جنسية الفنان السعودي، أهم من فنه؟

حظي فنانون من المملكة العربية السعودية في بضع السنوات الأخيرة بفرصة عرض أعمالهم الفنية في محافل دولية كان أغلبها في دول أوربا وأميركا الشمالية و...

حالما أُعلن اسم الفنانة الفائزة بنسخة العام الماضي من أبرز جائزة فنية في ألمانيا، جائزة المعرض الوطني، أصدرت أربعُ الفنانات المرشحات للجائزة بيانًا مشتركًا يستنكرن فيه سياسة القائمين على الجائزة، وتحديدًا التركيز على جنسيات الفنانات وجنسهن ورُعاتهن وتجاهل الحديث عن أعمالهن الفنية. اعتُبر بيان الفنانات تنديدًا بممارسة العلاقات العامة للجائزة التي هي امتداد للمشهد الفني العالمي، والتي تجلّت في بيانات الجائزة الصحفية وخطاباتها، إذ جاء الاحتفاء المبالغ فيه بجنسيات الفنانات المرشحات وجنسهن على حساب محتوى أعمالهن الفنية.

كما كشف البيان عن تناقضٍ يسم عالمًا يحتفي بالتعدد والمساواة ويُفترض فيه ألا يكترث لهذه الجوانب، حتى أمست الجائزة احتفاءً بالرعاة أنفسهم (الراعي الرئيس شركة BMW) وبالمؤسسة الفنية أكثر من كونها انخراطًا مع الفنانات وأعمالهن في حوار فعال. وتعتبر مطالبة الفنانات بأن “يجد الالتزام بالتعددية في الجنس والعرق والتجربة طريقَه إلى الممارسات اليومية للمؤسسات والمنظمات” صيحةً تدعو إلى تغيير جاد في اتجاهات الوسط الفني وإعادة العملية الفنية إلى مسارها.

المشهد الفني

استهل بهذه الحادثة الكاشفة عن نزرٍ مما يعتور المشهد الفني العالمي حديثي عن الفن السعودي المعاصر عامة وما يُعرض منه في الخارج خاصة. حظي فنانون من المملكة العربية السعودية في بضع السنوات الأخيرة بفرصة عرض أعمالهم في محافل دولية كان أغلبها في دول أوربا وأميركا الشمالية.

هذه الفرصة آخذة في الاتساع، ففي عامي 2016 و2017 مثلًا أقيم في الولايات المتحدة الأميركية وحدها عددٌ كبيرٌ من المعارض الفردية والجماعية لأولئك الفنانين. صاحَبَ هذه المعارض برامجُ تبادل ثقافي من مثل الإقامات الفنية والمحاضرات والندوات وغيرها. نال هذا الحضورُ حظًا لا بأس به من التغطية في الصحف الناطقة باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة وبريطانيا.

ما من شكٍّ في أن هذا الحضور يمثّل فرصةً غير مسبوقة في المثاقفة والتفاعل في عالم الفن من خلال تدشين حوار فعّال يصل الفنانَ بجمهور الفن في مناطق مختلفة من العالم. لكن عالم الفن يشكو اليومَ من كثيرٍ من المشكلات التي يمكن ردّ الجزء الأكبر منها إلى التفاوت الذي يسم العلاقات في عالم مُعولَم، منها على سبيل المثال ما أبانت عنه الحادثة التي افتتحتُ بها المقال.

الفنان السعودي

سأعرض فيما يلي من سطور تحليلًا هو حصيلة متابعةٍ للنشاط الفني في السعودية، بما في ذلك المعروض منه في الولايات المتحدة، وما يُكتب عنه في الصحافة الأميركية. يطرح التحليل بضعَ مشكلاتٍ يدور معظمها حول مسألة تلقي “الفن السعودي” في الولايات المتحدة.

لقد ركزت التغطيات والمقابلات والمراجعات الصحفية التي تناولت الفن السعودي المعروض في الولايات المتحدة، جلّها إن لم يكن كلّها، على جنسية الفن ومصدره، منخرطة في احتفاءٍ قائمٍ بشكل رئيس على كون الفن قادمًا من منطقةٍ جغرافيةٍ بعينها، وبدت عاجزة عن تلقّيه والتحاور معه بمعزل عن هذه الحقيقة الجغرافية.

هكذا يتضح أن رهانَ الفن السعودي المعروض في الغرب، بحسب تلقّيه لا مُنتجه بالضرورة، مقصورٌ على أنه فنّ قادم من المملكة العربية السعودية. هذا القول لا يعني بالطبع تجريدَ الأعمال المعروضة من القيمة الجمالية التي حملتها (على العكس من ذلك، فمنها ما يُخلص للحظتِه ويبني جمالياتِه وفقَها)، ولكني أشير إلى نسق التلقّي الذي تحظى به تلك الأعمال.

إذن هو ليس رهان الفن السعودي كما هو، وإنما رهانه كما أُريدَ له، ولذا قد يكون من النافع هنا تقديم مزيد من الإيضاح حول هذا المأزق الذي تواجهه الفنون البصرية التي ينتجها فنانون سعوديون ويوجّه عملية تلقّيها حين تُعرض في الخارج.

تأطير الموضوع الفني

يتجاهل التلقي المختزِل المشار إليه أعلاه التعقيداتِ والفوارقَ والغِنى الذي يسم الأعمال الفنية المعروضة. إنه يضعها في سلّة واحدة مقابل موضوع معين أو بضع موضوعات، منها، على سبيل المثال لا الحصر، تمثيل التطرف الديني، وهو تمثيلٌ لا تسلم منه بالكليّة مخيّلة الغرب ولا صنيعه. هذا موضوع يمكن أن يتناوله عملٌ فنيٌّ نفذه فنانٌ من الشرق الأوسط، ولكنه أيضًا موضوع يمكن ألاّ يتناوله عملٌ فنيٌّ من الشرق الأوسط.

ليس من حق أحدٍ قسرُ الموضوعات الفنية وطرق المعالجة الفنية والتناول على أحد، لكن في الوقت ذاته ليس من حق أحد إملاؤها. كما أن هناك نماذج معينة يمكن ملاحظتها والتجادل حولها، وهي في هذا السياق تُملى وتُنتقى وتُستقبل وكأنها الموضوع الوحيد الذي يمكن لفنان قادم من منطقة جغرافية معينة أن يتناوله.

لمّا كانت المنطقة وحدها تهمّ في حالة تلقي الفنون البصرية هذه، مركزةً على قيمةٍ من خارج العمل الفني أكثر مما هي من داخله، كان طبيعيًا أن يكون المهمُّ الموضوعَ وحده، موضوعًا يمثل تلك القيمة الخارجية ويرتبط بها.

الأعمال الفنية كسلعة تباع وتشترى

إن الممارسة الفنية عملية معقّدة وغنيّة، تورِّث تعقيدَها وغِناها للعمل الفني الذي ينتج عنها. وهكذا، في لحظة التذوق يجب أن تحضر كل عناصر العمل الفني وإحالاته كما يقرأ العمل في سياقه الذي أنتج فيه. لهذا السبب حينما يكون التركيز مقصورًا على الموضوع، فإنه ينبئ عن نهج أنثروپولوجي يأتي في إطار ممارسة إثنوغرافية تُعنى بجمع البيانات والوصف لا أكثر.

يمكن القول ببعض التعميم إن هذا التركيز ملاحظ في سائر الإنتاج الثقافي الذي يعبر إلى الغرب، إذ غالبًا ما تكون تذكرة عبور العمل الأدبي أو الفني الموضوعَ وحده. هذا النوع من التلقي مجحفٌ بحق الجوانب الأخرى التي يشتمل عليها العمل الإبداعي عمومًا والممارسة الفنية تحديدًا، مثل الأسلوب الفني واللغة والإحالات إلى آخره. دعوني أستحضر هنا نموذجًا يساعد على توضيح الفكرة أعلاه، ألا وهو نموذج ماركس للإنتاج الثقافي.

وفق هذا النموذج ينتج النظام الرأسمالي سلعًا، بما فيها الأعمال الفنية، وكل من تلك السلع موضوع رغبة صنمية (fetish) أو شيء ذو قيمة مجردة. الرغبة الصنمية إسقاطٌ للطبيعة الإنسانية والرغبات الإنسانية على ما هو خارجها من أشياء، وهي نتيجة حتمية لتسليع الفن، بحيث يعدو الفنان منتِجًا ثقافيًا ويعدو العمل الفن سلعة تباع وتشترى في السوق. ولأنه يصبح موضوعًا استهلاكيًا لابد أن يكون موضوعَ رغبة صنمية.

تحت هذا النظام تنتهي قيمة الفن الرمزية (التي تحكمها علاقة بين المفردات والصور والأفكار تبتعد عن الاستخدام العادي، وتختلف في تأويل إحالتها من متلق إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى) وتحلّ بدلًا عنها الأليجوريا (حيث يستحيل العمل بأكمله رمزًا يحيل إلى حقيقة أو معنى غالبًا ما يكون أخلاقيًا أو سياسيًا). هذه الأليجوريا خاضعة لسردية خاصة ترى في العمل الفني بأكمله مجموعة رموز تشكل معًا علاقة ضمن علاقات قوى.

كارل ماركس

“الفن مثله مثل كل النشاطات الفكرية العليا، ينتمي إلى البناء الفوقي أو إلى إيديولوجيات الطبقة المسيطرة، ويتقرر هذا البناء الفوقي بشروط (اجتماعية – تاريخية) معينة، وبخاصة من قبل شروط اقتصادية أساسية”

ليست عالمية بما يكفي

الأليجوريا في حالتنا هذه إفرازُ مخيلة استشراقية ما زالت تسيطر على علاقات القوى حين يتعلق الأمر بالتواصل بين الغرب والشرق. قد يكون الغرب توقف عن إنجاز تمثيلاته الفنية التقليدية عن الشرق، إلا أن محاولات الاستشراق لا تني في الإخلاص إلى مخيّلته القديمة ومقاومة كل الفرص التي يُتوخى منها أن تقدّم صورةً أكثر واقعية وأمانة للشرق.

من ذاك أنه عند اختراع الفوتوغراف لم يساعد الاختراع الجديد في تحدي الصور التي صدّرتها لوحات المستشرقين، بل مُسرحت وجُهزت الصور من أجل أن تطابق المخيال الغربي. هكذا ما ينفكّ الغربُ يدفع، عبر بنى القوة التي تحكم صناعة الفن اليوم، الشرقَ لأن ينجز هذه الأعمال عن نفسه. فعوضًا عن أن يشيد الفنان الاستشراقي مشهدًا من نسج خيالاته، أصبحت المؤسسة الفنية الغربية تبذر الفكرة في خيال الفن الشرقي.

هذا الواقعُ ضربٌ من ضروب العنف الرمزي، إذا ما استعرنا تعبير پيير بورديو، حيث يتوقف المهيمِن عن فرض الإيديولوجيا باعتبارها ممارسة تسعى إلى تطبيع الوضع القائم وتشريعه، وتدفع بدلًا من ذلك المهيمَن عليه إلى إعادة إنتاج تلك الإيديولوجيا من تلقاء نفسه. وهذا بالطبع يجعل ممارسة الهيمنة الثقافية تتطلب جهدًا أقل أولًا، ويستلزم لحدوثها تواطؤًا من قِبل المهيمَن عليه ثانيًا.

الهيمنة الغربية

في سياق الهيمنة الغربية تاريخيًا حُطَّ من قدر ثقافات الشعوب الأخرى واتُّهمت بأنها ليست عالمية بما يكفي. بطبيعة الحال كان الهدف من هذا الحطّ وذاك الاتهام تبريرَ استعمارِ شعوبٍ لا تنفع لشيء سوى العمل لصالح المستعمِر. ثم في فترة لاحقة عُمِد إمّا إلى تسطيح “الثقافة” القادمة من الشعوب المستعمَرة وإما إلى استلابها.

حدث ذلك عبر تدخّل عنيف في القيمة الرمزية لعناصر الثقافة في تلك الشعوب، سواء من خلال التسلط في اختيار العناصر الثقافية «الحميدة» واستلابها من دون أن يكون لمنتجيها اختيار فيها، وثانيًا من خلال زرع توقٍ دائمٍ لدى المنتجين الثقافيين من تلك الشعوبٍ إلى الاعتراف.

وهكذا، مع الوقت أصبح المنتَج الإبداعي لا ينقل معنى، ولكن ينقل قيمة. على المهيمِن تخيل منتج إبداعي مثالي، بحيث يمكن تحديد فنه، وبالتي فن الآخر الذي ينحرف عن معاييره ولكن لا ينحرف أكثر من اللازم، لأنه حينها إما يكشف اعتباطية المعايير والقيم الجمالية المكرسة (إذ كيف تقبل ببعض الانحراف وترفض بعضه؟) وإما أن يكون خطيرًا يهدد كامل المنظومة الجمالية الموضوعة في الغرب، لأنه مختلف اختلافًا لا يقبل التفاوض ولا الاستلاب.

إدوارد سعيد

“يعتبر الفنّان المستقل والمفكر المستقل من الشخصيات القليلة الباقية المؤهلة لمقاومة ومحاربة تنميط كل ما يتمتع بالحياة حقًا وقتله”

إيديولوجيا الفرق والاختلاف

يمكن اعتبار علاقة كهذه، حيث يستغل المهيمن اختلافَ المهيمَن عليه، مثالًا لما أسماه إدوارد سعيد، في مقالة نشرها عام 1985، إيديولوجيا الفرق أو الاختلاف، حيث يستلزم الفرقُ بالضرورةِ الهيمنةَ ويسوّغها. وأستطيع تقصي أثر هذه الإيديولوجيا من خلال النظر إلى اثنين من تجلياتها حين يتعلق الأمر بالنشاط الثقافي للآخر، أولهما عبء التمثيل وثانيهما الاعتراف.

وفق التصور الذي يقصر مبررات الاحتفاء بالعمل الفني على كونه فنَّ الآخَرِ المختلف يصبح العمل الفني محمّلًا بأعباء من خارج الفن لا من داخله، ينتج عنها أنه حين يقف الفنان أمام عمله فإنه يتكلم باسم مجتمعه ويمثّل مجتمعه كما لو كان ممثلًا سياسيًا. وهو ما يمكن تسميته “عبء التمثيل” حسب وصف كوبينا ميرسر الذي أطلقه في مقال “فن السود وعبء التمثيل” متناولًا فيه المشهد الفني في بريطانيا ما بعد الاستعمار.

حسب تحليل ميرسر، ظلّ يحكم الممارسةَ الثقافيةَ، الفنَّ البصريَّ تحديدًا، لدى الفنانين السود توقعٌ غير معلن بأن تكون كل صورة، كل لوحة، كل عمل، كل فنان منهم في واقع الحال، ممثّلا للجماعة العرقية أو الإثنية التي يجيء منها الفنان فينوب عنها. على هذا الضوء يصبح فرزُ ما يُقبل من الأعمال وما يُرفض مبنيًّا على “الرغبة في رؤية شيء ممثِّل” وتشكّل رغبة الجمهور الذي يسلّم بأن كل السود يشبهون بعضهم، وعليه فأي فنان منهم نائبٌ عن الباقين، رغبةً ضاغطةً تخفق في تلمّس التنوع والاختلاف داخل المجتمع الأسود وتدفع الفنانين من أفراده إلى الاستجابة لتلك الرغبة.

ينتج عن هذا الضغط أن تكون الفنون البصرية التي ينتجها أولئك الفنانون في مجملها “سرديةً مزدحمةً وفوضويةً تحاول أن تقصّ القصة بأكملها دفعة واحدة وتبسّط —لا محالة— ما تسعى إلى وصفه وتوضيحه” لأنه يستحيل قولُ كل شيء فيما أسماه ميرسر “دفقة خطابية واحدة” إشارةً إلى محدودية الوصول إلى منصات العرض أمام الفنانين. والشيء نفسه ينطبق على موضوعنا، حيث يُردّ الفنان السعودي إلى جماعةٍ ولا يُنتظر منه سوى أن يكون ممثّلًا لها.

الإعتراف الفني

هذا فيما يخصّ عبء التمثيل، أما ما يخص الاعتراف ففي بِنية القوى التي تحكم الإنتاج الثقافي والممارسة الثقافية والتداول الثقافي يضحي الاعترافُ سلطةً عاليةَ التأثير تتجلى من خلالها طبيعة الهيمنة الثقافية. فمن جانبٍ هناك الجهة التي تمنح الاعتراف بوصفه إقرارًا بالتزامٍ وفيٍّ بالأعراف والصور النمطية التي أنتجها الطرف المهيمِن، ومن جانب آخر هناك السعيُ الحثيث من قِبل الجهة الطامحة إلى الحصول على الاعتراف.

لكن هذا لا يحدث وفق شروط موضوعية ومعايير ثابتة يمكن تحقيقها وانتزاع الاعتراف الحتمي. على العكس من ذلك، يحدث الاعتراف على ضوء صورة ذاتية معدّة مسبقًا تجعل من الاعتراف سلطةً في حد ذاتها. على هذا الأساس، ما السعي نحو الاعتراف إلا خضوعٌ لعلاقات قائمة أساسًا ومباركةٌ لها. إنه في أحسن أحواله تفاعلٌ ناقصٌ يمضي في اتجاه واحد. لا غروَ إذن أن الاعترافَ في حقيقته لا يحدث أبدًا، لأنه قائم على دائرة سلطوية تحافظ على كل طرفٍ من أطراف العلاقات في موقعه من الهرمية الثقافية.

بيدَ أن هناك تجليات لهذه السلطة تلبس لبوسَ الاعتراف، لعل أبرزها “الاكتشاف” للاكتشاف الذي أقصده وجهان: وجه الاكتشاف الذي يقوم به الخبير الغربي المتخصص، ووجه اكتشاف سوق جديدة للرأسمالية. وفي هذه الحالة لا يكون الاعتراف إلا خدمة لهذين الوجهين، لا إقفالًا لدائرة الهيمنة عبر لحاق المهيمَن عليه بالمهيمِن. يقرر الناقد الفني وقيّم المتحف أن الفن القادم من منطقة جغرافية معينة أو شعب معين فنٌّ جدير بالاحترام، وقد يقال صراحةً إنه لا يقل قيمة عما ينتج في الغرب.

السوق الرأسمالي

كما أن السوق الرأسمالية تسعى على الدوام إلى توليد فرص عمل ورأسمال يتبع إقرار المتخصص الغربي. سأسوق هنا مثلًا واحدًا لتبيان قولي. في ثمانينات القرن العشرين برز اهتمام مفاجئ بفنون السكان الأصليين في مناطق متفرقة من العالم. من تلك النماذج سكان قبائل الماوري فيما يدعى اليوم نيوزيلندا الذين أقيم أول معرض لفنهم في متحف الميتروبوليتان للفن عام 1984. عن المعرض قال هيريني موكو ميد، وهو قائد من الماوري وفنان ومؤرخ وأنثروبولوجي من نيوزيلاند، إنه:

 أدخل فن الماوري إلى وعي عالم الفن، واقتلع فن الماوري من العتمة وأعاد تعريفه على أنه فن عظيم في وُسعه أن يأخذ حيّزه إلى جوار تقاليد فنية عظيمة أخرى.

هذا قولٌ يغفل عن الالتفات إلى واقع الأمر، أعني تسليع الفَرق والاختلاف بحيث يكونان عُملةً رائجةً مشروطٌ قبولُها بمقارنتها بالفن في الغرب. يقول قائل من المحتفين: لدى هؤلاء القوم فن مختلف يضاهي في قيمته وتميّزه الفنَّ الغربي الحديث. والمضاهاة لا تعني بحال من الأحوال الوقوف على قدم المساواة إلى جانب الفن الغربي، وإنما ترسيخ لهرمية ثقافية يعتلي سنامَها مَن يعطي حُكمًا جماليًا يستمد معاييره من الفن الغربي باعتباره النموذج الأعلى والأكمل.

وهكذا يتكرر نموذج “اكتشاف” فنون وآداب جديدة على الدوام، وهو مدفوعٌ في الغالب برغبةٍ في تمجيد التعدد الثقافي في المشهد المستقبٍِل لقاءَ طمسِ اختلافِ المشهد المستقبَل، كل هذا طبعًا بدعم آلة اقتصادية منوطة بإيجاد سوق جديدة في كل مرة.

“تحسين الصورة الفنية”

لأعود إلى الفنون البصرية التي ينتجها فنانون من السعودية وأقول: يتبيّن من متابعة المشهد الثقافي عامةً خطابٌ أستطيع تسميته خطابَ “تحسين الصورة” ثمة التزامٌ مخلصٌ لمشروع تحسين الصورة يُعبَّر عنه باستمرارٍ وفي كل مناسبة. أحسب أن هذا الخطاب أحد إفرازات علاقات القوى التي تحكم المشهد الثقافي، ويمكن تحميله جزءًا من مسؤولية الكيفية التي يحدث بها استقبال الفنون البصرية في مشهد عالمي.

خطاب تحسين الصورة قائم على مغالطة رئيسة، وينطلق من افتراض مخطئ أن الصورة لا بد أن تكون انعكاسًا أمينًا للأصل. هذا الافتراض يتبعه افتراض مخطئ آخر وهو أن صاحب الصورة مسؤولٌ عن صورته. ما أريد التشديد عليه هنا أن ما يحدث بين الأصل والصورة مجموعة من العلاقات مسؤولة عن التلقي تؤثر فيه أكثر مما تتأثر به.

وتتمثل خطورة الانجرار وراء خطاب تحسين الصورة في أن الظروف التي أتاحها هذا الخطاب تحدّد شيئا فشيئا الممارسةَ الفنية في المنطقة بدءًا من اصطفاء جملةٍ من المعايير الجمالية، اصطفاء يتواطَأ عليه، وانتهاءً باختزال الممارسة الفنية في مجرد كونها فنًا، مع تجاهل السياقات التاريخية والاجتماعية أولًا ثم صرف النظر عن التباينات في الإنتاج الثقافي ثانيًا، حتى يغدو بمرور الوقت ناتجُ السعي لتحسين الصورة، وهو ما يحدث في الغالب، امتثالًا مطيعًا يفتقر إلى الحس النقدي. حينها يمكننا القول إن متلقّي الفن قد غدا بالضرورة صانعَه ومُمليه.

الإعتراف بالآخر

نشاط الفنون البصرية، حيث تكون الصورة بمفهومها المجازي والحرفي على السواء، لم يسلم من خطاب تحسين الصورة لدى الآخر، فكثيرٌ من الفن البصري المعروض في الغرب يقدَّم على ضوء هذا الخطاب، وكأنّ الساعي إلى تحسين الصورة مسؤولٌ بالدرجة الأولى عن صورته الجائرة المتداولة في الإعلام الغربي. إن الإشكالية كما أراها، وكما أسلفتُ، إشكالية اعتراف.

الاعتراف بالآخر ليس مجرد الإقرار بوجود صفات أو سمات معينة لديه، بل نشاطٌ تترتب عليه مسؤولية أخلاقية تُملي التصرف مع ذاك الآخر على نحو معين. أبعد من ذلك، يرى لوي ألتوسير في الاعتراف آلية إيديولوجية رئيسة تواجه، حسب إطاره النظري، الدولةُ من خلالها مواطنيها مخيّرة إياهم بين الطاعة وفقدان الوجود الاجتماعي. تعتمد الجماعة، مثلها مثل الفرد، على تكوين هويتها من خلال ردة فعل الجماعات الأخرى.

وحالما تشعر الجماعة أنها لم تحُز الاعتراف الكافي، أيّا كان سبب ذلك النقص، فإنه يصعب عليها أن تقبل نفسها كما هي، وعوضًا عن أن تتخلى في السعي في سبيل اعتراف لن يحدث، تتنكر لنفسها وتسقط في فخ لا قاع له، اسمه تحسين الصورة، حيث الاعتراف صراعٌ مستمر. والمفارقة أنها صورة، وما يحدث بين الأصل والصورة مجموعة علاقات لا يمكن تعديل الصورة من دون مواجهتها واستجوابها.

تلقي الفن السعودي عالميًا

إن تحليل تلقي الفن السعودي عالميًا يستلزم قدرًا من الصراحة غائبًا حتى الآن، فالقِِسم الأكبر من الفن المعروض اليوم في صالات ومتاحف الفن في الغرب جاء نتيجة مساعٍ حثيثة حسنة النيّة من جانب داعميه الذين يريدون من الفن أن يحفز التواصل بين الثقافات، إذ الثقافة البصرية تحديدًا تشكّل النموذج الأمثل للنشاط الإبداعي المناسب لظروف العولمة التي أثرت تأثيرًا كبيرًا على الفن، في إنتاجه واستهلاكه وتوزيعه، بما في ذلك عادات المتلقي، الذي صار يبحث عن سرديات معينة، هي ما يميل إليها في الأساس، حتى غدت معارض الفن تأكيدًا لموجودٍ.

في ظل العولمة أمسى الفن نشاطًا عالميًا قابلًا للذيوع على نطاق لا محدود مستفيدًا من الظروف التي يحرص النظام الاقتصادي على توفيرها. كما أصبحت الفنون البصرية على الأخصّ ذراع العولمة الثقافية الأسَدَّ بفضل عالمية لغتها وسرعة توزيعها واستهلاكها. هذا مفهوم، ولكن المفارقة هنا التشديد على قومية المنتج الفني من أجل ضمان عبوره عالميًا. وحين يتعلق الأمر بالقضيةِ موضعِ التحليل، يكون الإجحاف في اعتبار جنسيته أو إثنيّته رهانه الأوحد. إن التلقي القائم على مجرد الاحتفاء بالفن لأنه فن من منطقة معينة يصبح ليس الهدف منه تغيير صورة مجحفة وإنما تعزيزها.

فرصة الفنان السعودي

كما أسلفتُ الذكر، أمام الفنان السعودي فرصة مواتية للتفاعل مع عالم ينتمي له ويستقي منه لغته وعناصره وموتيفاته وإلهامه، لكنه —أي العالم— يصرّ على أن ينظر إلى هذا الفنان باعتباره غريبًا وآخرَ وبالتالي موضوعًا إثنيًّا محدَّدَ الهوية والموقع سلفًا. ينبغي على العاملين في المجال الفني، ما داموا قد أخذوا على عاتقهم مسؤولية دعم الفنون، مقاومةُ هذه النظرة، عبر التواصل مع الآخر من دون الوقوع ضحية لخطابات العولمة، وتحديدًا خطاب الحرب على الإرهاب، والتي يقع فيها الفنان والثقافة التي هو آتٍ منها على الجانب الأضعف من علاقة العولمة المتفاوتة.

على المؤسسة الراعية للنشاط الفني داخل السعودية وخارجها أن تكون مستعدة لنزعات الفن نحو تحدي السائد واستجواب المهيمِن على كافة المستويات. ينبغي السعي إلى تمكين تواصل ثقافي، من دون الاستسلام لآليات الاعتراف التي، أينما وُجدت، لن تضمن الاعترافَ للساعي إليه مهما فعل.

أمام الفنان السعودي ، بعد الاستحقاق الذي تحقق له، فرصة فريدة عليه استثمارها في توليد علاقات جديدة عوضًا عن تكريس تلك العلاقات السائدة التي يسمها التفاوت. على الفنان أن يتنبّه إلى تفاوت العلاقات العولمية التي تملي عليه شكل ممارسته وترهن الاعتراف به بمدى وفائه لذلك التفاوت وتقاعسه عن تحدّيه، وألاّ يعدم الأدوات التي تمكّنه من استجواب العلاقات السائدة، والتي تعمل على تكريسها المؤسسات بشتى أشكالها، بمعزل عن أعباء التمثيل وتحسين الصورة واستجداء الاعتراف.

كما عليه أن يضع عن عاتقه عبئًا ما كان ينبغي له أن يحمله، حتى وإن دعا ذلك إلى المخاطرة بمزاج الجمهور وذائقته، وألا يكون خاضعًا لشروطٍ وإملاءاتٍ تجيء من خارج العمل الفني. هذا الوعي وحدَه يجعل من الفن خطابًا فاعلًا يتمتع بقدر من التأثير ومساءلة السائدِ لا منتَجًا حتميًا له.

حقوق الصور محفوظة لـ:

  • الفنّان عبدالناصر غارم، EOA.PROJECTS GALLERY

  • الفنّان عبدالله قنديل، i-d

  • مشاعل الساعي، @filmbymashael

التاريخالتصميمالسعوديةالفنالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية