منع الكتب والمحكمة الثقافية في السعودية
منع الكتب في السعودية، ومنع الكتب في أي مكان في هذا العالم، خضع لعقود طويلة لتحكم المسؤولين. تعرّف أكثر على الكتب الممنوعة في السعودية داخل هذا المقال.

منع الكتب في السعودية، إلى جانب منع الكتب في أي مكان في هذا العالم، خضع لعقود طويلة لتحكم المسؤولين. وقدرات الحكومات التي نجحت نسبيًا في إيصال ما تريده إلى العامة، وإبقاء خارج هذه الدائرة ما لا يتفق مع سياساتها العامة أو ماتراه مضرًا بوحدتها أو مخلاً بآدابها العامة. واستمر هذا حتى ظهور المذياع، فالتلفاز، وحتى بعد ظهور الفضائيات. واستمرت الدول بالمحافظة على قيمها الرمزية وثقافتها الداخلية، ثم جاءت العولمة التي سببت خللاً في هذا التوازن ولم يتوقف الأمر عند حد معين، لأن العولمة أردفتها التقنية بقوة هائلة وصار تغلغلها أسهل من أي وقت مضى.
أما بشكل خاص، فإن بعض الدول حاولت جاهدة منع الأمركة والعولمة وحتى الإنترنت من الدخول في مجالها.
تقوم كل من الصين، وإيران، وكوريا الشمالية، بحظر يوتيوب، وتويتر، وشخصيات ثقافية، وكتب، ومسرحيات معينة، وحتى الدول المتقدمة في الحريات، والمتوسعة في الحقوق، تمنع مسرحيات بعينها، أو تضيق الخناق على أعمال ما، كونها منافية لعقيدتها العامة -ولو كان مناقضا لمبادئها.
كل هذا الحجب الثقافي كان للسعودية نصيب منه، ويبقى التساؤل، ما جدوى منع الكتب في زمن الإنترنت الذي يجد كل فرد فيه ضالته؟
وجهت هذا السؤال إلى كل المهتمين والمسؤولين، ودققت بالآليات و الأنظمة المعمولة ومدى فرديتها أو منطقيتها.
في مكتبة وطنية، وجدت كتاب لهاروكي موركامي، كاملاً بدون حذف
في عام 2012، عزمت على شراء عدة كتب للكاتبة أحلام مستغانمي، والتي لطالما أتيحت على الدوام، إلا أن موظف مكتبة جرير فاجأني بقوله إنه تم منع بيع جميع مؤلفات أحلام مستغانمي قبل أسبوعين. أحلام مستغانمي ليست أكثر الكتاب جدلية، ولا أكثرهم إغراقًا في التفسخ الأخلاقي، ومع ذلك طالتها يد الرقيب لفترة ما.
في صدفة أخرى، أثناء تواجدي في المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود وجدت كتاب “شغب” لفيصل العامر ودهشت لوجوده بعد منعه في مكتبة حكومية. و بمكتبة وطنية، وجدت كتاب لهاروكي موركامي، كاملاً بدون حذف أي مقطع كالنسخ التجارية، مع أن موركامي مغرق في كل شيء، ومتجرد من أي شيء، ومن قرأ له سيفهم هذه السطور.
بالمقابل بعض مؤلفات الدكتور غازي القصيبي من المعروف أنها منعت لفترة طويلة حتى عادت بعد وفاته مجددًا إلى القارئ السعودي، بعد أن أعطي تقديرًا من الشأن العام.
أحدهم يذكر إن موظف الجمارك منع كتاب “الذخيرة” للقرافي بسبب تخوفه من عنوانه، وآخر يتهم الهيئة بمنع كتب فلسفية واتهام كتابها بالزندقة.
أسماء اعتدنا تحريمها، نجدها هنا وهناك، تارة في مكتبات متعارف عليها
أسماء اعتدنا تحريمها، نجدها هنا وهناك، تارة في مكتبات متعارف عليها، ومرة تحت الطاولة في معارض الكتاب، وأحيانا عن طريق وسطاء ينقلونها إلى الداخل بشكل شخصي، تطلب اسمًا معينًا أو واحدًا من العناوين الشائكة وتراقب رد الفعل المثير للاهتمام.
كل هذا المنع وعدم المنع، أو بمعنى نظامي “الفسح”، يبدو متأرجحًا بلا محددات، ولا يخضع لآلية واضحة.
في حديث مع الكاتب مبارك الهاجري مؤلف كتاب “أميرهم”، تكلم عن رؤيته لآليات الفسح بعد ثلاثة تجارب للنشر: “لستُ أدري تمام الدراية عن الآلية التي يكون بها الفسح، لا أعتقد أن هناك نظامًا واضحًا يفضي بقلق الكاتب من الهالة التي تصحب مقص الرقيب إلى الاطمئنان. الأمر يعتمد حظًا طيبًا في موافقة المراقب رقم كذا لما جاء في نصك ثم اعتماد مدير الرقابة ذلك. ربما تحسن الأمر مؤخرًا في سعة أفق المراقب وتسهيل الإجراءات؛ لكن هذا لا يعطي مؤشرًا عامًا بذلك، فالنظام ما زال يتراءى من بعيد كسراب، وهذا يفسح تأويلاً آخر ربما كان أكثر دقة من تلك السعة، وهو أن الأمر تحكمه الفردية والمصالح بعيدًا عن أي شيء آخر. المدة التي قضاها آخر كتاب لي في محاكمته هناك، لم تزد عن أسبوعين اثنين، وهذا نسبيًا ليس سيئًا؛ لكنه ليس حسنًا أيضًا”.
ما الآلية المتبعة في منع الكتب؟
لظرافة كلمة المحاكمة حقيقة، ولكل قلق يصحب مقص الرقيب كما عبّر الكاتب، راجعت نصوص نظام المطبوعات والنشر ولائحته التنفيذية، ولم أجد إجابة على سؤال “ما الآلية المتبعة؟” كل ما وجدت هو نصوص عامة، ولا يتبعها تفسير أو آلية مثل المادة التاسعة التي ذكر فيها” أن المطبوعة عند إجازتها يجب أن يراعى فيها ألا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية وألا تفضي إلى ما يخل بأمن البلاد أو نظامها العام أو ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية، وألا تؤدي إلى إثارة النعرات وبث الفرقة أن تلتزم بالنقد الموضوعي البناء.”
كيف يحدد المراقب أن هذا الكتاب يخالف أحكام الشريعة، أو أنه يلتزم بالنقد الموضوعي؟
وعندما توجهت بالسؤال لمدير مكتب المطبوعات -المكتب المسؤول تنفيذيًا عن تطبيق النظام- الأستاذ عبدالله الخرجي، قال: “النظام واضح ويعتمد مراجع الكتب على حسه الرقابي وخبرته بعد الاستعانة بالنظام، ولا يوجد قوائم للكتب الممنوعة وإنما هي معروفة بالخبرة”.
وهذا يعود بنا إلى سيناريو حصل للكاتب مبارك الهاجري مع موظف مكتب المطبوعات الذي رفض اسم روايته:
“كان اسمها في المسودة: “أمير العبيد”، فرفض مدير الرقابة ذلك الاسم، وقال بأن فيه امتهانًا لهم وتحقيرًا لهم. المشكلة الحقيقية بالنسبة لي لم تكن هذه ـ وإن كانت مشكلة أساسية ـ بل كانت لأنه لم يقرأ الرواية. لم يقرأ حرفًا منها. المراقب فيما أذكر لم يضع في تدوينه عن الملاحظات شيئًا عن العنوان، لكنه أصر. حاولتُ معه وقلت بأنك لو اطلعت على الرواية ستجد أن الموضوع مختلفًا ألبتة، لكنه ما زال مصرًا، وناورتُ حتى سميته: أميرهم.”
عبدالله الخرجي من مكتب المطبوعات علق على هذه الحادثة بأنها وجهة نظر الموظف، والمفترض أنه توجه إلى المسؤول عنه!
الرقابة على معرض الكتاب تخضع لثلاث مراحل
ماذا عن آلاف العناوين في معرض الكتاب الدولي، ما هي آليتها؟ يشرحها عبدالله الخرجي من مكتب المطبوعات بأن الرقابة على معرض الكتاب تخضع لثلاث مراحل تبدأ بقوائم مطولة ترسل لمكتب المطبوعات من الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام يخضعها مكتب المطبوعات لاجتهاد موظفيه لفرزها وإصدار الموافقة عليها قبل بداية المعرض بمدة كافية. أما أثناء المعرض فإن 30 مراجع يقومون بجولات ميدانية في معرض الكتاب، ويستقبل مكتب المطبوعات نماذج الملاحظات ويدرسها لسحب الكتاب من عدمه، سواء كانت هذه الملاحظات من العامة، أو من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا يقودنا إلى الجدل الذي قام طويلاً في بيان اختصاص المنع، وإلى من يتبع؟ هل تتدخل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خصوصًا قبل تنظيمها الجديد، ماذا عن الجمارك؟ وقد امتنع عبدالله الخرجي من مكتب المطبوعات على إجابة أي سؤال يتعلق بوقت سابق أو أنظمة فائتة وفضل الحديث عن الوقت الحالي فقط. وبين أن مكتب المطبوعات هو الجهة التنفيذية، وليس لأي من الجهات سوى إرسال نموذج الملاحظات.
ماذا عن زيدان؟
الكاتب يوسف زيدان الذي أثار الجدل في أغسطس الماضي بسبب مواقفه التاريخية، وتصاعد الجدل حتى وصل إلى اتهامه بأن كتبه مسروقة. صرح على صفحته في فيسبوك أن كتبه منعت من معرض الكتاب الدولي 2017 وماكان من إدارة المعرض إلا أن نفت ذلك، وأنها متوفرة للزوار بالفعل، إلا أن هذا الموقف يشوبه عدم وضوح من قبل مكتب المطبوعات، فلم توجه بالمنع وبنفس الوقت لم تقبل إيضاح موقفها حياله.
يهرع مؤلفون سعوديين لدور نشر لبنانية لتجنب كل تلك التعقيدات، والهرب من مراجعات الفسح. حاولت الاقتراب من هذه الدور لمعرفة طريقة التحويل العجيبة للكتب السعودية من الخارج للداخل، بدل أن تكون انطلاقتها من الداخل. الغريب أن دورًا كثيرة امتنعت أن تبدي بأي إدلاء في هذه المسألة، وفضلت أن تجد لها مكانًا مريحًا في الظل على أن تناقش معاملاتها مع الوزارة ودور النشر السعودية التي تعد كفيلة لها نظامًا. وربما كان ذلك ابتعادًا عن شخصنة المواقف، وفردية الرقيب.
منع الكتب في عصر الإنترنت
في الحقيقة الفسح يعني الموافقة وإجازة المحتوى بشكل ما، والموافقة المطلقة لا يمكن المراهنة عليها، فمنع كتب البالغين مثلاً، لن يجعلها مستحيلة الوصول، لكنه سيمنع تطبيعها في واقع المكتبات، لذا على الأغلب لن يفضل أي أحد إجازتها حتى لو كان يطالعها على شاشته كل يوم.
ويوافقنا الكاتب مبارك الهاجري في إجابته على هذا السؤال:
“المنع كقيمة حقيقية لا أعتقد فالفضاء الإلكتروني يعج بكل شيء، أما كقيمة اعتبارية ربما يكون ذلك حين يعبر ذلك الرفض عن موقف علمي أو أخلاقي تجاه محتوى ذلك الكتاب الممنوع، على ألا يدخل في الوصاية، وإن كنتُ أرى الرد على ذلك بالقبول كحرية مكفولة للجميع أفضل بكل تأكيد. المنع نفسه بحاجة ماسة إلى ثقافة حقيقية تحيطه بإطار أخلاقي وعقلاني حتى لا يكرس الهيمنة الجاهلة على أبسط حقوق الناس”.
“هذه السنة فقط كان لدينا 500 كتاب جديد في معرض الكتاب، وهذا رقم خيالي لم تصل إليه السعودية على الإطلاق”
يقول عبدالله الخرجي من مكتب المطبوعات، أننا نتبع منهجًا وسطيًا، ولدينا هامش حرية من الأكثر عالميًا، لكن السمعة السيئة والتصور المسبق يحجب هذه الحقيقة.
أخيرًا، إن الحراك الثقافي لدينا يشهد تطورًا ومحاولات جادة من المؤلفين لانعاشه، وهذا التطور يفترض أن يقابله تطور من جهة المسؤول لتنظيم الإجراءات وإلغاء فرديتها، وضبط حركة المنع، يقول هيثم السيد الكاتب في جريدة مكة “هذه السنة فقط كان لدينا 500 كتاب جديد في معرض الكتاب، وهذا رقم خيالي لم تصل إليه السعودية على الإطلاق”. وبعيدًا عن نقاش جودة محتواها، هل وجدت هي وغيرها من الكتب التي لم تنشر دعمًا ودفعًا لحركة النشر والتأليف بشكل يوافق المتطلبات الثقافية للقارئ والكاتب السعودي، أم سيواجهون في نهاية المطاف حكم النفي إلى دول أخرى ذات فضاء أوسع ويخسرهم؟

