التعقيد الاقتصادي وفضاء المنتجات
في هذا المقال يناقش الكاتب موقع المملكة في فضاء المنتجات وهيكل اقتصادها في نظر أطلس التعقيد الاقتصادي، و ملامح الأفق من حيث المنتجات التي من المتوقع...
في مثال الورد والأغذية الطازجة الذي ذكرناه في المقال السابق، تطرّقنا لتحليل صادرات الدول التي تصدّر الورد وغالبا ما تصدر الأغذية الطازجة أيضًا، وانتبهنا للعلاقة بين المنتجين من حيث المقدرات. نستطيع الآن أن نقول أن منتج الورد قريبٌ من منتج الأغذية الطازجة استنادًا إلى سلوكهما في صادرات العالم.
هذا يعني أن المنتجات تتفاوت في قربها وبُعدها عن بعضها البعض حسب المقدرات التي تتشاركها فيما بينها. السؤال الذي يطرح نفسه، هل نستطيع تصوّر شكلٍ تخيليٍ لقرب أو بعد جميع منتجات العالم عن بعضها البعض؟ هل يمكن معرفة العلاقة بين إطارات السيارات والأحذية، وبين العدسات والشموع، والأواني الزجاجية والسماعات وكافة منتجات العالم؟
لحسن الحظ، قام مركز التنمية الدولي بهذه المهمة العظيمة، إذ شكّل خارطة تفاعلية توضح علاقة جميع منتجات العالم ببعضها البعض، وأطلقوا عليها لقب «فضاء المنتجات».
ولكن، ما المميز في هذه الدوائر المبعثرة؟
يمكن أن نقول أن هذه الخارطة المدهشة هي أهم أجزاء مشروع الأطلس، بل أنها واحدة من أعظم المنتجات الاقتصادية في العصر الحديث. سنفصّل في استكشاف الخارطة وأسرارها. ولكني في البداية أرجو منكم مشاهدة هذا المقطع المختصر لأخذ فكرة عامة:
فلنأخذ منتجات المنسوجات على سبيل المثال، وهي المنطقة الملوّنة بالأخضر.
ومن أمثلة المنتجات هنا: القمصان والتيشيرتات والجوارب والملابس الرياضية والفساتين والملابس الداخلية إلى آخره. لو أن دولة معينة تصنع كل منتجات المنسوجات باستثناء التيشيرتات مثلًا، يصير تصنيع التيشيرتات أمرًا شبه حتمي في المستقبل القريب لأن القطاع متكامل من جميع النواحي المالية والمعرفية والقانونية. تتوفر كافة الصَّنْعات من فهم أنواع الأقمشة وتصميمها وقصها وحياكتها وتغليفها، ولا يتبقى سوى حركة بسيطة من مستثمر ورجال أعمال يستقطبون خبرات متميزة من نفس السوق لفتح مصنع تيشيرتات، لتبدأ المصانع المنافسة بعدها بالتشكل.
هنا بالتحديد يتضح جليًا جمال خارطة فضاء المنتجات، إذ نجحت في تصوير العلاقة الفعلية بين المنتجات الموجودة في هذا العالم والمقدرات اللازمة لها، وذلك بتطبيق خوارزميات أنيقة على صادرات العالم مباشرة.
أعددت أيضًا هذا المقطع لشرح بعض الأساسيات المهم معرفتُها قبل استخدام موقع أطلس التعقيد الاقتصادي:
قصة تايلاند وفضاء المنتجات
خلال العقود الماضية حققت تايلاند نجاحًا مدهشًا في تطورها الاقتصادي حوّلها من دولة فقيرة إلى دولة ذات اقتصاد مرتفع خلال جيل واحد فقط. نما اقتصاد تايلاند بمعدل 7.5% سنويًا من الستينات وحتى التسعينات وهو نمو هائل، واستمر ارتفاع معدل النمو نحو 5% من التسعينات وحتى اليوم. فلنشاهد هذه القصة في فضاء المنتجات.
اقتصر اقتصاد تايلاند في 1963 على تصدير الغذاء والمشروبات المتسّمة بتفرّقها وبُعدها في فضاء المنتجات (منتجات عالية التواجد) وصادرات بقيمة 473 مليون دولار فقط، تعادل قيمتها ربع إيرادات شركة بوينق في ذلك العام.
ولكن في العام 1973 بدأت تايلاند خطواتها الأولى في التصدير في قطاع المنسوجات وهو قطاع مترابط جدًا حيث المنتجات قريبة من بعضها البعض. وحسب تنبؤ خارطة فضاء المنتجات، يفترض أن تتمكن تايلاند من تصدير معظم منتجاتها في المستقبل القريب. كما ارتفعت قيمة الصادرات إلى ثلاث أضعاف عن العقد الماضي لتصل إلى 1.53 مليار دولار.
أما في عام 1983، يتضح انتشار تصدير المنسوجات بشكل كبير بالفعل، وكذلك بداية دخول قطاع الإلكترونيات، القطاع أكثر تعقيدًا من المنسوجات. ارتفعت قيمة الصادرات إلى خمس أضعاف عن العقد الماضي لتصل إلى 8.24 مليار دولار.
في العام 1993، يمكن ملاحظة انتشار تصدير منتجات إلكترونية متعددة داخل قطاع الإلكترونيات. ارتفعت الصادرات بستّ أضعاف تقريبًا عن العقد الماضي لتصل إلى 47.7 مليار دولار. وتجاوزت صادراتها من الأحذية فقط صادراتها كاملة لعام 1963. أما صادراتها من منتج واحد من الإلكترونيات فقد تجاوز كافة صادراتها في 1973.
وتظهر هنا صادرات تايلاند في 2018 وقد انتشرت في فضاء المنتجات لتبلغ قيمتها 336 مليار دولار، وتتجاوز صادراتها من الدوائر الإلكترونية فحسب كافة صادراتها لعام 1983.
هذه قصة نمو ناجحة في المراكز الحيوية لفضاء المنتجات وامتلاك المقدرات في تصنيع وتصدير منتجات عالية التنوع والتعقيد. ولا زالت تايلاند في نمو مستمر، وقصتها لم تنته بعد.
ما هي المجتمعات؟
تتميز منطقة المنسوجات كما ذكرنا بارتباط منتجاتها فيما بينها. حين ترتبط مجموعة من المنتجات ببعضها البعض، تسمى هذه المنطقة الخاصة «مجتمع» Community. تمكن فريق الأطلس من رصد 34 مجتمعًا مختلفًا في فضاء المنتجات. وبعد تحليلها بواسطة خوارزميات علم الشبكات، توصّلوا لهذا الرسم البياني:
يشير الخط الأفقي إلى معدل ترابط المجتمع بباقي المجتمعات الأخرى. أما الخط العمودي، فيشير إلى معدل تعقيد المنتجات التي يحتويها المجتمع. للتذكير، يصير المنتج معقدًا إذا كان تصديره مقتصرا على دول قليلة ذات تنوع عالٍ في صادراتها.
نستطيع ملاحظة علاقة واضحة بين معدل ترابط المجتمع بباقي المجتمعات ومعدل تعقيد هذا المجتمع. بمعنى أن المجتمعات التي تفتقر للترابط فيما بينها وبين المجتمعات الأخرى مثل النفط ومنتجات الغابة، تكون ذات منتجات بسيطة وغير معقدة. أما المكائن والآلات فمترابطة جدًا بباقي المجتمعات وتتسم بأنها منتجات معقدة جدًا كذلك.
من الأشياء اللافتة للنظر امتلاك كل مجتمعٍ مستوى متقاربًا من التعقيد في منتجاته الداخلية. بمعنى آخر، من النادر أن يحتوي المجتمع الواحد على منتجات معقدة جدًا وبسيطة جدًا في نفس الوقت. في الغالب إما أن تكون منتجاته بسيطة أو متوسطة أو معقدة.
على الرغم من شدة تعقيد منتجات الإلكترونيات وصناعة الطائرات إلا أن ارتباطها بالمجتمعات الأخرى ليس كبيرًا كما هو الحال مع الآلات، مما يشير إلى أنها تتطلب مقدرات خاصة في مجتمعها غير متصلة بمقدرات المجتمعات المجاورة لها على نحو كبير.
يجب أن يكون مفهوم المجتمعات وتعقيدها وارتباطها بالمجتمعات الأخرى عاملًا أساسيًا في استراتيجيات التصنيع للدول النامية والصاعدة، فقد يكون سببًا في فتح فرص ذات قيمة عالية في النمو وتنويع الصادرات، وفي نفس الوقت سببًا في تفادي استثمارات ذات مخاطر عالية ومردود منخفض على المدى البعيد.
موقع النفط الخام
نلاحظ في الصورة أن النفط الخام -كما ذكرنا في المقال السابق– منتج معزول عن منتجات العالم. لا يرتبط مباشرة إلا بمنتج آخر وهو الأمونيا، والمسافة بينهما كبيرة. ولأن النفط وما حوله من منتجات يقع في أطراف فضاء المنتجات فهذا يعني أن المقدرات التي يكتسبها المجتمع من استخراجه لا تتشارك مع أي مقدرات أخرى، وبالتالي يعجز المجتمع عن التوسع نحو امتلاك مقدرات أخرى لتصدير منتجات جديدة ويبقى عالقًا في دائرة ضيقة.
شكلت منتجات النفط والغاز 70% من صادرات المملكة للعام 1995. وبعد 22 سنة في العام 2017 لا زالت النسبة هي ذاتها. لهذا كان تنويع مصادر الدخل هدفًا أساسيًا في رؤية 2030. لينبثق سؤال ملحّ، ما مدى اتساع الأفق في هذا التنويع؟
مؤشر الأفق
يمكننا الأطلس من مشاهدة آفاق الدول في امتلاك المقدرات الجديدة، وذلك في علاقتها بمقدراتها ومنتجاتها الحالية. يُحسَب «الأفق» بناء على المسافة بين المنتجات التي تصدرها الدولة والمنتجات التي لا تصدرها مضافًا له تعقيد المنتجات التي لا تصدرها الدولة. والناتج هو الخط العمودي في هذا الرسم.
نلاحظ في الرسم البياني أن أفق الدول ذات التعقيد الاقتصادي المنخفض ضيق، وكذلك الحال بالنسبة للدول ذات التعقيد الاقتصادي العالي حيث تواجه هي الأخرى آفاقًا محدودة. وحدها الدول ذات التعقيد المتوسط تملك آفاقًا واسعة، لماذا؟
إذا كانت الدولة ذات تعقيد اقتصادي منخفض مثل السودان، فهذا يعني أنها تصدر منتجات في أطراف الفضاء، منتجات معزولة غير مترابطة مع منتجات أخرى. لهذا السبب تواجه مقدرات الدولة صعوبة شديدة في التوسع نحو منتجات جديدة. شكّلت المواشي 10% من صادرات السودان عام 2016. لا يمكن تطوير المقدرات من هذا المنتج، ولهذا فالآفاق لديها ضيقة.
وفي الناحية الأخرى، تواجه الدول ذات التعقيد الاقتصادي المرتفع جدًا، كاليابان وألمانيا والسويد، آفاقًا ضيقة وذلك لأنها تمكنت من تصدير معظم المنتجات المعقدة في العالم، وليس أمامها سوى ابتكار منتجات جديدة غير مسبوقة.
الدول ذات التعقيد الاقتصادي المتوسط هي الأكثر حظًا من حيث الفرص والآفاق، لأنها على مقربة من منتجات عديدة لم تصدرها بعد، ولأن غالب المنتجات القريبة أكثر تعقيدًا من منتجاتها الحالية.
تتواجد المملكة في موقع مثالي. أي نمو بسيط في التعقيد الاقتصادي يعني نموًّا مطردًا في أفق التعقيد الاقتصادي، وذلك لأنها على مقربة شديدة من العديد من المنتجات المعقدة التي يسهل على السعودية اكتساب المقدرات اللازمة لتصديرها.
موقع المملكة في فضاء المنتجات
نستعرض هنا في أهم جزء من هذا المقال آخر تحديث للأطلس والذي شمل بيانات 2018 (تم تحديثه قبل أسبوع من نشر هذا المقال).
تعتبر السعودية من الدول ذات الدخل المرتفع، حيث تصنف في المركز الثلاثين في قائمة أغنى دول العالم دخلاً للفرد من بين 133 دولة تم حصرها. أما من حيث التعقيد الاقتصادي، فتصنف السعودية في المركز السادس والثلاثين لأكثر دول العالم تعقيدًا. وإذا قارنا ذلك بموقعها قبل عقد من الزمان، فقد تقدمت بواقع 71 مرتبة، وهو تقدم هائل نتج عن تنويع الصادرات وامتلاك مقدرات أكثر تعقيدًا.
نظرًا للدخل المرتفع الناتج عن الصادرات النفطية في تاريخ المملكة، لا يتوقع أن ينتج انعكاس تنويع الصادرات نموًا كبيرًا في دخل الاقتصاد، ولكنه يأتي بمنافع متعددة أهمها منح اقتصاد السعودية رصانة واتزانًا أمام متغيرات الأسواق القوية، ومستقبلاً أكثر استدامة، وتحسنًا في هيكلة الاقتصاد الداخلي، وتطورًا في المؤشرات الداخلية الأخرى، بالإضافة إلى نمو جيد في الدخل بلا شك.
يتوقع الأطلس أن تحقق المملكة نموًا بمتوسط 2.46% وهو نمو بطيء نسبيًا قد يؤخِّر المملكة مراتب في التعقيد الاقتصادي. لكن ما يلزم إدراكه هو أن هذا التوقع مبني على تاريخ صادرات المملكة فقط، ولا يضع في الاعتبار خطط المملكة في تنويع صادراتها وبرامج رؤية 2030 التي تستهدف تطوير الصناعات، وهو ما يجعل النسبة متحفظة ومبنية على الأداء التاريخي والمقدرات الحالية فقط.
تنوع صادرات المملكة للعام 2018:
شكل النفط ومشتقاته الحصة الأكبر من صادرات المملكة بواقع 68% تقريبًا، تليه الكيماويات بحصة 18%، ثم الخدمات بحصة 7.8%. وتشكل كافة الصادرات الأخرى 6% تقريبًا فقط.
يعدّ قطاع الكيماويات العامل الأكبر في رفع التعقيد الاقتصادي للسعودية حاليًا، حيث أنه مجتمع مرتفع التعقيد بمنتجات معقدة تتطلب مقدرات عالية لإنتاجها وتصديرها.
إجمالاً، تعتبر هذه التركيبة غير متناسقة مقارنة بالدول المتقدمة والتي تتميز بتنوع عالٍ في الصادرات، فهذه صادرات النمسا على سبيل المثال:
يعتقد الكثير أن النمسا تعتمد بشكل أساسي على السياحة والسفر، بينما هي دولة صناعية بالدرجة الأولى كما نلاحظ. وقع الاختيار على النمسا لأن صادراتها عام 2018 ضاهت قيمة صادرات السعودية تقريبًا. إلا أن تنوع صادرات النمسا مرتفع وتعقيد منتجاتها مرتفع أيضًا، رغم صعوبة تضاريسها وندرة معادنها وأحجارها وافتقادها للموانئ البحرية، وكذلك عدد سكانها الذي لا يمثل إلا ربع عدد سكان السعودية.
الرسم أدناه يبين مستوى تعقيد المنتجات في صادرات السعودية:
كلما اتجه اللون للأخضر، كان المنتج أكثر تعقيدًا. ولغرض المقارنة فلنشاهد تعقيد صادرات النمسا:
تشهد بعض المنتجات المعقدة نموًا في صادرات المملكة على مدى الخمس سنوات الماضية وأهمها اللدائن (البلاستيك) والآلات الصناعية والحديد والصلب والألمنيوم والمطاط؛ وهي منتجات متناسقة مع بيانات هيئة الإحصاء. يوضحها الرسم أدناه، علمًا أن اتساع حجم الدائرة يعني ارتفاع حصة المنتج من صادرات المملكة:
الركن أعلى اليمين هو الركن الذهبي للنمو الصحي للدول. ينبغي أن تكون المنتجات فيه هي المستهدف الأساسي في صادرات الدولة. فلنشاهد الرسم الخاص بالنمسا من باب المقارنة:
إذا أزلنا المنتجات النفطية من المعادلة، فإن المنتجات الكيميائية هي ما شهد نموًا ملحوظًا في الحصة السوقية لصادرات المملكة غير النفطية من التجارة العالمية، بقراءة تبدأ من نهاية التسعينات وحتى اليوم، وهو تقدم ممتاز في قطاع يتميز بتعقيده المرتفع وتنوع منتجاته وارتباطها بمجتمعات أخرى. يتضح النمو في هذا الرسم:
ورغم أن هذا التقدم يعد إنجازًا كبيرًا، إلا أن التحدي يكمن في خلق نمو في صادرات القطاعات الأخرى التي ظلت تتذبذب في مكانها دون تصاعد ملحوظ.
صادرات جديدة
أضافت السعودية 17 منتجًا جديدًا إلى حزمة صادراتها بين العامين 2003 و 2018، و يعد هذا نموًا منخفضًا جدًا في تنويع الصادرات مقارنة بالأفق الواسع للمملكة، حيث لم تسهم المنتجات الجديدة إلا بـ 4.82 مليار دولار في صادرات 2018. تكمن المشكلة الأخرى في أن معظم هذه المنتجات ذات تعقيد منخفض كما يوضحها الرسم أدناه.
وللمقارنة أضافت فيتنام خلال نفس الفترة 48 منتجًا عالي التعقيد أسهمت في إيرادات 2018 بـ 97 مليار دولار.
من المهم أن تكون هذه الأسئلة من المستهدفات الأساسية في برامجنا التنموية ورؤية المملكة في التصنيع والتصدير: ما هو عدد المنتجات الجديدة المستهدفة؟ وما مستوى تعقيدها؟ وما هو العائد المستهدف من كل منتج؟ وما هي السبل لتهيئة البنية التحتية لتصدير هذه المنتجات؟
خارطة فضاء المنتجات
كما ذكرنا، لا تظهر خارطة فضاء المنتجات إلا المنتجات ذات الأفضلية التنافسية، فلا تظهر كافة المنتجات التي تصدرها المملكة في فضاء المنتجات. بمعنى آخر، يشكل النفط نسبة كبيرة من صادرات المملكة، مما يحجب اللون عن باقي المنتجات التي تصدرها المملكة.
عند مراسلة فريق الأطلس لحل هذا الإشكال، تمكنت من الحصول على فضاء المنتجات للمملكة منزوعًا منه تأثير النفط والموارد الطبيعية، لتصير الخارطة كالتالي:
حسب قراءة الأطلس، تتميز المملكة -إذا حذفنا النفط من المعادلة- بوجود تعقيد في منتجاتها، إلا أن الترابط منخفض بين هذه المنتجات. ولجعل هيكل الصادرات أكثر تماسكًا فأول الأهداف التي يجب السعي نحوها تصدير المنتجات المجاورة للمنتجات الأكثر تعقيدًا، بالإضافة إلى استهداف مجتمعات ذات ترابط مرتفع أكثر من المجتمعات الأخرى. ولكن كيف نعرف هذه المنتجات؟
المنتجات الأكثر إلحاحًا للتصدير
نصل لأهم أجزاء المقال وهي المنتجات التي يقترحها الأطلس بناء على تعقيد المنتجات المقترحة وارتباطها بمقدرات المملكة الحالية والقيمة التي تعود بها على اقتصاد المملكة.
فلنشاهد أهم 10 منتجات مقترحة:
تشمل القائمة الكاملة 50 منتجًا، تتنوع بشكل أساسي بين القطاعات الكيميائية والصناعية والإلكترونية. لا يحقق النجاح في تصدير هذه المنتجات تنويعًا في مصادر الدخل وحسب، بل يضمن تجانس التنويع مع المقدرات الحالية، ويعود بأعلى نفع ممكن وأقل مخاطرة ممكنة، ويضمن بأن هذا التنويع يهيئ لأرض خصبة تسهم بمزيد من التنويع مستقبلاً.
كيف نستفيد من الأطلس؟
من الصعب تقنين مؤشر التعقيد الاقتصادي في قائمة جاهزة من القرارات. لكننا نستخلص أهدافًا عامة من أبحاث الأطلس:
التصدير هو الهدف الأساسي لا التجارة الداخلية والبيع محليًا.
تصدير البضائع هو الهدف الأساسي لا الخدمات. هذا هو منهج جميع الدول المتقدمة والصاعدة أثناء نموها. الخدمات تأتي لاحقًا وبصورة تلقائية.
فليكن رفع ترتيب مؤشر التعقيد الاقتصادي مستهدفًا أساسيًا في خططنا التنموية.
التركيز على تصدير المنتجات القريبة من مقدراتنا الحالية. أطلس التعقيد الاقتصادي ومن خلال خرائطه وأبحاثه يمنح القدرة على تحديد هذه المنتجات، ورؤية الفرص والعوائد الممكنة لها.
استهداف المجتمعات المعقدة والحيوية في فضاء المنتجات وذات الارتباط المرتفع بالمجتمعات الأخرى: الآلات والمكائن ومواد وأدوات البناء والبتروكيماويات والمواد الكيميائية والإلكترونيات، من المجتمعات عالية التعقيد. أما النفط والتعدين والملبوسات والنسيج والزراعة، فهي ذات تعقيد ضعيف أو أقل من المتوسط.
حتى يكون تنويع مصادر الدخل ناجحًا ومستدامًا يجب أن يكون مرسومًا بخطة تجعله مستقلاً عن الدعم الحكومي على المدى البعيد، سواء الدعم المباشر أو غير المباشر. وهي موازنة ليست سهلة.
من المهم الإشارة إلى أن الخارطة لا تفيد صناع القرار في الدول فقط، بل تقدم قيمة كبيرة للشركات كذلك، سواء التي تبحث عن فرص التوسع في دول أخرى، أو تسعى للتنوع في منتجات أخرى داخل البلد نفسه. كما أن الخارطة لا توضح للناس إلى أين يتجهون، ولكنها تساعدهم على تحديد وجهتهم ورسم الطريق لهذه الوجهة.
مشكلة المؤشرات الشائعة
خلال السنوات الماضية ازداد استخدام المقاييس التي تصنف الدول و الشركات و المدن وغيرها بواسطة عدد كبير من المؤشرات. فهنالك مؤشر التنمية البشرية من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهنالك Freedom’s Index من Freedom House، ومقياس Doing Business من البنك الدولي، ومؤشر التنافسية وغيرها الكثير.
قد تفيد هذه المؤشرات تطور الدول أو المدن نحو نتائج أفضل من خلال مقارنة أدائها الحالي مع أفضل من حققوا النتائج، وبالتالي تحفز التعلم من خلال المحاكاة والتجريب لتحقيق النتائج المرجوة في المجالات التي يحددها كل مؤشر. إلا أن بعض المؤشرات تخلط بين النتائج والظروف.
فهل تقدَّم المجتمع لأن التعليم تحسن أم أن التعليم تحسن لأن المجتمع تقدم؟ هل انخفض الفساد لأن الوعي ازداد أم أن الوعي ازداد لأن الفساد قل. فنجد أنفسنا أمام معضلة البيضة والدجاجة كلّما تعلق الأمر بجوانب متداخلة بين بعضها البعض في نسيج المجتمع فتصير مهمة استخلاصها على شكل مؤشرات أمرًا صعبًا.
أنواع المؤشرات
من المهم هنا أن نفرق بين وظيفتين جوهريتين لأي مؤشر: قد يكون المؤشر أداة قياس، وقد يكون أداة توجيه لاتخاذ فعل. عندما يكون المؤشر أداةً للقياس، من المهم أن نتساءل عما إذا كان المؤشر قادرًا على التعبير عن المعلومة المطلوبة بشكل صحيح أم لا، سواء كانت المعلومة عن الحرية أو التنمية البشرية أو بيئة العمل أو الحوكمة أو جودة التعليم أو -في حالتنا- المعرفة المنتجة.
أما عندما يكون المؤشر أداة توجيه لاتخاذ فعل، فيكون السؤال عما إذا كان تعامل الحكومة سيؤدي فعلًا إلى نتائج أفضل في هذا المؤشر أم لا. تتفاوت الأدوات في هذا النوع من المؤشرات في وضوح الخطة التي ترسمها. فمؤشر Doing Business من البنك الدولي مثلاً يضع متطلبات قانونية لتحسين الآليات مثل نظام فتح وإغلاق الشركات أو منح الرخص. اتخاذ الفعل هنا واضح، غيّر القانون بحيث يتحسن المؤشر لديك.
أما في الجهة الأخرى، عندما يتعلق الأمر بتطوير القانون أو جودة التعليم أو المساواة بين الجنسين أو السيطرة على الفساد أو التنافسية، فالخطط غير واضحة. ليس معروفًا أي الأفعال التي يمكن اتخاذها قادر على تحسين الأداء. وهي مشكلة عامة في كثير من المناطق التي تجمع فيها بين الفعل والأداء علاقةٌ معقدة.
ولتحسين جودة التعليم، هل يجب على المدارس تصغير قاعات الدراسة؟ تحسين تدريب المعلمين؟ الاهتمام أكثر بتغذية الطلاب؟ وضع اختبارات عالمية لتطوير التعليم؟ لتحسين القانون هل يتوجب على الدول الاستثمار أكثر في قطاع الأمن في المدن؟ تجديد النظام القضائي؟ الرفع من حرية الصحافة؟ إعادة النظر في قوانين امتلاك الأسلحة؟
ختامًا
ما تفعله المجتمعات هو محاولة محاكاة بعض الخصائص التي تتواجد لدى الدول التي تتميز في مؤشرها، وذلك باختيار عدد من العناصر على أمل أن ترفع من المؤشر. فإن عاد بالنفع عليها مستقبلًا كان بها، وإن لم ينجح، تجرب عناصر أخرى وتسنّها كقوانين بغية الوصول إلى غايتها.
في هذا الأطلس، طُرح مقياس التعقيد الاقتصادي ECI بناء على تنوع وتعقيد المنتجات التي تصدرها الدولة بميزة تنافسية. عمليًا، تمتلك الدول ذات الأداء العالي في المقياس نموًا اقتصاديًا عاليًا. هذه القدرة على تصدير منتجات جديدة انعكاسٌ لحقيقة امتلاك الدولة لمعرفة منتجة ستفتح لها آفاقًا أوسع.
لا يوجد وصفة تطبق على جميع الدول لتحسين تعقيدها الاقتصادي، فكل دولة لها سياقها الخاص. قد يؤدي جلب بذور أفضل إلى ثورة زراعية، قد يفتح تطوير البنية التحتية فرصًا هائلة في الصناعات الخفيفة، وقد يقود تحسين حقوق الملكية الفكرية والتشريعات الإنسانية والصحية إلى أبحاث دوائية مميزة.
في نهاية الحديث، أملنا كبير في رؤية 2030 التي جعلت من أركانها الأساسية تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية، وتنويع مصادر الدخل، وزيادات صادرات المملكة غير النفطية. من المفرح وجود تعاون بين مركز التنمية الدولية في هارفارد والمملكة منذ 2016، وعند التواصل معهم لا زال التعاون مستمرًا، على أمل أن يثمر عن هذا التعاون عن نتائج وخطط فعالة.