في رثاء أزقة مكة

الزقاق والشارع والميدان وغيرها عناصرُ ما يعرف بالتخطيط المدني أو الحضري. وتشكّل مع عناصر أخرى مجتمعةً مورفولوجيا المدينة.. مدينة مكة.

في مكة يكاد الزُّقاق يختفي من المدينة. فبفضل المشاريع التي شُرع تنفيذها في السنوات القليلة الماضية، أزيلت أحياء عديدة من أحياء المدينة، وأعطي قاطنو تلك الأحياء تعويضات مادية لقاء التنازل عنها لإعادة بناء مورفولوجيا جديدة لها. ولأن البديل الوحيد الجاهز تقريبا هو المخططات المنتشرة على أطراف المدينة من كل الجهات، استُبدل الزقاق بشارع المخطط.

الزقاق والشارع والميدان وغيرها عناصرُ ما يعرف بالتخطيط المدني أو الحضري. وتشكّل مع عناصر أخرى مجتمعةً مورفولوجيا المدينة. تتعدى فيها قيمةُ هذه العناصر الغرض الوظيفي لكل منها إلى دور مهم تؤديه في تشكيل هويات الناس وممارساتهم الاجتماعية التي تحدّدها تجاربهم في الحيّز الذي يعيشون فيه. الأحياز إذن فضاءات للتعارف والتجارة والمتعة والقلق، فضاءات محلية ومعولَمة، فضاءات تنشأ داخلها وبسببها مجموعة من العلاقات الاجتماعية.

عند الحديث عن عموم الشوارع، يمكن استخلاص فارق رئيس بين التقليدي منها والحديث، ألا وهو طريقة نشوء كل منهما. ففي حين يتّسم الشارع التقليدي بالعضوية، يكون الحديث مرسومًا من الخارج، مفروضًا فرضًا لا يخلو من عنف. حينما يتعلق الأمر بالزقاق المكّي لكونه عنصرًا من الشخصية المدنية للمدينة، فالجسد قبل الفكرة.

لذا لا غروَ من صعوبة، إن لم يكن استحالة تقصّي نَسَبِ الزقاق. إنه مثالٌ لما يدعوه بسيم حكيم «العامّي» في العمران. حيث يمكن القول بأن الزقاق بنى نفسه من حيث لا يعي. إذ سمح لقاطنيه منذ الأزل أن يتشاركوا تكوينه (المبدأ الرئيس في عرض الزقاق في المدينة الإسلامية القديمة، كما يكتب حكيم، أن يتسعَ لبعيرٍ محمّلٍ بالكامل. لأن الزقاق ملكية مشتركة بين كافة القاطنين فإن الاتفاق بينهم حتميٌّ حول طبيعة الزقاق واستخداماته).

لا مفرّ إذن من الاتفاق حول شكل الزقاق، وإنْ لاحقًا حسبما يطرأ، فهذا يريد أن يفتح بابًا وذاك يريد أن يرفع نافذة وهكذا. بهذا المعنى يكون قاطنو الزقاق رأسمالَه وقيمته المتراكمة عبر الزمن. ولكن الزقاق نسي تاريخه عندما تنازل عنه للإنسان.

الحي التقليدي 

ينمو الحي التقليدي في المدن، والذي يعد الزقاقَ أبرز تجلياته بطريقة حيوية على عكس الحي الحديث المصنوع. وأحد أبرز هذه الأوجه أنه لا يمارس عنفًا على طبغرافية المكان بل يتماهى معها. هل رأيت الزقاق في صعوده وهبوطه، في انحنائه واستقامته، في ضيقه واتساعه؟ إنما هو في طبعه شريان يجري حيث تسمح له الطبيعة.

لهذا السبب فالزقاق خِلْوٌ من النسق، إذ لا زقاق يشبه أخاه. ولهذا أيضًا ينمو الحي التقليدي في جيب الوادي وثكنة الشِعب وعلى صفحة الجبل، من دون أن يسعى إلى تغييرها. هاك مثالًا يستنبطه المتأمل من أسماء أحياء مكة وأماكنها. تجد في مكة جَرْوَل ووادي جليل وشعب عامر ودحلة الرشد ورِيع ذاخر والهَجْلة والقَرارة والكِدوة.

كل هذه الأسماء أوصافٌ لتضاريس الأرض. فالوادي والشِّعب معلومان، وأما جَرْوَل فالأرض الصخرية، والدَّحلة شقٌ في الأرض يتسع كلما غاط، والرِّيع مرتفع الأرض، والهَجْلة السهل الواسع، والقَرارة الأرض المنخفضة يستقر فيها الماء، والكدوة الأرض بطيئة النبات، وهكذا دواليك.

زقاق مكي ينظر على برج الساعة
زقاق مكّي يطلّ على برج الساعة / Momen malkawi

يضيق الزقاق لتتسع الأنفس

ينهمك إذن الزقاق في تحاورٍ دائم مع الطبيعة، سواء في البدء حيث تقاسم معها شروط الوجود، أو في وضعه الحالي حيث يستجيب لها استجابة تختلف من انعطافة لأخرى. فمثلًا، يوزّع الزقاق ضوء النهار ويصنع منه ظلالًا متباينة حسب الحاجة، حاله في ذلك حال دربِ الماء المنسكب مع السفوح وطيات الشعاب. تنفتح عليه نوافذ جديدة وأبواب مستحدثة.

كما يندر أن يكون للزقاق رصيف، ومساحته الضيقة في حاجة مستمرة إلى الاستغلال (غالبًا ما يضطر السكان لتقديم سيارة أو تأخيرها كيما تدخل سيارة أخرى بحِملها من أشخاص أو مواد). يضيق الزقاق لتتسع الأنفس، والسبب في هذا أن الزقاق ما يزال يقاوم الحداثة التي سلبت من الشارع وظيفته الاجتماعية وحصرته في انتقال المركبات .

للزقاق أيضًا فم، على عكس شارع المخطط، وله منتهى. ولهذا فالغريبُ الداخلُ إليه ليس متشرد نيتشه الذي يأتي اليوم ويذهب غدًا، بل غريبٌ قيورق زِمِل الذي يأتي اليوم ويبقى غدًا.

الداخل إلى الزقاق عائدٌ، لا يتوه، لا العيون تحرقه ولا الألسن تسلقه. الواقف على فم الزقاق للمرة الأولى تقوده النظرات والإيماءات والخطى. ولأن الزقاق غير نافذ في الأغلب، يعود المستفيد منه إلى شكر من دلّه. قارنْه بالواقف على شارع المخطط يسأل نفسه حائرًا: أيمينٌ أم شمال؟ أخلفٌ أم أمام؟ وبعد كل خطوة يعيد السؤال: أيمينٌ أم شمال؟ أخلفٌ أم أمام؟

المحصلة النهائية أن تكون تجربةُ الفرد والمجتمع لتضاريس الزقاق تجربة أمينة لتاريخه الطبيعي والاجتماعي لا لفكرة مجردة مفروضة. يقود المرء السيارة، يمشي راجلًا، يصعد نفسًا وينزل نفسًا، مرة تقطع الشمس ومرة تغيب في رقعة الظل. والنتيجة ألاّ يجد المرء في الزقاق ولا في المنطقة المكونة من أزقة تناظرًا.

الزقاق هو المكان الأكثر تعددية ثقافيًا

لا يتطلع الزقاق إلى أن يكون متناظرًا أو مرتبًا؛ بل إن أغلب الأزقة المكية هجينٌ بين الشارع التقليدي والشارع الحديث، وإنْ إلى حد بسيط. والزقاق إضافة إلى ذلك بطيء ومزدحم، لا يناسب مرور المركبات التجارية وسيارات الموظفين كما يناسبها المخطط.

(يقول لو كوربوزييه: «المدينة المصنوعة للسرعة مصنوعة للنجاح»، بينما يمتدح رِم كولهاس ما أسماه «ثقافة الاكتظاظ» في مانهاتن، إذ هو تاريخ عضوي متراكم. لكن الزقاق ليس قيتو اليهود في وارسو أو سُود أميركا في هارلم. إذ لا يضير حيَّ الزقاق ازدحامُه واحتواؤه للجميع.

عوضًا عن ذلك، هو المكان الأكثر تعددية ثقافية في العالم على مر العصور. هو المحاولة الأكثر جدوى لترقيع بابل عقب الشتات. إنه بديل اليوتوبيا الممكن التحقق لولا بعثرة المخطط لقطع الفسيفساء من جديد. ولأن الزقاق عبّدته أقدام القاطنين، غادين رائحين، فهو حوارٌ أقدمُ من ساكنيه ومستمرٌ إلى ما بعدهم. حيث تكمن قوته في الذاكرة، بينما يضع المخطط رهانه في المستقبل.

المدينة في شباك المخطط 

في التخطيط الحضري، الشبكة هي أمّ المخطط، هي وليدةُ خيالٍ بليدٍ يتجلى في الخطوط المستقيمة والزوايا القائمة، إضافة إلى أنها أرخص الطرق لبناء مجتمع من الطبقة الوسطى (بعد أن احتُكرت الانحناءات في قصور الأغنياء).

إذ تنمّ الشبكة عن العقلية الرأسمالية  المهووسة بالمسافة المُقاسة المُعَقلنة وبتنظيم الحيز. وعلى رغم أن الشبكة تمنح وهمًا بالتخطيط والترتيب والمساواة، فالمساواة في المخطط –على شكليّتها– قائمة على التوجس وعدم الارتياح والمنافسة والتغير.

المخطط قائمٌ على المسافة باعتبارها معيارًا حضريًا للمجتمع الذي يجسّدُ أيديولوجيا تحسين المستوى المعيشي

لأنه كما المخطط، أضحت وجوهُ قاطنيه مربعة قد انسحب منها الارتياح إلى الأبد. والسبب أن المخطط قائمٌ على المسافة باعتبارها معيارًا حضريًا للمجتمع الذي يجسّدُ أيديولوجيا «تحسين المستوى المعيشي». بُني في الأساس على مسافةٍ محسوبة وفرزٍ مقنّن للمكان ووظائفه: منطقة للّعب ومنطقة للطقس الديني ومنطقة للنشاط التجاري وهكذا.

أفضى هذا الفرز إلى أن تكون العاطفةُ الغالبةُ التي تحكم الحيّز عاطفةَ التوجس الدائم، الخوف المستمر من العبث بهذا الفرز اللا متسامح الذي يسِم المدينة.

الزقاق منعرج عاطفي 

تفسّر العلاقات الدانية والمتباعدة التي تنتجها مورفولوجيا كلٍّ من الزقاق وشارع المخطط ظهور العاطفة وتوزيعها في كلا الحيّزين. معلومٌ أن الحيز يكتسب معنى عاطفيًا وعقلانيًا عبر عمليةٍ وصفها قاستون باشلار بشعرية تنتج عن التجارب المناسبة التي يعيشها الناس داخل الحيز.

ولهذا، تتقزّم قيمة المكان الموضوعي المادي (غرفة، مبنى، شارع، إلخ) عند شعرية الحيز الذي ينتج قيمًا متخيلة من خلالها تنسب الجملةُ معانٍ ثقافية لحيز ما. إذ  شهد العقدُ الأخيرُ اهتمامًا متزايدًا في النظرية النقدية عمومًا، والنظرية الحضرية خصوصًا بالعاطفة، حتى غدا بالإمكان الحديثُ عن «منعرج عاطفي» في الدراسات الإنسانية والاجتماعية.

يقضي الالتفات النظري إلى العاطفة بأنه لا يمكن تصوّر المدينة أو الحياة الحضرية من دون اعتبار مجموع «العواطف» التي تشكّل تجربةَ المدينة. وهذه العواطف تتعدد وتتنوع، فمثلًا يشيع في المدينة الرأسمالية التي لا تنامُ التوترَ والقلقَ، مما حفّز الحاجة إلى خلق مساحات للاستجمام المؤقت.

رجل يتناول الطعام في زقاق بمكة / Momen malkawi

إن العاطفة جزء رئيس من عمليات التمدين، حيث المدينة مكونة من جملة من العواطف المتنوعة والمتباينة. هذه العواطف ليست جزءًا من خصوصيات الأمكنة فحسب، ولكنها أيضًا جزء من العمليات الجغرافية والاقتصادية التي يسمح بها المكان، ويمكن الشعور بها من خلال التجربة المعاشَة.

قد يجوز القول إن «التفاؤل الوحشي» (كما وصفته لورين بيرلانت) العاطفةُ المهيمنة في المخطط. إذ هي الأضرار التي يتكبّدها الناس بسبب وعود يتعلقون بها. بعبارة أخرى، يشير هذا التفاؤل إلى الحالة التي تقف فيها رغبات الفرد أو الطبقة الاجتماعية عائقًا أمام ازدهارهم.

المخطط ضمير المدينة الغائب

على عكس الزقاق، يأتي المخطط كمحاولة معَقْلَنة لتطبيع روح المستوطنة الاستعمارية المتخيّلة (من حيث إنه وُجد أولًا في خيال المخطط، ثم هُندس بعد ذلك طبقًا للصورة الخيالية المجردة). إنه في صورة المدينة الجديدة مبنيٌّ على الإزاحة والاقتلاع، في جملةٍ من التدخلات الاجتماعية والثقافية التي تنزع السكان من بعضهم فيغتربون عن أنفسهم.

يتخلون، راغبين أو مرغمين، عن رغباتهم مقابل العيش في المخطط أو بعبارة أدق، يُقنَعون أن رغبتهم تكمن في العيش في المخطط. تتجلى تناقضات الرأسمالية في المخطط الذي تهوي إليه أفئدةُ طبقةٍ اجتماعية جديدة قائمة على الدَّين والرهن، طبقة تُشترى وتُباع.

وسكنهم في المخطط التجلي الأخير من تجليات انتمائهم لهذه الطبقة، الانتماء القائم على المسافات المحسوبة بصرامة بين المنزل والمنزل والشارع والشارع. مبانيه بلا روح، نوافذه بلا وجوه، أرصفته بلا مشاة، شموسه بلا ظلال. إن المخطط ضمير المدينة الغائب غير الممكن إلا على تخومها.

ليس له ماضٍ يطارده سوى حداثة عهده بالعنف الذي حدث للبيئة (تذكّره بذلك المباني التي تشيَّد كل يوم في المخطط). ليس له تاريخ شعبيٌّ لا شفهيٌّ ولا مكتوب، وإنما هو تاريخ مصفوف مصطنع، تاريخ بلا تاريخ. إنه باختصار عَرَض لمرضٍ اسمه التمدد المدني.

المخطط استنساخ بلا ذاكرة 

المخطط ممارسةُ عنفٍ في سبيل إنتاج فضاءات متجانسة، وفي هذا الشيء تحديدًا تكمن مأساته. المخطط قطعةٌ على خط الإنتاج، ساكنوه مواطنو المصنع الكبير. قالبٌ قابل للاستنساخ والتكرار أينما يراد له. يساق إليه الساكنون سوقًا. أما رأيت المخططَ فاغرًا مذعورًا من نفسه؟

شوارع مكة / Wikimedia Commons

تكراره باعتباره نموذجًا يعني إمكانية نسخه في كل مكان وزمان بغض النظر عن السياقات البيئية والاجتماعية. بل على العكس، يحاول المخطط النأيَ في الغالب (كان على أهله أن يقتنعوا بالنأي كيما يتقبّلوا البعد عن مقر العمل مثلًا، وكان على الجميع أن يقتنع بأن المخطط حلّ ناجع لفكّ اشتباكات المدينة التقليدية وإنْ على حساب البيئة والعلاقات الاجتماعية.)

ولذا فالمخطط قَحْلٌ دائمًا. حيُّه هو البديل المقدَّم للحي التقليدي في وسط المدينة، الذي صار بين عشية وضحاها موصومًا بالتخلف والجريمة والتلوث. المخطط أبشع ما جادت به مخيلة إنسان، وهو إضافة إلى بشاعته عنيف، «خُطط» ثم بُني على عنفٍ بيئي واقتصادي واجتماعي وسياسي. لا غرو إذن أن يصبح حي المخطط بلا وجه ولا ذاكرة ولا عاطفة ولا مواجهات إيجابية.

الحضري حقل من المواجهات 

المواجهة، المصادفة بطبيعتها العفوية وغير المرتبة، والتي هي نتيجة حتمية للشبكة في التخطيط، شكلٌ من أشكال الاتصال الاجتماعي تعد به الشبكة في المدينة الحضرية، لدرجة أن هنري لوفيڤر يعرّف الحضري بأنه «حقل من المواجهات» في دلالة على الصلة بين العلاقات الاجتماعية والمواجهة.

حيث ربط باحثون المواجهة بالتنافر والتوتر والصراع، بينما رأى آخرون فيها دفعًا للتجانس والديمقراطية. على أية حال، المواجهات في المجمَل هي ما يُنتج المدينة ويمنحها شخصيتها المميزة.

إذ أن دراسة ما يحدث في تلك المواجهات اللا متوقعة والاعتيادية والعابرة تكشف عن شخصية الحيّز وسياسات تكوينه، مثلما فعل زِمِل مثلا بدراسته توسّع المدن وازدياد فرص مواجهة الغرباء والمختلفين عبر تقصّي شخصية الغريب التي حددت ملامح المتروپوليس وغيرت علاقات الناس ببعضهم.

ويمكن القول ببعض الثقة بأن المقاربة العامة لسكان المنطقة الحضرية تجاه بعضهم البعض مقاربة يسودها التحفظ والتوجس وصون مسافة باردة. تلك المقاربة مردّها إلى غربة قاطني المخطط الذي هو منفى يتلبّس لبوس الوطن. (أما رأيت كيف يُباع المخطط عشيّة، يقتسِمه اليتامى الذين لن يتعرّف بعضهم إلى بعض أبدًا، في غفلة عن العنف المدني الحالّ بالأرض والضرر الإيكولوجي الواقع عليها؟).

الزقاق ومدينة المستقبل 

الانتقال من الزقاق إلى شارع المخطط واحدٌ من تجليات مفارقةٍ يعيشها المعمار في الوقت المعاصر، إذْ في الوقت الذي ازدهر فيه المعمار باعتباره تخصصًا ومهنة على السواء، من ناحية العمل المعماري ونجومية المهندس المعماري، نجد أن مكانة المعمار وهويته الثقافية آخذة في الاضمحلال.

حي العزيزية / Wikimedia Commons

إذ  لم يعد ممكنًا الحديث باطمئنان عن وجود رؤية نظرية متكاملة للمعمار على مستوى الممارسة. حيث أخفقت نظريات ما بعد الحداثة والتفكيكية في تأسيس سلطة طويلة الأمد أو موثوقة تحل محل نظيرتها الحداثية. وفي السباق المحموم نحو «التطوير» غدا الحيُّ العشوائي تهمةً والزقاق نقمةً تقصم ظهره المعدات الثقيلة التي تمثل  عقبة في طريق المشروع، في طريق الرأسمال.

لم يعد الزقاق مُطاقًا في مدينة المستقبل التي تفسخ جلدها كل يوم، لكنها لن تستطيع أن تنزعه بالكلية عنها. لقد أثار الزقاق غبنَ الجديد من القديم والحديث من الأصيل. وهكذا دفع إلى مسحها كيلا يحول دون رؤيته، دون تحديقته الإلهية، حائل.

أخيرًا، قد يقول قاطن الزقاق مجازًا: «أخبُرُ هذا الجبل منذ أن كان قَرنًا، منذ أن كان سنّا بازغة» أما ساكن المخطط فأنّى لك أن يقول شيئًا مشابهًا؟ إن المخطط الذي يعيش فيه عنفٌ مُورِس على طبغرافيا الأرض منذ أن نظر المخطِّط إلى الجبل والتل والربوة والسهل والوادي، فرأى مربعات.

كانت عينُه تقصّ كل شيء، تدمحه وتساويه، وهل المُساوي إلا الموت، كما تقول قصيدة المسرحي البريطاني جيمس شيرلي؟ في سبيل تطبيق هندسته الصارمة، يقطع المخطط السفح ويمزق الوادي لصالح نسقٍ تعوزه الحساسية. نسق اسمه الشبكة، مبنيّ على الزوايا القائمة.

إذ صُمّم ضدّ الازدحام والنار والمرض وباقي علل الاجتماع الحضري. لا غروَ حينها أن ترقّم شوارع الشبكة بالتتالي، الشارع الأول و الثاني والثالث والمئة، وهكذا، حتى تصبح مع الوقت نموذجًا من البانوبتيكان المدني الذي يضمن كل شيء تحت سيطرته/مسطرته. ألَمْ تكن المسطرة البدء؟

التخطيط الحضريالسعوديةالشوارعالعمارةمكة المكرمةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية