الصين في رحم الأيديولوجيا

يُناقش الكاتب محمد السديري الأيديولوجيا الصينية والأفكار السياسية التي يُغذيها النظام الحاكم ليفرض سيطرته على شعب يقترب من ملياريّ شخص.

كثيرًا ما تسقط الأيديولوجيا من التحاليل المتعلقة بالسياسة الصينية وعلاقاتها الدولية. ينبثق هذا التحييد من الفكرة الشائعة بأن الصين «ما بعد الماوية» قد تخلت عن موروثاتها الفكرية وتحولت إلى دولة براغماتية غير معنية إلا بالتنمية الاقتصادية على النمط الرأسمالي الدولتي.

لا تتم قراءة الحزب الشيوعي الصيني في هذا السرد كتنظيم ماركسي-لينيني، بل كتكتل نخبوي معني فقط بإدارة السوق وحركة رأس المال. يثبت ذلك قرار الحزب عام 1981 الذي طوى مسألة الصراع الطبقي (أو توقف عن اعتبارها التناقض الرئيسي في المجتمع) والتغيير النظري الذي سمح للرأسماليين بالانضمام كأعضاء في الحزب في عام 2002:

مثل رن جنقفي، مؤسس هواوي (بثروة شخصية تصل إلى 1.5 بليون دولار) وما ين (المعروف باسمه الأجنبي جاك ما) مؤسس مجموعة علي بابا (بثروة شخصية تصل إلى 41.3 بليون دولار)، كلاهما عضوان في حزب لا يزال يعتبر نفسه ممثلًا لمصالح «الطبقة البروليتارية».

تعكس هذه القراءة هيمنة الطرح الفوكويامي «ما-بعد الأيديولوجي» في فهم الظواهر السياسية منذ انتهاء الحرب الباردة والتي تنظر إلى الصين على أنها -مثل جميع الأنظمة الماركسية المندثرة في روسيا وأوربا الشرقية- في طور الخروج من وضعها السياسي المؤدلج (والمؤقت) والتحول إلى منظومة ديمقراطية ليبرالية ذات سوق حرة.

العقلية الأيديولوجية للحزب

يصف دانيال فوكوفيتش هذا الطرح (السائد بين الغربيين) في كتابه الصين والاستشراق «بالتحولاتي»: بمعنى أن الظواهر السياسية الصينية تُعد كلها تجليات لصراع بين الاستبداد (الفارغ من أي فكر) والديمقراطية التي ستصب في نهاية الأمر لصالح الأخيرة.

ولكن الأيديولوجيا بمعنى حزمة الأفكار المتغيرة والمتعلقة بتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والإطار الجامع الذي يحدد نطاق الخيارات السياسية الممكنة والمشروعة لم تتلاش في الصين ما بعد الماوية.

في الواقع، للحزب والنظام السياسي الصيني حياته الأيديولوجية الخاصة التي لابد أن تكون في صلب أي محاولة لفهم تعقيدات المشهد السياسي الصيني وتطوراته وطرق ارتباطه بالعالم الخارجي. 

يمكن استشعار محورية الأيديولوجيا بشكل سطحي من سرديات وممارسات الحزب: في بيانات المؤتمرات الحزبية الرئيسية والتي تقوم بالتشديد بشكل متكرر على أهمية «العمل الأيديولوجي» و «العمل الفكري-السياسي»، في التقليد المتبع مع جميع القيادات الحزبية، والمتمثل بإدخال إسهاماتهم النظرية في الدستور الحزبي.

كما يمكن استشعار هذه المحورية عبر الإطلاق المتكرر لحملات معنية بالمحافظة على الوحدة الفكرية و«التوجه السياسي الصحيح» بين الكوادر الحزبية، وجود أجهزة حزبية -قديمة قدم الحزب- مثل قسم الدعاية واللجنة المركزية لفحص الانضباط وقسم العمل السياسي التابع للجنة العسكرية المركزية المعنية بإدارة وتأمين الفكر في الكيان الحكومي-الحزبي الصيني.

تعكس جملة هذه الخطب والممارسات كينونة الحزب كتنظيم سياسي ماركسي-لينيني مازال يرى أن «البنية الفوقية» (superstructure) المتمثلة في السياسية والقانون والثقافة لأي مجتمع هي المجال الأساسي للمحافظة على السلطة وإعادة إنتاجها. مثل ما يذكرنا به ماو زيدونق وما تردده القيادات الحزبية إلى هذا اليوم: «إحكام القيادة الفكرية إحكامٌ لكل أنواع القيادة».

التطور السلمي والثورة الملونة 

من جهة أخرى، بلغت أدبيات الحزب السيطرة على الساحة الأيديولوجية (وهي موضع صراع مع تيارات أخرى) مهمة ويتطلب ذلك التأكد من تسيّد وانتشار الطرح الصحيح فيها لأنها الساحة التي تحدد «البيرق الذي يرفع والطريق الذي يسلك».

فإذا ما سُمح لأيديولوجيا أو أيديولوجيات مغايرة أن تنتشر في هذه الساحة (التي تضم الحزب و المجتمع)، قد يؤدي ذلك إلى نتائج وخيمة من شأنها أن تمهد الطريق لما يطلق عليه «التطور السلمي» وهي -مؤامرة تغيير النظام عبر الكوادر الحزبية الملوثة فكريًا- أو عبر ثورة ملونة ستؤدي في كلتا الحالتين إلى تغيير تركيبة النظام وسياساته المتبعة.

يُصوّر هذا التحول في الأدبيات الحزبية ككارثة قومية ستسبب انهيار الكيان الصيني وتحوله إلى دولة تابعة للغرب سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وتحديدًا الولايات المتحدة التي طالما حاولت تشجيع مثل هذا التحول بحسب السرديات الدارجة عبر «الغزو الثقافي» الذي يوظف الإعلام والدين والتعليم بنيّة التأثير على الساحة الأيديولوجية الصينية، وعادة بمساندة طابور خامس مكون من النخب ذات التعليم الغربي.

لا ينبغي أن يصير ماضي الاتحاد السوفييتي مستقبلَ الصين

ينظر محللو الحزب إلى تفكك الاتحاد السوفييتي في 1989-1991 والذي نتج جزئيًا عن إهمال قياداته للمسألة الأيديولوجية والردة الفكرية لبعض قياداته مثل ميكائيل غورباتشوف ومستشاريه، كمثال لما قد يحدث للصين في المستقبل لذلك نجد هذا التحذير في بعض الأدبيات: «لا ينبغي أن يصير ماضي الاتحاد السوفييتي مستقبلَ الصين».

في مقابل هذا، ستكون الإدارة الصارمة والصحيحة للساحة الأيديولوجية بمثابة «الدرع النظري» الذي سيكفل أمن النظام ووحدة المجتمع وتلاحمه وسيسمح للصين بإكمال نهضتها وتنميتها. ولذلك وبحسب بعض المنظرين، يُعد الأمن الأيديولوجي أساس الأمن الوطني والاستقرار والسلم الاجتماعي.

الأيديولوجيا تحت شي جينبينق

يبقى الانتباه لعامل الأيديولوجيا أو عقلية الحزب الأيديولوجية  مهمًا لفهم ما يحدث في «صين العصر الجديد». فمنذ تولي شي جينبينق منصب أمين عام الحزب في عام 2012، تزايدت القيود الرقابية على مجالات مختلفة باسم تأمين الساحة الأيديولوجية.

في التعليم، أطلق الحزب مجموعة من الحملات لمكافحة التغريب الأيديولوجي في الجامعات والمراكز الفكرية، ووضعت آليات لمراقبة النقاشات داخل الصفوف وإلغاء استخدام الكتب الأجنبية ونشر القيم الاشتراكية الأساسية بين الطلبة والأكاديميين.

شي جينبينق / Getty Images

وفي 2014، ألقى الأمين العام خطبة مهمة ذات مسمى ومحتوى مشابه لخطبة ماو المشهورة في يانآن عن الفن والأدب في 1942، شدد فيها على أهمية إنتاج ثقافة ذات توجه أيديولوجي صحيح. في نفس الوقت، تزايدت الرقابة على الإعلام والتشديد على دور الصحافة كمنصة لتعميم الأيديولوجيا.

أما في المجال الديني (والذي يعدُّ جزءًا من الساحة الأيديولوجية)، وباسم مكافحة التأثيرات الأجنبية وتشجيع «التصيّن»، ضُيّق على الكثير من الحريات وبالذات بين معتنقي الأديان الأجنبية: الإسلام والمسيحية.

وفي 2016، ومع تزايد الضغوطات على منظمات المجتمع المدني، سُنّ قانون تكثيف الإدارة الحكومية على المنظمات الأجنبية، ووضعها تحت مراقبة وإشراف وزارة الأمن العام. 

لا يمثل هذا التوجه الانغلاقي عودة للماوية أو محاولة لبسط سيطرة الأمين العام السياسية فحسب، بل يمكن تفسيره أيضًا برأي كيري براون، كهجمة أيديولوجية مضادة تصبو نحو تدمير ما يراه الحزب مصادر خطر منبثقة عن الساحة الأيديولوجية والتي تهدد بقاءه في الحكم.

الوثيقة رقم 9 والخطر الأميركي

نلتمس هذا في وثيقة مهمة سبقت هذه التطورات، خرجت من الاجتماع الثالث لمؤتمر الحزب الثامن عشر في أبريل 2013 باسم «بيان حول الوضع الحالي للمجال الأيديولوجي» والمعروفة أيضا باسم «الوثيقة رقم 9».

ووصفت الوثيقة الساحة الأيديولوجية كساحة صراع ومنافسة شديدة بين تيارات فكرية مختلفة تبثها القوى الغربية المعادية للصين ومن أخطرها: الديمقراطية الدستورية والصحافة على النمط الغربي والقيم العالمية والمجتمع المدني والنيوليبرالية والعدمية التاريخية والتشكيك في الإصلاح والانفتاح ومدى اشتراكية الاشتراكية بخصائص صينية. 

ويمكن فهم محتوى هذه الوثيقة كتعبير عن رؤية الحزب القلقة لانحسار هيمنته الفكرية على المجتمع الصيني، بسبب العولمة والانفتاح المعلوماتي والإحياء الديني منذ الثمانينيات. هذا غير فقدان الحزب كما يراه بعض المحللين لوحدته الفكرية وانتشار «أزمة إيمان» بين كوادره المختلفة، والمتجلية مثلًا في الإيمان بالدين مع أن هذا يخالف دستور الحزب أو عدم الاكتراث بالماركسية.

ولكن التحدي الرئيس والجليّ في هذه الوثيقة هو اشتداد التهديد الأيديولوجي الأميركي (والغربي بشكل عام). إذ نرى في الأدبيات الحزبية، ومنذ اندلاع أحداث تيانآمين في 1989 والتي كانت بمثابة نهاية شهر العسل الأميركي الصيني، قراءةً عدائيًة للولايات المتحدة تعتبر بأنها تنتهج سياسة معنية بتغريب وتفكيك الصين وتغيير نظامها السياسي.

أحداث ميدان تيانمين 1989 -  الصين في رحم الأيديولوجيا
تظاهرات ميدان تيانمين عام 1989 / Wikimedia Commons

تصلبت هذه القراءة على خلفية اندلاع الثورات الملونة في شرق أوربا ووسط آسيا، وانتهاج إدارة بوش لاستراتيجية فرض الدمقرطة حول أفغانستان والعراق، وانتفاضات ما يسمى بالربيع العربي. وطبعا، ليست القراءة المتخوفة هذه بالهوس، إذا ما أُخذ التاريخ بعين الاعتبار أو حتى أقوال المسؤولين الأميركيين أنفسهم.

كمثال الخطبة المهمة التي ألقاها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في يوليو، وحث فيها الشعب الصيني «بتغيير توجه  الحزب الشيوعي الصيني» في الحكم.

العقلية الأيديولوجية جوهر السياسة الصينية 

الملفت في هذا كله، أن الأبحاث في الرأي العام الشعبي وعلى مدى عقدين تظهر بأن الحزب في الواقع يتمتع بشرعية شعبية واسعة وثابتة، وأن القراءة القلقة للوضع الأيديولوجي مصدرها النخب الحاكمة نفسها.

يدل هذا على أهمية الانتباه للعقلية الأيديولوجية للحزب لفهم ما يحدث على الساحة السياسية الصينية، حيث أن الانغلاق الذي نراه على مدى السنوات الأخيرة مصدره -بشكل جلي وواضح- قراءة متراكمة داخل الحزب لمنابع التهديد الوجودي ضده.

وتشكل هذه العقلية الأيديولوجية حجرًا أساسيًا لفهم تدهور العلاقات الأميركية-الصينية، ولو جزئيًا؛ علاقاتٌ تحكمها ديناميكيات أيديولوجية من الطرفين، وإن اختلفت جوهريًا عن تلك التي وُجدت أثناء ذروة الحرب الباردة. فالمنافسة بين الطرفين ليست مسألة موازين قوى فحسب، بل تتضمن أيضًا الأمن السياسي والأيديولوجي لأحدهما وضد طرف آخر يصور على أنه مصدر تهديد.

فإذا ما رغبنا أن نفهم ما يحدث في الصين داخليًا وفي علاقتها مع الخارج، يلزمنا أخذ الأيديولوجيا بمزيدٍ من الجدية: هذا على الأقل، ما يقوله الحزب في أدبياته وما ينعكس في تصرفاته وسياساته التي تصبو نحو مكافحة خطر التطور السلمي والثورة الملونة. 

أميركاالديمقراطيةالشيوعيةالصينالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية