عليك بالصَّمْلة إلى أن تلحق مهاراتك بذائقتك

إن جعلتُ من المثالية هدفي كل أسبوع سأعرِّض نفسي للانهيار تحت الإحباط، لا سيّما في ظل ثقافة الاستقالات السريعة السائدة والتشجيع عليها.

نهار كل جمعة، أتوجَّه إلى مكتبة في مجمع الأفينيوز كل ما فيها مبالغ في سعره، وأشتري منها دفترًا وقلمًا بمجموع عشرة دنانير (121 ريال). هذه العادة الأسبوعيَّة التي بدأتها منذ شهرين حيلة أحثُّ فيها نفسي على الصَّملة في الوظيفة لأسبوع آخر؛ لأنَّ بكل بساطة إن استقلتُ منها لن يكون بوسعي شراء دفتر وقلم من تلك المكتبة. 

وبالفعل، ما إن أخرج من المكتبة وأنا أؤرجح بفخر كيس الدفتر والقلم أشعر بفورة أمل وطاقة تجرف الإحباط المتراكم خلال الأسبوع، لأني خدعت دماغي إلى الاعتقاد أنَّ الكيس في يدي هو النتيجة المثالية التي ينبغي أن يحققها نهاية كل أسبوع. 

فأنت حين تعمل في وظيفة أحلامك التي تتوافق مع موهبتك وثقافتك وذائقتك واهتمامك الشخصي فالإحباط أخطر عليك بكثير من الإرهاق. 

أنا أتمتَّع بموهبة الكتابة والترجمة والتحرير، وأميِّز المقالة الممتازة من بين ألف، لكن في عملي الوظيفي لا أجد تحقيق الهدف بإنتاج المقال الممتاز بالسهولة التي كنت أتخيلها. فأن تمتلك الموهبة والذائقة الممتازة لا يعني أنك تتمتع بالمهارات المطلوبة لإنتاج ما يتوافق معهما، ليس بعد!

تعتمد وظيفة «كبير الكتّاب» (Editor in Chief) على تمتعي بمهارات التواصل مع رؤساء التحرير، إدارة المشاريع، تطبيق الاستراتيجيات، تنظيم متوازن لجدول المهام، القدرة على إيصال الملاحظات التحريرية على نحو فعَّال وواضح للكتّاب، التفاعل الإيجابي مع تعليقات القرَّاء، فهم آليات التسويق، فهم ما تقوله لنا لغة الأرقام عن القرَّاء، متابعة خط تطوُّر النشرات العالمية والمحليَّة، التجديد المعرفي في المواضيع والأفكار، التواؤم مع ثقافة بيئة العمل، التعامل مع تحديات العمل عن بعد، الاضطرار إلى اتخاذ قرارات حازمة أتحمَّل كامل مسؤوليتها. 

هنا أتذكَّر ما سمعته على بودكاست جوليا لوي درايفوس «وايزر ذان مي» (Wiser Than Me) في لقائها مع المحررة وناقدة الطعام الشهيرة روث رايشل البالغة من العمر 75 عامًا، حين سألت روث عن أفضل نصيحة تلقتها في مسارها المهنيّ الطويل. 

حين عُرض على روث وظيفة ناقدة للطعام ومحررة في صحيفة لوس أنجلوس تايمز عام 1984، كانت روث في عمر الخامسة والثلاثين، ولم يسبق أن حظيت بوظيفة ثابتة، كانت فحسب كاتبة حرَّة. أبلغت صديقتها عن العرض وأنها سترفضه، وفورًا أخبرتها صديقتها «بل ستوافقين حالًا، لأنَّك في حاجة إلى العمل في بيئة مؤسسة صحفية تجبرك على تحسين مهاراتك. ولعلمك، لن تنجزي أفضل ما لديك هناك ولن تكتبي العمود المثاليّ كل مرة، لكنك في حاجة ماسَّة إلى الخبرة وتعلُّم الكتابة والتحرير بسرعة وكفاءة بما يتفق مع متطلبات الصحيفة ومواعيدها النهائية.»

وبالفعل، هذا ما حصل. في أعوام عملها في لوس أنجلوس تايمز تعلَّمت روث كيف تطوِّر مهارتها في الكتابة والتحرير من تجربتها وتجربة الكتّاب الآخرين بحيث تخدم ذائقتها الرفيعة في الطعام وموهبتها ككاتبة، وتقولبها كلها في تجربة ميّزتها عن البقيَّة. بعدها انتقلت في 1993 إلى نيويورك تايمز، ثم توَّجت مسيرتها في 1999 برئاسة تحرير مجلة «ذ قورميه» (The Gourmet) حيث زادت مبيعات المجلة الشهرية في عهدها إلى 988 ألف نسخة.

ما أكدته روث هو ما أختبره الآن، إن جعلتُ من المثالية هدفي كل أسبوع سأعرِّض نفسي للانهيار تحت الإحباط وأفرّ، لا سيّما في ظل ثقافة الاستقالات السريعة السائدة والتشجيع عليها في منصات التواصل. لكن إن كان هدفي التعلم والتحسُّن والتطوُّر إلى أن أصل بعملي إلى مستوى ذائقتي وموهبتي سأتشجع كل نهار جمعة على الصملة، وأمنح نفسي أسبوعًا آخر. 

الإنتاجيةالعملرعاية الذاتالرأي
نشرة أها!
نشرة أها!
منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+640 مشترك في آخر 7 أيام