لا تصنع من أبويك المسنَّين محتوى

آبائنا وأجدادنا المسنين في حالة لا حول لهم ولا قوة فيها للدفاع عن أنفسهم أو رفض تصويرهم أو حتى تذكُّر من هُم من الأساس.

لا يكاد يمر علينا يوم على منصات التواصل الاجتماعي إلا ويظهر أمامنا فيديو طريف بريء لطفل يلهو بحركات ساذجة أو يتحدث بكلام مُضحك، على الأقل بالنسبة لنا نحن الكبار. وهذه المقاطع تساعد على تهدئة الأعصاب وتُشعرنا بأن الحياة بخير. لكن بدأت مؤخرًا تظهر لي مقاطع «لطيفة» يصوِّر فيها الأبناء آباءهم المسنين. 

الحق يُقال، فإن كثيرًا منها يُدمع العين من لطافته وبراءته: كهذا الفيديو أو هذا. وأنا متأكد من أن نياتهم حَسَنَة في جميع المقاطع التي رأيتها. إلا أن المبالغة في هذا الفعل قد تشيّئ الإنسان إلى سلعة تجلب المشاهدات، كهذا الحساب الذي قارب عدد متابعيه المليونين على تك توك. 

مرة أخرى، ليس لدي أدنى شك في سلامة نيَّة هذا الشخص في نشر فيديوهات أبيه، بل كلها لطيفة وتبعث عقولنا على التفكُّر والتدبر. ولكن في أثناء تصفحي كنت أسائل نفسي: في عالمنا الرأسمالي هذا، كم ستأخذ الشركات من وقت حتى تبدأ تغري صاحب هذا الحساب بعرض إعلانات لمنتجاتها؟ ومن ثَمَّ يستحيل هذا الشخص بكل إنجازاته وإرثه إلى مجرَّد محتوى عن «الزهايمر» يمرُّ عليه الشخص و«يسحب» إلى المقطع الذي يليه.

هذا ما حصل مع «محتوى الأطفال». إذ سرعان ما يتحوَّل الطفل تدريجيًا إلى مجرَّد سلعة تجلب الإعلانات والسُمعة والمشاهدات لا أكثر. ومع فقدان الطفل أهليته في رفض تصويره على يد والديه والتحكم بقرار صناعة المحتوى فلا حول له ولا قوَّة. وهذا بالضبط ما قد يحدث مع آبائنا وأجدادنا المسنين الذين أُصيبوا بمرض «الزهايمر» أو الخرف عند تصوير مقاطع فيديو لهم ونشرها على الإنترنت؛ فهم في حالة لا حول لهم ولا قوة فيها للدفاع عن أنفسهم أو رفض تصويرهم أو حتى تذكُّر من هُم من الأساس.

عندما نأتي إلى التشريع فإن من المسموح لك قانونيًا أن تصوِّر شخصًا في أي مكان عام من دون علمه أو حتى موافقته في معظم دول العالم الغربي كأمريكا وبريطانيا. أما في السعودية فإنها جريمة يعاقب عليها القانون. وعلى رغم وجود قوانين تحمي خصوصية الأفراد في الأماكن العامة فإن تصوير الآباء بهذه الطريقة لا يعد إلى الآن مخالفة قانونية؛ لأن التصوير واقعٌ داخل ممتلكات خاصة ومن ثم فإن الرادع الوحيد هنا هو ذاتي أخلاقي. 

وأريد أن أشدد هنا على حقيقة أنَّ الأشياء يمكن لها أن تُصبح قانونية ولكنها ليست أخلاقية بالضرورة.

قد يرى البعض أني أبالغ في وصفي أو تحفُّظي، ولكنني أنطلق من وجوب الإحسان إلى آبائنا وأجدادنا وعدم الإساءة إليهم. فالمبدأ القرآني لا يكتفي بمجرَّد الاعتناء بهم من مأكلٍ وملبسٍ ومسكن، بل يوجِبُ علينا الإحسان إليهم والرحمة بهم والحفاظ على كرامتهم الإنسانية كما قال تعالى في سورة الإسراء: 

«وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا»

آمل أن نتذكَّر هذا المبدأ القرآني قبل أن ننجرف ونحوِّل آباءنا وأمهاتنا إلى مجرَّد «محتوى». 

الأخلاقالإنسانالمحتوىوسائل التواصل الاجتماعيالرأي
نشرة أها!
نشرة أها!
منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+520 مشترك في آخر 7 أيام