ما لم يفهمه وارن بافيت عن العملات الرقمية
في مايو من عام 2019 وصف وارن بافيت أحد أغنى رجال الأعمال في العالم وأحد أهم المضاربين في البورصة في التاريخ البشري عملة البيتكوين الرقمية بأنها مجرد "صدفة"
في مايو من عام 2019 وصف وارن بافيت أحد أغنى رجال الأعمال في العالم وأحد أهم المضاربين في البورصة في التاريخ البشري البيتكوين بأنها مجرد “صدفة” من أصداف البحر موجودة بلا حراك، وفي حوار آخر وصف البيتكوين بأنها مجرد “مقامرة”. كانت تلك التصريحات سلسلة انتقادات طويلة وجهها بافيت للعملات الرقمية وعلى رأسها البيتكوين على مدار الثلاث سنوات الأخيرة. يمكن أن يكون بافيت محقًا، فعملية تداول البيتكوين أو العملات الرقمية الأخرى أمرٌ محفوف بالمخاطر تمامًا مثل تداول الأسهم في البورصة. لكن في هذا المقال نحاول أن نضع أمامكم الصورة الأكبر من مجرد التداول ومن مجرد العملات الرقمية، نريد أن نوضح لكم التقنية التي تقف خلف كل هذا وما يمكن أن تحمله تلك التقنية لمستقبل البشرية.
إذا كنت قد قضيت أي وقت على الإنترنت في السنوات الخمس الأخيرة، فمن المرجح أنك قد سمعت عن البيتكوين، تلك العملة الرقمية التي تساوي الكثير من الدولارات ويتسابق الناس على شرائها. وإذا كنت قد أبديت اهتمامًا أكبر بموضوع العملات الرقمية، فمن المؤكد أن تكون قد سمعت عن الإيثريوم وهي عملة رقمية أخرى لكنها مختلفة عن البيتكوين. وحتى إن لم تكن تعرف الكثير عن العملتين أو لا تبدي اهتمامًا كبيرًا بتلك التقنية التي تراها في أحيان كثيرة عصية على الفهم، فمن المؤكد أنك قد سمعت أن فيسبوك أطلق عملة رقمية تسمي ليبرا، أو أن الإمارات والسعودية أطلقتا عملة رقمية موحدة لدعم المدفوعات بين البلدين تسمى “عابر”. لابد أنك قد سمعت أو قرأت عن تلك الأخبار مرة أو أكثر في الخمس سنوات الأخيرة، فالعملات الرقمية اليوم أصبحت الموضوع الأكثر جذبًا للنقاش في مستقبل التقنية في العالم.
كان آخر تلك التطورات في مجال العملات الرقمية في أكتوبر الماضي حين أعلنت الشركة المسؤولة عن تطوير الإيثريوم 2.0 عن نهاية العملية وجاهزية العملة الجديدة للانطلاق والتداول في 2020. وليست الإيثريوم مجرد عملة رقمية، بل هي تقنية من تقنيات البلوك تشين (Blockchain) تقوم بعمليات أكثر من الدفع الإلكتروني وتحويل الأموال، وربما يفسر هذا شعبية الإيثريوم في أوساط البنوك والشركات الكبرى التي تسعى للاستفادة من الإمكانات الكبيرة لهذه التكنولوجيا الرقمية.
كيف بدأ الإيثريوم؟
في فبراير 2011، سمع الشاب الكندي من أصل روسي فيتاليك بوتيرين لأول مرة عن البيتكوين، وكان البيتكوين ما يزال حديثًا في تلك الفترة فلم يكن عمره يتعدى السنتين. تحدث أحد الأشخاص مع فيتاليك الشاب النحيل ذي السبعة عشر عامًا وطلب منه أن يكتب مقالات لمدونة تتحدث عن البيتكوين مقابل 5 بيتكوينات للمقال، وكان البيتكوين حينها يساوي حوالي 0.8 دولارات أي أن قيمة المقال لا تتخطى 4 دولارات، ومن بعدها نشأ شغف فيتاليك بالعملات الرقمية. وفي 2013 أطلق فيتاليك النسخة التجريبية الأولى من إيثريوم، ومن وقتها اشتد الصراع بين إيثريوم وبيتكوين على سوق العملات الرقمية في العالم.
لكي نفهم الإيثريوم أو أي من العملات الرقمية الأخرى، علينا في البداية أن نفهم التكنولوجيا الكامنة خلف تلك العملات وهي البلوك تشين، ويتضح من اسمها أنها سلسلة من القوالب. لكن ما هي تلك القوالب؟ القوالب هي ثلاث مجموعات من البيانات، الأولى هي البيانات داخل القالب وتختلف باختلاف نوع القالب. في البيتكوين تكون تلك البيانات عبارة عن بيانات تحويل مالي، أما في الإيثريوم فيمكن أن تكون عقدًا بين طرفين أو عدة أطراف أو ما يسمى بالعقد الذكي (smart contract). المجموعة الثانية من البيانات وهي (hash) أو ما يمكن أن نسميه السطح المشفر للقالب، وهو مثل بصمة الأصبع، وهذا السطح مسؤول عن عملية تشفير البيانات داخل القالب. المجموعة الثالثة من البيانات هي سطح القالب السابق وهو المسؤول عن ربط سلسلة القوالب تلك بعضها ببعض ومنع تكرار عملية التشفير لكل قالب. يمكن أن نفهم سلسلة القوالب تلك على أنها نوع من الأوراق أو الأرشيف، كل قالب هو ملف له رقم متسلسل وبالتالي يستحيل أن يحمل قالبان نفس الرقم. لكن الفرق أن هذا الأرشيف ليس مملوكًا لأحد بل لكل المتعاملين عليه، وكل هذه البيانات محفوظة على ملايين أجهزة الكومبيوتر حول العالم، وبالتالي هناك استحالة عملية في اختراق كل تلك الأجهزة.
كيف تعمل البلوك تشين؟
تعمل البلوك تشين كالتالي: نفترض أن هناك تحويلًا ماليًا بين شخصين أحدهما في الهند والآخر في السعودية، سوف يُعمَم هذا التحويل على قاعدة بيانات موجودة على ملايين الأجهزة في العالم، وكل عشر دقائق يتكون قالب من البلوك يحمل كل المعلومات عن العمليات التي تمت في العشر دقائق السابقة. بعدما يتكون القالب يكون على ملايين المنقبين (miners) أن يحلوا عددًا من المعادلات الرقمية من أجل تشفير ذلك القالب، ومن ثم فإن أول من ينجح يُكافأ بالعملة الرقمية (البيتكوين أو الإيثريوم). ويمتلك هؤلاء عملات رقمية يعرضونها للتداول فيما يشبه البورصة، وبالتالي فتلك العملات ترتفع وتهبط قيمتها. وليس المهم في كل هذا العملات والتداول فيها، لكن المهم الآن أن العمليات قد سُجِّلت في قاعدة بيانات مشفرة على ملايين الأجهزة حول العالم.
إذن تستخدم الإيثريوم أو البيتكوين أو ليبرا أو أي عملة رقمية أخرى تلك التكنولوجيا، وتقدم تكنولوجيا البلوك تشين فكرة بسيطة وهي أن القيام بالمعاملات الاقتصادية (البيع والشراء وتحويل الأموال والعقود وحقوق الملكية… إلخ) يمكن أن تتم دون وجود وسيط، أي أن البشر يمكن أن يثقوا في بعضهم دون الوسيط. لنتخيل الآتي: عامل هندي في إحدى دول الخليج يريد أن يحول أموالًا عبر شركة مثل ويسترن يونيون لأسرته في الهند، من المعتاد أن يذهب العامل ليقضي ساعتين على الأقل في تحويل الأموال، وسوف تستغرق أسرته نفس الوقت تقريبًا للحصول على المال، إضافة إلى رسوم التحويل التي تأخذها تلك المؤسسات الوسيطة.
تمثل رسوم التحويل والتكاليف الإدارية وغيرها من رسوم التسويات المالية التي تدور في الاقتصاد العالمي ما يقارب من 65 مليار دولار سنويًا، تستفيد من معظمها البنوك والمؤسسات المالية الكبرى في العالم. لكن مع ظهور العملات الرقمية وبداية تداولها على نطاق واسع نسبيًا، حاولت البنوك الاستفادة من تلك الإمكانات خاصة المتعلقة بتسهيل المعاملات والإجراءات وخفض تكاليف تلك العمليات. وتحاول البنوك القفز على تلك التكنولوجيا الجديدة، وهو ما جعل الكثير من البنوك والشركات تدخل ذلك المضمار حتى لا ينساها الزمن.
الإيثريوم ليس مجرد عملة رقمية
ما يجعل الإيثريوم شيئًا مميزًا هو أنها ليست مجرد عملة رقمية، بل هي قادرة على القيام بعمليات أوسع بكثير من البيتكوين أو ليبرا، حيث يمكن أن تستخدم في أي شيء بداية من إبرام العقود وحقوق الملكية وصولًا إلى إصدار بطاقات الهوية للمواطنين، وذلك لأن برمجة الإيثريوم في الأساس تعتمد على أن تقدم مثل تلك الخدمات. والنموذج المستقبلي منها وهو الإيثريوم 2.0 نموذجٌ أكثر تطورًا حتى أن الرئيس التنفيذي للشركة المطورة للإيثريوم فيتاليك يرى أن الإصدار الأول من الإيثريوم كان بدائيًا مقارنة بالإصدار القادم.
تحاول الإيثريوم توفير ما يمكن أن ندعوه البنية التحتية الاقتصادية، تحاول أن تجعل كل شيء يمكن أن تفعله يتم من خلالها، يمكن تحويل الأموال وإبرام العقود وتسجيل قواعد بيانات عامة لأي شيء.
يمكن أن ننظر للطريقة التي يعمل بها الاقتصاد على أنها محاولة البشر الدائمة لأن يجدوا الثقة في بعضهم البعض، فمن أجل القيام بالمعاملات والتبادل وبيع الأشياء وشرائها علينا أن نحصل على الثقة، ليست الثقة هنا بالمعنى الأخلاقي أي أن أثق في الشخص، لكن بالمعنى البراقـماتي أي أن أثق بأن الشخص سيدفع لي بغض النظر عن أخلاقه، ومن ثم يمكننا أن ننظر لرحلة الاقتصاد عبر التاريخ على أنها رحلة لإيجاد الثقة. في تلك الرحلة الطويلة ابتكر البشر الكثير من الوسائل التي تجعلنا نقلل من المخاطر في عمليات التجارة والبيع والشراء، بداية من أنظمة المقايضة في الحضارات القديمة وصولًا إلى ابتكار الصينيين للنقود الورقية. وحينما تطور الاقتصاد الحديث بشكلة الرأسمالي الحالي، اعتمدت الرأسمالية على إنشاء عدد من المؤسسات والوسائل الوسيطة من أجل تقليل الخطر، مؤسسات كالبنوك والشركات المالية، أو وسائل كمنظومة القوانين التي تحمي حقوق الملكية وتتأكد من أن كل شخص يدفع مقابل ما يحصل عليه، أو حتى المؤسسات السياسية كالدولة، فالدولة في أكثر صورها تجردًا هي محاولة لتنظيم السوق.
نحو اقتصاد تشاركي
بالمثل تحاول تلك التكنولوجيا الرقمية إنشاء تلك الثقة، لكنها تمتلك فكرة أكثر ثورية: لماذا نحتاج لمؤسسات ووسائل وسيطة لنثق في بعضنا البعض بينما يمكن أن نفعل ذلك من خلال الشفرات؟ يمكن لكل قالب من قوالب البلوك تشين أن يحفظ معلومات التحويل المالي أو العقد الذكي الذي أبرمه طرفان، ويعمم ذلك العقد على ملايين الأجهزة حول العالم ويشفر هذا العقد أو التحويل المالي، وبالتالي فلسنا في حاجة إلى اعتراف الدولة أو البنك أو القانون بهذا العقد، لأن العقد الآن أصبح معروفًا للملايين حول العالم. تعمل البلوك تشين في تلك الحالة كأنها أرشيف كبير جدًا مُخزن على كل كومبيوتر مرتبط بالبلوك تشين، بالتالي من المستحيل أن يتلاعب بها أي شخص، والأهم أن من المستحيل أن يتحكم بها أي شخص بمفرده أو أي مؤسسة بمفردها.
من خلال تلك العمومية -أو ما يمكن أن نسميه التشاركية- لا نحتاج إلى الثقة من أجل ممارسة التجارة، لأن الجميع يمكنه أن يراقب الجميع على البلوك تشين، فجميع البيانات موجودة ولا يمكن لأحد أن يعبث بها. تغير مثل هذه التغيرات وجه النظام المالي الذي نعرفه منذ عشرات السنين، وتغير بالتالي بنية الاقتصاد نفسها والأسس التي بنيت عليها الرأسمالية الحديثة. وتجعل تقنية البلوك تشين أيضًا إمكانية خلق الثروة والدخل أكثر تشاركية في العالم الذي نعيشه. ومع أننا نشهد اليوم ثورة حقيقية في مجال الاقتصاد التشاركي، إلا أن شركات مثل Uber وAirbnb وغيرها تدعي أنها شركات تشاركية، لكن ما تفعله تلك الشركات هو أنها تجمع الخدمات وتبيعها وتأخذ عليها عمولة بنفس الطريقة التي تعمل بها البنوك والمؤسسات المالية. ماذا لو حذفنا تلك الشركات التي تقوم بدور الوساطة من المعادلة؟ بالتأكيد سوف تكون هناك إمكانات أكبر للتشارك في عملية خلق الثروة، ويمكن أن تحمل البلوك تشين إمكانات حقيقة لجعل الاقتصاد أكثر ديمقراطية هو الآخر، فمن شأن استبعاد المؤسسات المالية والبنوك من دور الوساطة في الاقتصاد أن يؤدي لثورة حقيقية في الطريقة التي يدار بها اقتصاد البشر.
لمحة عن مستقبل البشرية
ومن شأن تلك التغيرات في البنية الاقتصادية أن تنعكس على المجال السياسي وعلى حياة البشر بشكل عام. وأحد التطبيقات المحتملة لتقنية البلوك تشين في المجال السياسي هو استبدال البيروقراطية العتيدة للدول، على سبيل المثال استبدال الإدارات التي توثق عقود وحقوق الملكية بهذا النوع من العقود الذكية التي يعرفها الجميع ولا يمكن لأحد التلاعب بها. ومن شأن الاستغناء عن الهياكل البيروقراطية الكبيرة في الدولة أن يغير طبيعة السياسة وجوهرها في العصر الحديث التي كانت وما تزال تتعلق بمجموعات من النخب السياسية تدير مجموعات كبيرة أخرى من البشر عبر آليات اختيار محددة مثل الانتخابات وغيرها من آليات الديمقراطية التمثيلية. لا أحد يريد انتخاب ممثل عنه في البرلمان إذا كانت الدولة تُدار بشكل تشاركي عبر البلوك تشين.
لا نعرف على وجه التحديد الإمكانات المستقبلية التي يمكن أن تقدمها تكنولوجيا البلوك تشين ومدى تدخل تلك الإمكانات في العالم الذي يحاول البشر بناءه في المستقبل، لكن المؤكد أن هناك العديد من الإمكانات في تلك التكنولوجيا يمكن للبشر أن يغيروا من خلالها وبشكل جذري أنماط حياتهم وتفاعلهم الاجتماعي. لا يمكن الجزم بأن تقنية البلوك تشين وتطبيقاتها المختلفة مثل الإيثريوم 2.0 سوف تحل مشكلات البشر جميعها، فلا يمكن لتلك التكنولوجيا أن تقضي على الفقر المنتشر في العالم، لكنها بالتأكيد سوف تقلب الأمور رأسًا على عقب إذا ما نجحت في الاستمرار على ما هي عليه اليوم.
صورة الغلاف بواسطة Clifford Photography من Unsplash