؛ كالطعام والجنس والعمل والرياضة والتربية والصحة النفسية والجسدية.
حيث بدأ بذكر الأثر السيئ للسرعة الذي تغلغل في جميع جوانب حياتنا دون إدراك منا، وقدم أهم الأساليب والطرق التي يمكن اتباعها للتخلص من هذه الآثار السلبية.
لا يعني ذلك ذم كل أشكال السرعة أو مراكمة المهام اليومية إلى أجل غير مسمى ولكن دعوة للتأمل قليلًا إذ ليست المسألة إعلان حرب على السرعة، فالسرعة شكّلت عالمنا بامتياز وسهلت مصاعبًا كثيرة لا تعد ولا تحصى في عصرنا الحديث. لكنها محاولة إيقاظ حتى لا ننسى أنفسنا في خضم الأحداث المتسارعة ونسلمها لعبودية الزمن، ونداء بالتوازن وضبط إيقاع حياتنا قبل كل شيء.