من صندوق سكينر إلى تحديثات فيسبوك
عمل سكينر على اختراع العديد من الأساليب والتقنيات النفسية للتعلم والتي نقلت علم النفس من أبراج التنظير إلى معامل البحث والتكنولوجيا.
إذا ما أردنا عدّ أهمّ الشخصيات تأثيرًا في تاريخ علم النفس، فلا مناص من إدراج اسم ب. ف. سكينر ضمن هذه القائمة. عمل سكينر على اختراع العديد من الأساليب والتقنيات النفسية للتعلم والتي نقلت علم النفس من أبراج التنظير إلى معامل البحث والتكنولوجيا.
سخّر سكينر حياته لفهم سلوك الحيوانات بصفة خاصة: كيف يتشكل هذا السلوك؟ وكيف يمكن تعديله أو تعزيزه أو محوه؟ تكمن عبقرية سكينر الحقيقية في تحويل سؤال السلوك من سؤال أكاديمي بحثي إلى طيف واسع من التطبيقات الواقعية والعملية والتي سنتعرض لبعضٍ منها في هذا المقال.
كلب بافلوف
تبدأ قصة فهم السلوك من العقود الأولى للقرن العشرين حيث أجرى عالم الفسيولوجيا الروسي إيفان بافلوف تجاربه في دراسة الهضم عند الكلاب بعد حصوله على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب عام 1904. حيث لاحظ بافلوف أثناء دراسته للهضم أن الكلاب تبدأ بإفراز اللعاب حينما تسمع خطوات الباحث وهو يلج المعمل لإطعامها.
اعتقد بافلوف أن الكلب يربط حصوله على الطعام بقدوم الباحث ومن هنا يستعد الكلب لهضم الطعام بإفراز اللعاب. حتى يقوم باختبار هذه النظرية، قام بافلوف بتعريض الكلب لمحفّزات معينة مثل تشغيل نغمة أو لمبة أثناء تقديم الطعام وتكرار هذا الربط عدة مرات. وبعد فترات من التدريب، قام بافلوف بتعريض الكلب لهذا المحفز فقط (بدون الحصول على الطعام)، ليختبر كمية اللعاب.
والنتيجة هي أن الكلب أفرز اللعاب كما لو أن الطعام قُدّم له، أي أن الكلب ربط بين هذه المحفزات الاعتباطية (مثل الصوت والأضواء) بالطعام. هذه النتيجة دفعت بافلوف لتطوير نظام كامل لدراسة السلوك عند الكلاب سُمِّيت بالسلوك الاشتراطي (Conditioned Behavior).
حمامة سكينر
على الرغم من التأثير الكبير لأبحاث بافلوف على فهمنا للسلوك، تبقى هذه الأبحاث محدودة بشكل كبير، حيث تكاد تنحصر في فهم السلوك الانفعالي فحسب والذي يتكون كردة فعل على محفز خارجي. بلغة أكثر علمية، يجمع الرابط الذي قام بافلوف بدراسته بين محفز خارجيٍّ والنتيجة التي تتبع هذا المحفز.
كثيرٌ من سلوكياتنا اليومية هي سلوكيات إرادية وليست استجابة للمحفزات الخارجية فحسب
هذه النظرة محدودة بشكل كبير، إذ أن كثيرًا من سلوكياتنا اليومية هي سلوكيات إرادية وليست استجابة فحسب للمحفزات الخارجية. فكيف يمكننا دراسة السلوك الإرادي؟ هنا بالضبط تبرز أهمية سكينر الذي قدم الإطار النظري والتجريبي لدراسة السلوك الإرادي في نظام عرف لاحقًا بالاشراط الإجرائي (Operant Conditioning).
تقوم دراسة السلوك الإجرائي على فكرة استخدام المكافآت والعواقب للربط بينها وبين السلوك الطبيعي التلقائي للحيوان. سيمكننا هذا الربط، فيما لو نجح من زراعة سلوكٍ ما أو محوه بطريقة تلقائية. لنفترض أننا نريد تعليم حمامة ما النقر على زر معين ثلاث مرات متتالية (كمثال على أي سلوك اعتباطي نريد زراعته). وإذ أننا نريد الربط بين سلوك ما ونتيجته دون وجود محفزات خارجية، لن تفيدنا دراسات بافلوف هنا كثيرًا.
صندوق سكينر
أدرك سكينر أن دراسة هذا السؤال تتطلب بيئة خاصة معزولة عن العالم الخارجي حتى تُعزَل كل المؤثرات الخارجية. لأجل هذا الغرض، ابتكر سكينر ما سمي لاحقًا بصندوق سكينر (Skinner Box) وهو صندوق مغلق يحتوي على لمبات أو مكبرات صوت، إضافة إلى عدد من الأزرار أو الروافع التي يمكن الضغط عليها.
كما يحتوي على حاوية صغيرة لاستقبال الطعام أو على شبكة حديدية لتوصيل النبضات الكهربائية. فلكي نقوم بتعليم الحمامة على نقر الزر ثلاث مرات، نضع أولًا الحمامة داخل الصندوق ونراقبها بشكل مستمر.
في البداية ستتصرف الحمامة بشكل عشوائي لاكتشاف الصندوق وذلك بالنقر على كل مكان. وحالما تنقر الحمامة على الزر الهدف، نقوم بتقديم كمية محددة من الطعام كنوع من المكافأة. بعد ذلك نقوم بتقديم المكافأة كلما تنقر مرتين متتاليتين وهكذا حتى نصل إلى السلوك المستهدف.
في نظام الإشراط الإجرائي، بدلًا من ربط علامات خارجية اعتباطية (مثل الصوت أو الضوء) بالطعام، نقوم بربط تصرفات مرغوبة بمكافأة معيّنة حتى نعزّز هذه التصرفات.
مشروع الحمامة
لم يتوقف سكينر عند اقتراح النظريات وكتابة الأوراق العلمية عن سلوك الحيوانات بل قرر نقل هذا الحقل من جموده الأكاديمي إلى الحياة العملية خارج أسوار الأكاديميا. وكانت إحدى أبرز تلك المحاولات الفريدة ما يُعرف اليوم بمشروع الحمامة Pidgen Project والذي حظي بدعم سخيٍّ من الجيش الأميركي رغم معارضة الكثير من صناع القرار هناك.
ففي مطلع الأربعينيات و في الوقت الذي لم يكن فيه توجيه القنابل بدقّة أمرًا ممكنًا، بدأ سكينر مع اثنين من طلابه، كيلير وماريان بريلاند، في تدريب الحمام لاستخدامه لاحقًا لتوجيه القنابل بذكاء بُغيَة إصابة الهدف بدقة متناهية.
قام سكينر بتدريب الحمام مستخدمًا تقنية الإشراط الإجرائي (Operant Conditioning) الموصوفة أعلاه. في مشروع الحمام، يحصل الطائر على مكافأة في كل مرة يقوم فيها بالنقر على نافذة صغيرة تعرض أهدافًا محددة.
بعد ذلك، صمم سكينر رؤوس الصواريخ والتي تحتوي ثلاث نوافذ تطلّ الحمامة من خلالها وتنقُر على النافذة بحسب مكان الهدف. كل ما تبقى استخدام قطعة معدنية على منقار الحمام لتتبع مكان النقرات وتوجيه الصواريخ للهدف المقصود.
نشأة شركة ABE
على الرغم من النجاح الكبير للتجارب الأولية في توجيه الصواريخ لم يكن ذاك كافيًا لمواصلة دعم المشروع إذ تم إلغاؤه في أكتوبر 1944 لصالح مشاريع أخرى أكثر أهمية ذلك الوقت، مثل مشروع مانهاتن لتطوير القنبلة النووية.
يبقى المشروع علامة فارقة لقوة تقنية الإشراط الإجرائي التي اخترعها سكينر في تعديل وتوظيف سلوك الحيوانات، مما دفع بالطالبين اللذين عملا معه على المشروع لقطع دراساتهما العليا وتأسيس شركتهما الخاصة لتدريب الحيوانات تحت مسمى Animal Behavior Enterprise أو ABE.
ABE والجيش الأميركي
وكانت أحد أهم مشاريع ABE مع الجيش الأميركي تدريب الطيور على مختلف المهمات التي يصعب على الأفراد القيام بها مثل الجاسوسية أو التعرف على القناصين أو تحديد موقع جثث الطيارين الغرقى.
ففي مشروع الغربان المتجسسة، درّبت الغربان على حمل كاميرا فوتوغرافية صغيرة جدًا نحو نافذة ما يسكن فيها العدو المستهدف (ويتم تحديدها باستخدام أشعة الليزر) ليقوم الغراب بعد ذلك بالنقر على النافذة وتقوم الكاميرا تلقائيًا بالتقاط الصورة.
في مشروع آخر، تم تدريب الحمام على التعرف على القناصين بين أغصان الشجر لاستخدامها أثناء حرب فيتنام الشهيرة. حيث تحلق هذه الحمامات وتبث موجات راديو لمركبة مجاورة، وما إن ترى أحد القناصين المختبئين بين أغصان الشجر حتى تتوقف عن الطيران ليعرف الجنود داخل المركبة أن هذه المنطقة تحتوي على قناصين.
وتعاونت ABE مع الجيش الأميركي على مشروع ثالث لاستخدام الطيور لمسح سطح البحر وتحديد موقع جثث الطيارين الغرقى في مختلف الأحوال الجوية. تحمل الطيور خاتمًا خشبيًا وحينما تجد إحدى الجثث، تعود بهذا الخاتم بوضعية معينة تدل على أنها وجدت جثة أثناء رحلة البحث. وليست هذه المشاريع الثلاث سوى عينة بسيطة.
مشروع حديقة حيوان IQ
في عام 1955 وبعد أعوام مضنية في تدريب الحيوانات، افتتحت الشركة حديقة الذكاء (IQ Zoo) في مدينة هوت سبرنقس بولاية أركانساس. في حديقة الذكاء ترى العجب العجاب. حيث ترى الدجاج يمشي على الحبال ويعطي الهدايا التذكارية للزوار ويرقص على الموسيقى ويلعب البيسبول.
أما الأرانب فتلتقط الصور الفوتوغرافية وتقبّل الزوار، وتقود الشاحنات وتدوّر عجلات الحظ. وعلى الجانب الآخر من الحديقة، يعزف البط على البيانو ويضرب الطبول بينما تتبادل حيوانات الراكون كرة السلة فيما بينها. وما هذا إلا غيض من فيض.
استطاعت شركة ABE تدريب أكثر من 150 صنفًا من الحيوانات باستخدام تقنيات سكينر وخدمة عدد واسع من العملاء ابتداءً من سوق الترفيه والسيرك إلى الجيش الأميركي.
التصميم السلوكي
لا يقتصر دور نظريات سكينر على كتب علم النفس والتعلم فحسب بل يمتد أثرها حتى اليوم. ولكي يشرح دور المكافآت والعواقب في تشكيل السلوك، قام سكينر بتصميم الصندوق الخاص بزراعة سلوكيات جديدة من الصفر. والذي عرف لاحقًا بصندوق سكينر.
دفعت هذه الملاحظة إلى ولادة مجال جديد لدراسة السلوك البشري والتحكم فيه هو علم التصميم السلوكي (Behavioral Design). لن تجد الكثير حول هذا العلم داخل أسوار الأكاديميا بل في كبريات الشركات التقنية والترفيهية مثل فيسبوك وشركات ألعاب الفيديو إضافة إلى شركات القمار.
تقوم هذه الشركات باستثمار مبالغ ضخمة لتوظيف مبادئ التصميم السلوكي في تشكيل سلوك المستهلك عبر إضافة الميزات أو تنويع طريقة توزيع المكافآت بما يضمن أطول استخدام ممكن. فعلى سبيل المثال، لاحظ سكينر أن إعطاء المكافأة في كل مرة يقوم فيها الحيوان بالنقر على الزر الهدف سيؤدي إلى تشبع الحيوان والتوقف عن النقر.
وحتى يقوم بتحويل سلوك النقر على الزر إلى عادة عمياء، اكتشف سكينر أن إعطاء المكافأة بين الفينة والأخرى (وليس كل مرة) يحوّل سلوك النقر على الزر من سلوك مرتبط بهدف المكافأة إلى سلوك شبه إدماني. هذه الملاحظة هي المبدأ الذي تعمل آلات القمار عليه (Slot Machines) حيث أن هذه الآلات مصممة بطريقة تجعل اللاعب يربح بين الفينة والأخرى حتى يقوم باللعب لأطول فترة ممكنة.
برمجة السلوك الإنساني
ولكن شركات القمار ليست وحدها من التقط الإشارة، فأزرار الإعجاب مصممة لهذا الغرض تمامًا. في كل مرة تقوم فيها بولوج مواقع التواصل ستفاجأ بكمية الإعجابات أو التعليقات على تغريداتك وهذا السلوك يدفعك إلى بذل المزيد من الوقت والجهد للتفاعل بشكل يزيد من مرات الإعجاب.
لتأخذ مثالًا آخر من واقع ألعاب الفيديو، تركز هذه الألعاب على تصميم المكافآت بشكل يجعلك تقضي أطول فترة ممكنة في اللعب. وعلى الرغم من أن تصميم المكافآت تجاوز فكرة التوزيع شبه العشوائي لها إلا أن أساس الفكرة ما زال قائمًا: وهو تشكيل سلوك اللاعب نحو السلوك المرغوب عبر التحكم بنوع وحجم المكافآة التي يستلمها. فالكثير من ألعاب الفيديو تحتوي على مكافآت ذهبية وأخرى فضية أو ميداليات للكثير من المنجزات العشوائية مثل الوصول إلى مستوى معين وهكذا. كلما زاد جهد اللاعب في تجميع المكافآت، زاد الوقت الذي يقضيه في اللعبة.
استخدمت تقنيات الإشراط الإجرائي سابقًا في تدريب الحيوانات لأغراض ترفيهية، وتستخدم حاليًا في برمجة سلوك مستخدمي الانترنت سواء كانوا في ألعاب الفيديو المشتركة (والتي يقضي فيها اللاعبون الساعات الطوال) أو في تصفح الشبكات الاجتماعية أو التسوق عبر الإنترنت أو حتى ألعاب الحظ.وكلما زادت كمية البيانات التي تجمعها شركات الإنترنت الكبرى، زادت الوسائل التي تستطيع بها تعديل سلوكياتنا الإرادية -دون أن ندرك كل ذلك- هذا كله، بفضل تقنيات الإشراط الإجرائي التي اخترعها ب. ف. سكينر.