قوثام .. التمييز الطبقي وصعود اليمين

علاقة فلم الجوكر بسلسلة باتمان التي أخرجها كريستوفر نولان ليست علاقةً كومِك-بوكية (comic book) فحسب، ولكنها العلاقة التي توضح المفارقة بين اليمين و اليسار.

قوثام .. التمييز الطبقي وصعود اليمين
مدينة قوثام / Pixabay

لا يُمكن لمتابع فلم الجوكر ذائع الصيت أن يتجاهل علاقته بسلسلة باتمان التي أخرجها كريستوفر نولان. وليست العلاقة بينهما علاقةً كومِك-بوكية (comic book) بين الشخصيتين باتمان وجوكر فحسب، ولكنها العلاقة التي توضح المفارقة الأيديولوجية الداخلية الصارخة بين السرديتين.

في حين ركز فلم تود فيليبس على الظروف الاجتماعية والنفسية التي أنتجت شخصية الجوكر المأزومة والفريدة، وذلك في منحى تبريريّ إلى حد ما وبتوجّه يساري يلوم النظام كما يشير الكثير من النقاد، تقدّم سلسلة كريستوفر نولان النسخة المناقضة كليًا وهي رواية اليمين، أي رواية الأثرياء والمترفين. وهي نسخة تنغمس في تبرئة النظام وإدانة، بل وشيطنة، اليسار الطامح بالتغيير الجذري في مدينة قوثام. ويتضح ذلك من خلال عدة محاور أساسية: التباين الطبقي، وشيطنة اليسار، ومعضلة أخلاقية ينتصر فيها اليمين، وأخيرًا التلميع الفج لصورة النظام، وهي محاور يتناولها خطاب الفلم الباطني وتشرّحها هذه المقالة بالتفصيل. 

قوثام المفصولة إلى جزئين

حين يبدأ الفلم الأول من السلسلة «باتمان يصعد» (Batman begins)، نتعرّف على بروس وين قبل أن يصبح باتمان. ويُطلعنا هنا كريستوفر نولان على شخصية وين المهزوزة والضعيفة التي تخشى الظلام والخفافيش، إذ إنه عندما يستثيره معلّمه، هنري دوكارد (ليام نيسون)، يستذكر وين أن مقتل أبويه كان نتيجة خوفه من الظلام والخفافيش، حيث اضطروا إلى الخروج من الأوبرا التي كانت تحمل شخصية خفاش، قبل أن يصطدموا بالسارق الذي قتلهما أمام عينيه.

ولا يمكن لمشاهد الفلم أن يخطئ الانطباع الذي يريد أن يوصله نولان من وراء مظهر القاتل، فهو على العكس من ضحاياه يرتدي ملابس رثة تعكس حالته الاقتصادية وطبقته الاجتماعية التي لا تشبه طبقة ضحاياه بأي شكل من الأشكال. فوين الأب، كما يوضح الفلم لاحقًا، رجل أعمال هائل يكاد يملك المدينة ويملك برجًا يمثّل مركز قوثام، وهو من يقف عقبةً أمام المجرمين والعصابات من الاستحواذ على المدينة بالكامل. ويُظهر الفلم هنا مظاهر وصورًا متعددة للخراب والقذارة التي تملأ قوثام، ولا تنفصل الصور هذه عن صور المشردين، فالمشردون ينتمون إلى الطبقة نفسها التي ينتمي إليها المجرمون، كما يُظهرها نولان.

باتمان / unsplash

من هنا تمامًا تبدأ المفارقة الأهم في الفلم: تنقسم المدينة إلى طبقتين واضحتين، وهما طبقة الأخلاقيين والبعيدين عن الجريمة، وهم نفسهم الأثرياء الذين يذهبون لأماسي الأوبرا ويسكنون القصور ويحكمون الشركات الكبرى، أي طبقة وين الأب. وطبقة المجرمين غير الأخلاقيين الذين لا يتوانون عن السرقة والقتل حينما تستدعيه السرقة، وهم نفسهم المشردون الذين يرتدون الملابس الرثة. ولا تقف المفارقة هنا فقط ولكنها تمتد إلى التقسيم الجغرافي للمدينة أيضًا.

قوثام صورة تعكس اميركا

كما هي معظم المدن الأميركية الضخمة، تنقسم قوثام إلى أحياء بالغة النظافة وأحياء قذرة. لكنها تتميز عن المدن الأميركية بأن الأحياء القذرة، المليئة بالمشردين وبالجريمة والتي يقع السجن العام للمدينة بداخلها، تتمركز في جزيرة تحيط بها المياه من كل الجهات، وتتصل ببقية قوثام بجسور يُمكن إغلاقها متى ما أراد النظام لعزل الجزيرة عن بقية قوثام. وذلك ما حدث في نهاية الفلم، في رمزية عالية لمنع وصول سرطان الطبقة الاجتماعية الدنيئة إلى الطبقة العليا في بقية قوثام.

هنا يجبرنا الفلم وسرديته وهيكليته على الوصول إلى التحليل اليساري الموجود في فلم الجوكر الجديد، إذ إن الفوارق الطبقية هنا نظامية. ويتمظهر القمع الاجتماعي للفقراء وللطبقات الوسطى من خلال الفصل بين الأحياء الفقيرة والغنية، وذلك ما يضع العوائق غير المتناهية أمام الطبقات السفلى وأمام الفقراء كي تنهض وتتجاوز إدقاعها في الفقر. إن هذا الفصل الجغرافي والأخلاقي إغراقٌ للطبقة السفلى في وحلها بسلاسل محكمة، وتوسعة للفجوة المادية والطبقية بين الطبقة العليا والسفلى.

بدلًا من توضيح الظروف الاجتماعية والاقتصادية الموضوعية التي توجِد الجريمة والمجرمين، أو توضيح أن الجريمة هي التمثّل الأقصى للخلل الاجتماعي … يحيل الفلم الجريمة إلى الأخلاق الفردية للمجرمين نفسهم

أيديولوجيا اليمين

ما يرافق ذلك، ولا يبدو اعتباطيًا على الإطلاق، هو أنّ الفلم لا يتورّع عن توجيه اللوم بما يخص سبب هذه الأزمة وهذه الفوارق الفجة بين الطبقات، والتي تتمثّل في الجريمة التي هي محور سردية الفلم. إذ يُحيل رفقاء باتمان الروحيون وأبواه، ألفريد (مايكل كين) وفوكس (مورقان فريمان) اللذان تظهر الحكمة على ألسنتهما، دون استحياء سببَ المشكلة الجذرية إلى المجرمين أنفسهم. فالمجرمون هم من تسببوا بالفساد في المدينة بإرادتهم، وهم من يُغرقونها بوحلهم وقذارتهم، وذلك ناتج بالضرورة عن حريتهم بصفتهم أفرادًا.

إنها ذاتها الأيديولوجيا اليمينية التي لا يمتد نظرها إلى ما هو أبعد من أخلاق الأفراد، والتي تتجاهل بالكامل جذر المشكلة وهو النظام القمعي الممنهج. فبدلًا من توضيح الظروف الاجتماعية والاقتصادية الموضوعية التي توجِد الجريمة والمجرمين، أو توضيح أن الجريمة هي التمثّل الأقصى للخلل الاجتماعي كما يقول أحد رواد علم الاجتماع الحديث دوركايم، يحيل الفلم الجريمة إلى الأخلاق الفردية للمجرمين نفسهم، وذلك ما لا يُمكن أن يكون سوى انتصار أيديولوجي مبطن. 

لماذا على اليسار أن يكون أناركيًا دائمًا؟

صورت الثقافة الشعبوية الأميركية اليسار دائمًا على أنه الشيطان الذي لا شك في شره وفساده، إذ إن السردية الشائعة تحيل كل محاولة لتغيير الوضع الراهن إلى محاولة شيطانية لإفساده. ويُصوَّرُ الطامح بالتغيير على أنه الغريب على القرية، أو المليء بالحقد والضغينة الشخصية، أو الأناركي الذي يرفض كل صور النظام ويأمل الفوضى نظامًا. فباتمان لا يحارب الجريمة الفردية وحدها، بل يحارب اليسار الراديكالي المتطرف أيضًا.

في الجزء الأول، «باتمان يصعد»، يحارب معلمه نفسه دوكارد (ليام نيسون)، حيث يريد دوكارد تدمير قوثام بالكامل منذ بداية الفلم، بما تحمله من بنية تحتية ومؤسسات وبشر. ويُظهره الفلم على أنه ذو غاية نبيلة، ويؤكد على ذلك على الرغم من الطريق الخاطئ الذي يريد أن يسلكه للوصول إلى الوجهة نفسها التي يريد الوصول إليها باتمان. بيد أنه لا يتوانى في إظهاره بمظهر البراقماتي غير المبالي بحيوات الناس، فمن أجل أن ينهي الجريمة والفساد الطبقي والاجتماعي، يضحي بإحداث الدمار الهائل أو اللانظام الذي لا يمكن أن يقبل به باتمان. 

الجوكر / flickr

الدمار من أجل الدمار

وفي الجزء الثاني «فارس الظلام»، يقدّم الجوكر تفسيراته باستمرار وبذكاء خارق، فما يريده بوضوح هو الأناركية التي يتساوى بها الجميع. ويفسّر ذلك الجوكر تمامًا بعد جملة ذكية يقارن فيها بين ردود فعل الناس تجاه ما هو مخطط له وما هو متوقع. فالجميع، بحسب الجوكر، يهلع حينما تخرج الأمور عن السيطرة وعما هو مخطط له، وحتى أسوأ أنواع الجريمة يقل رفضها وهلع الناس تجاهها حينما تكون متوقّعة. وذلك ما يريد الجوكر أن يتجاوزه، حيث إن كان هنالك نظام، فلا بد من وجود التفاوت الطبقي الذي لا يمكن تجاوزه.

ومن هذا المنطلق يتضح أن اللانظام هو الخيار الأفضل، وغير المتوقّع والأناركية هما ما يفضحان الفساد المتواري وراء الخطة والمتوقع. غير أننا نرى في الجزء نفسه شرح فوكس (مورقان فريمان) لبروس وين أن عدم قدرته على فهم الجوكر تعود إلى أنه ليس مجرمًا عاديًا، فهو لا يبحث عن المال أو عن أي شكل من أشكال الرفاه المادي، بل «يريد الدمار من أجل الدمار»، في إشارة لا تقل سذاجة عن ظن باتمان أنه يبحث عن المال. وذلك في الوقت ذاته الذي يوضح فيه الفلم أن ما يقوم به الجوكر هو الاستمتاع بكشف ضعف النظام ومساوئه، وهو الموقن تمامًا أنه لا يمكن لهذا النظام أن «يتحسن».

إن هذه الشيطنة الأيديولوجية لا تضع أمام المشاهد سوى خيارين: إما أن نلوم الأفراد على الجريمة وعلى الفوارق الطبقية، أو أن نرى دمارًا يقتل الأبرياء

تتضح من خلال هذين المثالين شيطنة اليسار بوضوح. إن الجوكر ودوكارد نموذجان مبالغ فيهما في تصوير مباغي وطموحات اليسار في التغيير الجذري، فلا تقدّم هوليوود، وهنا نولان بالخصوص، اليسار على أنه موضوعي ومُمكِن. إن أي محاولة للتغيير الجذري، كما يحاول الخطاب الهوليوودي أن يقنعنا، تدميريةٌ ولا تهتم بحياة الإنسان الفرد، كما أنها مرَضيّة، كما في حال الجوكر، إذ إنه يستمتع بالدمار. ويمكننا أن نرى ذلك في سلسلة نولان، كما نراها في أفلام أخرى مثل «النمر الأسود» (Black Panther)، وهي رسالة واحدة تصلنا: التغيير الجذري غير ممكن. إن هذه الشيطنة الأيديولوجية لا تضع أمام المشاهد سوى خيارين: إما أن نلوم الأفراد على الجريمة وعلى الفوارق الطبقية، أو أن نرى دمارًا يقتل الأبرياء. 

الإنسان أخلاقيٌّ رغم الظروف

تبرز قمة فلم «فارس الظلام» في الرهان والذروة الأخيرة التي يعلنها الجوكر، إذ إنه يخطط لاحتجاز رهائن في سفينتين، يحتجز في الأولى مواطنين عشوائيين من قوثام، ويحتجز في الثانية مساجين مجرمين. ويضع الجوكر قنبلة موقوتة في كِلا السفينتين، وهما قنبلتان ترتبط كل واحدة منهما بالأخرى. ذلك أن على ركاب كل سفينة أن يتخذوا قرار تعطيل قنبلة سفينتهم عبر تشغيل قنبلة السفينة الأخرى، ويضع الجوكر ركاب السفينتين أمام هذا الخيار مقابل خيار انفجار القنبلتين معًا بعد وقت ليس بالطويل.

ما يضعنا الجوكر في قباله هو نسخة فاقعة مما يرى أنه الواقع، فالواقع كما يراه نسخةٌ أكثر تعقيدًا من اتخاذ الناس للخيار النفعي ذاته: النجاة وإن كانت على حساب الآخرين. إذ يضع الجوكر هنا الإنسان في السياق الذي ينتج الجريمة، وهو البحث عن النجاة، تمامًا كما يبحث السارق عن قوت يومه، ليثبت أن الإنسان غير أخلاقي بالضرورة حينما يكون في ظروف غير أخلاقية. غير أن مكسب باتمان، أو الرسالة النهائية التي نجد أن الفلم قد أرسلها، هو أننا نعيش على عكس ما يظنه الجوكر، فلم يُطلق أي من ركاب السفينتين قنبلة السفينة الأخرى، ويظهر ذلك بوضوح حينما يفسّر باتمان للجوكر المتفاجئ من عدم اندلاع النيران بأن رهانه خاسر، وأن شعب قوثام الطيب قد أثبت أنه مليء بالخير على العكس منه.

 لا ينزع الفلم هنا الأخلاق عن سياقاتها فقط، بل يقدّم أيضًا افتراضًا مجازفًا لا يليق إلا بأفلام الكرتون وأفلام الأبطال الخارقين -ربما- باعتبار أنه أفضلها. إذ لا يوجد فرد أناني واحد في السفينتين للدرجة التي يستعد فيها للتضحية بالآخر، وذلك في المدينة الموازية لنيويورك وهي الأكثر رأسمالية والأكثر فردانية على الإطلاق. لسنا هنا أمام أيديولوجيا مبطنة، بل هي أيديولوجيا فجة وغارقة في سخفها أيضًا.

لا بد للنظام أن ينتصر، وإن كان فاسدًا

يقدّم الفلم هنا قمة النبل الذي يتحلى به باتمان، فهو كما تقول العبارة الشهيرة: «البطل الذي تستحقّه قوثام، وليس الذي تحتاجه الآن»، إذ إنه المجرم الذي لا يُمكن للنظام أن يتحمل وجوده كي لا يكشف هو الآخر فشل النظام

أخيرًا، يقدّم الفلم نهاية دراميّة غير اعتيادية، إذ إنه على العكس من بقية أفلام الأبطال الخارقين، لا يبرز باتمان بطلًا أمام سكان مدينة قوثام في نهاية الفلم، بل على العكس تمامًا، يظهر باتمان مجرمًا خارجًا على القانون والنظام، على الرغم من أنه البطل الحقيقي الذي أنقذ قوثام من إجرام الجوكر، ومن انحراف المدعي العام هارفي دنت (آرون إكهارت). ويقدّم الفلم هنا قمة النبل الذي يتحلى به باتمان، فهو كما تقول العبارة الشهيرة: «البطل الذي تستحقّه قوثام، وليس الذي تحتاجه الآن»، إذ إنه المجرم الذي لا يُمكن للنظام أن يتحمل وجوده كي لا يكشف هو الآخر فشل النظام، باعتبار أن من أنقذ قوثام هو باتمان وليس النظام.

وفي اللحظة الشاعرية نفسها، يقدّم الفلم هارفي دنت، وهو المدعي العام الذي حارب الجريمة والذي يمثّل أمل النظام في التغيير والذي تمكنت منه نزعاته الانتقامية والإجرامية، بطلاً للمدينة أمام قوثام، رغم معرفة المشاهد بأنه ليس كذلك، وذلك لغاية واحدة: أن يعيد النظام تدوير صورته باعتباره النظام الناجح في طرد الجريمة. ولا يتوانى فلم «فارس الظلام» هنا عن توصيف إعادة تدوير صورة هذا النظام الفاسد والخالق للفوارق الطبقية بالنبل، ليس في إشارة لفاشيّة مبطنة فقط، بل ورجعيّة تتعامى عن الكوارث المؤسساتية. 

النظام الفاسد ينتج الجريمة

من هنا تمامًا، كما أظن، تنبع أهمية فلم الجوكر الجديد، وهي التي تقدّم سرديّةً مختلفة تبرز السياق الطبيعي لتكوّن المشكلات التي ينتجها المجتمع الرأسمالي، وتبرز الحاجة لمعالجة أكثر واقعية للمشكلة الجذرية لوجود الجريمة في أميركا. فعلى العكس من أفلام كريستوفر نولان، يقدّم فلم تود فيليبس المجرم بوصفه نتيجة طبيعية لنظام فاسد في جذره ينتج الجريمة والمجرمين.

إذ بدلًا من أن يشغل ذهن المشاهد بالبحث عن طريقة لإيقاف المجرمين، كما تفعل أفلام نولان، يشغل ذهن المشاهد بفهم الظروف الموضوعية التي تؤدي حتمًا إلى وصول الجوكر إلى الجريمة بوصفها ردة فعل طبيعية على ظلم النظام. وفي فلم الجوكر الجديد الذي من الصعب أن يصمد في المقارنة الفنية المحضة أمام أفلام نولان، تبرز أهمية السردية الأيديولوجية التي تحترم المشاهد، والتي في باطنها فهم دقيق للمشاكل الاجتماعية، وهنا الجريمة بالخصوص.

الأفلامالتمييزالجوكرالطبقيةالفنباتمانقوثامالثقافةالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية