جاك السفاح: رسالة أشهر القتلة المتسلسلين إلى الشرطة
الاسم ذاته التي اخترعه كاتب الرسالة، "جاك السفاح"، خُلّد في التاريخ. كُتبت عن جرائمه ألوف الكتب، التاريخية والخيالية والمؤامراتية، رغم بشاعة الجرائم.
في عام 1888 لم تكن جرائم القتل في مقاطعة وايتشابل (Whitechapel) اللندنية شيئًا غريبًا. باعتبارها المقاطعة الأفقر في العاصمة الإنقليزية، كانت الجرائم أمرًا شائعًا اعتاد عليه السكّان. خصوصًا أن معظم الضحايا، سواءً كانت الجريمة قتلًا أم اعتداءً جنسيًا، كنّ من بائعات الهوى. وهو ما ساهم في تبلّد ردات الفعل تجاهها، من الشرطة والصحافة وعليّة القوم على حد سواء.
إلا أن سلسلةً جديدةً من الجرائم لفتت أنظار العامة لفرط وحشيتها. إذ لم يكتفي القاتلُ بنحر ضحاياه، بل قام بطعنهن طعناتٍ صغيرةٍ عديدة على مدى أجسادهن. بعد أول ضحيتين اقتنعت الشرطة والصحافة بوجود قاتل متسلسل، قال البعض أنه طبيب لأنه يعرف كيف يقتل بسرعة. بينما أشارت عدّة شهادات إلى رجلٍ يرتدي مريلةً جلدية، فتوعّدت الشرطة بأنها ستقبض على صاحب المريلة الجلدية في أقرب وقت.
ثم في نهاية سبتمبر لذلك العام، وصلت إلى وكالة الصحافة الرسالة التالية بحبرٍ أحمر:
سيدي العزيز
لا أنفكّ أسمع أخبارًا تقول أن الشرطة أمسكتني، بالرغم من أنهم لم يقدروا علي حتى الآن. يُضحكني عندما أسمعهم يتكلمون بتحاذق عن كونهم على الطريق الصحيح. كلامهم عن دليل “المريلة الجلدية” كاد يقتلني من الضحك. لا أزال مستمرًا في سفح العاهرات، ولن أتوقّف حتى يوقفوني. كان أدائي عظيمًا في المهمة الأخيرة، لم أعطي السيدة وقتًا للصراخ.
كيف لهم أن يقبضوا علي الآن؟ أنا أحب عملي وأريد البدء مرّة أخرى. ستسمعوا عني مجددًا، وعن ألعابي الممتعة الصغيرة. كنت قد احتفظت بالسائل الأحمر الحقيقي من المهمة الأخيرة في علبة جعة، إلا أنه تخثّر كالغِراء ولم أستطع استخدامه للكتابة. أتمنى أن يكون الحبر الأحمر بديلًا كافيًا. هههه
في المهمة القادمة أفكّر أن أقطع أذني السيدة وأرسلهما للشرطة لأرى ماذا سيفعلون. لو كنتَ مكاني لفعلت المثل.
احتفظ بهذه الرسالة حتى أنجز المزيد من العمل، ثم انشرها بلا مقدمات. سكيني الحادة تثير فيني رغبة العودة إلى العمل في أقرب فرصة سانحة. أوفر الحظ لكم.
جاك السفّاح، أرجو ألا تمانع استخدامي لاسم المهنة
ملاحظة: لم أكن مرتاحًا لإرسال الرسالة قبل أن يُغسل كل الحبر الأحمر من يدي، لا حظّ حتى الآن. هل تعلم أنهم يقولون أنني طبيب؟ هههه
نعم، كانت هذه الرسالة هي أول مرةٍ يُذكر فيها اسم “جاك السفاح”.
حوّلت الصحافة الرسالة إلى الشرطة، ولم يهتم بها الضبّاط بادئ الأمر لاعتقادهم أنها رسالة مزيفة مثل العديد من الرسائل التي تلقوها. إلا أن سقوط ضحيتين جديدتين في اليوم الأخير لسبتمبر، وكون إحدى الضحيتين قد تشوّهت أذنها، أرغم الشرطة على أخذ الموقف بجدية.
في اليوم التالي للجرائم وصلت للوكالة الصحافية رسالة أخرى تبدو أنها من نفس الكاتب:
لم أكن أمزح، سيدي العزيز، عندما قلت أنني سأعمل مجددًا. ستسمع عن مهمتي المثيرة في الصحف غدًا، مهمةً مضاعفةٌ هذه المرّة. السيدة الأولى صرخت قليلًا، لم تعطني الوقت الكافي لأقطع أذنها حتى أرسلها للشرطة. شكرًا على عدم نشر رسالتي الأولى حتى عودتي للعمل.
جاك السفاح
في اليوم ذاته، الأول من أكتوبر، سمحت الشرطة للصحافة بأن تنشر رسالة “سيدي العزيز”، على أمل أن يتعرف أحد على أسلوب الكتابة أو خط اليد، ويقودهم إلى القاتل.
النتيجة كانت عكسيةً تمامًا، في الأسابيع التي تلت، تلقّت الشرطة والصحافة عشرات الرسائل المشابهة، كلها تتبع نفس الأسلوب، كلها من “جاك السفاح”. دبّ الرعب في نفوس اللندنيين وقتها، كانت هناك مطالبات وتظاهرات.
إلا أن الرسائل أيضًا كانت مصدر ربح كبير للصحف وقتها. فالخائفون يوسوسون، ويبدأون بمتابعة الأخبار بلا توقف. تكهّن العديد من المؤرخين أن الرسائل لم تكن حقيقةً من القاتل، بل كُتبت من قِبل صحفيٍ ما لإثارة الجدل، خصوصًا أن المُرسل لم يرسل رسائله لصحيفة معينة، بل لوكالة الصحافة، وهو ما يوحي بأنه كان يعرف طريقة عمل الصناعة الإعلامية.
الاسم ذاته التي اخترعه كاتب الرسالة، “جاك السفاح”، خُلّد في التاريخ. كُتبت عن جرائمه ألوف الكتب، التاريخية والخيالية والمؤامراتية. أقيمت له مسرحياتٌ وصنعت عنه أفلام ومسلسلات. زادت من شهرته أنه لم يُقبض عليه أبدًا، ولا يزال أشهر القتلة المتسلسلين.
كانت قضية “جاك السفاح” أول سيرك إعلامي من نوعه. هذا السيرك الذي سيحترفه الإعلام الأميركي لاحقًا، وسيدمنه مراهقو العالم أجمع. قصص القتلة المتسلسلين المخيفة هي أحدى أثمن السلع على الانترنت، وكلما كانت قصتهم أكثر إجرامًا ورعبًا وبشاعة، كلما ارتفع سعرها.