الجلوس وحدك في المطعم لا يثير الشفقة
العزلة لا تعني أن تشعر بالوحدة، لكنها تحتاج الممارسة لتستكشف الثراء الحسي الذي يشعر به المنعزلون بعد قضاء بعض الوقت الممتع مع النفس.
قبل فترة قصيرة كنتُ أتحدث مع صديقة عن خططها للسفر، وذكرت لي أنها أجلت الرحلة لأن رفيقتها التي اعتادت السفر معها تمر بظروف صعبة، وهي في مرحلة البحث عن رفيقة سفر بديلة لتستمتع معها بتجارب الطعام والتعرف إلى الثقافات الجديدة. وحين سألتها لم لا تسافر لوحدها؟ طلبت مني أن أتخيل أنها فعلت ذلك، وكم سيكون مثيرًا للشفقة.
شرحت لها ما حدث معي في إحدى المرات حين قررت قضاء بعض الوقت بمفردي عبر دعوة نفسي على وجبة غداء بمطعم، وكيف تخيلتُ في البداية أن طاقم المطعم غير راضين عن وجودي لأني أحتل مساحة طاولة لشخصين. لكن من خلال التركيز على محيطي الخارجي وتذوق النكهات والاستماع لأحاديث الآخرين نسيتُ القلق تدريجيًا وبدأتُ أتخيل شخصيات رواد المطعم وتفاصيل حياتهم خارج تلك المساحة الصغيرة.
وجدتُ التجربة قد «فصلتني» تمامًا عن كل ما يجري معي على المستوى الشخصي، وأنها قد تتفاجأ إذا سافرت بالمتعة التي ستحظى بها؛ لأن حس المغامرة سيكون أقوى. لكن صديقتي لم تتشجع؛ لأن الأمر بدا من سابع المستحيلات لها.
هنا تساءلت عن سبب وجود ما يشبه الاستنكار أو وصمة العار التي تلاحق كل من يستمتع بوحدته ويُنظر إليه على أنه غير مقبول اجتماعيًا، بخاصة من يقرر أداء نشاط متعارف عليه بأنه «جماعي» مثل تناول الطعام في الخارج أو مشاهدة فلم وحده؛ فيراه الناس مسكينًا. هل ذلك لأننا كائنات اجتماعية تفضل الصحبة والبقاء ضمن مجموعات أو ثنائيات، ومن الطبيعي أن نرغب في إعطاء صورة اجتماعية عن أنفسنا ولو لم نشعر بأننا نرغب في الحديث مع أحد؟
اعتقادي أن سبب وصمة العار يعود إلى أمرين، أولهما أن معظم الناس يخلطون بين مفهومي الوحدة (loneliness) والعزلة (solitude). فالوحدة نقص التفاعل من أي نوع سواء مع النفس أو الغير، وقد تسبب الألم أو التدهور النفسي للأشخاص، لكن العزلة وقت مستقطع يختلي فيه الشخص مع نفسه ويقضي فيه وقتًا ممتعًا بممارسة نشاطٍ يستهويه.
ثانيًا: طبيعة الأشخاص أنفسهم لها دور في تفضيل العزلة، قد تكون للأمر علاقة بنوع الشخصية أو ضعف تواصلها مع الآخرين أو مجرد فضولها لاستكشاف النفس والعالم. فصديقتي التي ترغب بالسفر مثلًا تمتلك شخصية اجتماعية منطلقة وأنا أميل إلى الانطوائية (introvert) والهدوء أكثر. ومن ثمَّ ممارسة بعض الأنشطة وحدي يستهويني لأنه يعيدني إلى منطقة راحتي، لكنه قد يدفع بصديقتي إلى الجنون.
وفقًا لدراسة فنلندية تتبَّعت ثمانية وأربعين من المتطوعين ذوي الشخصيات الاجتماعية (extroverts) خلال اثني عشر يومًا لملاحظة ما يفعلونه خلال اليوم الواحد وقياس أثر ذلك في أمزجتهم، فإن الاجتماعيين يستمتعون بالفعل بالتفاعلات البشرية لأنها تُشعرهم بالإيجابية والسعادة. لكن بعد مرور فترة معينة من التواصل الاجتماعي المستمر (ثلاث ساعات حسب الدراسة) يبدأ التعب يساورهم بسبب كثافة التفاعلات الاجتماعية وكمية مجهودهم المبذول خلال ذلك الوقت، وهذا يعني أن التواصل الاجتماعي بحد ذاته أمرٌ مرهق بغض النظر عن كونك منفتحًا أو انطوائيًّا.
لحسن الحظ، في أيامنا هذه تتوافر العديد من خيارات المتعة بوقتك الخاص بعيدًا عن الصورة النمطية للعزلة داخل المنزل، صورة «المرأة المجنونة مع القطط» مثلًا! فالعزلة في نهاية المطاف لا تعني أن تشعر بالوحدة، لكنها تحتاج المزيد من الممارسة لتستكشف الثراء الحسي الذي يشعر به المنعزلون بعد قضاء بعض الوقت الممتع مع النفس. وإن لم تعرف من أين تبدأ فأنصحك بأن تعزم نفسك على وجبة في مطعمك المفضل، وتقضي وقتك معها فحسب.
نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.