التدوين علاجك للتصالح مع الذات
القيمة الأكبر للتدوين هي في تمكين المدوّن على التبصّر وفَهم ذاته، وتفسير مواقفه بوضوح، وخاصة ما يتعلق بفهم الأحاسيس والمشاعر.


في الأسطر الأولى للرواية الكلاسيكية «أن تقتل طائرًا محاكيًا» (To Kill a Mocking Bird)، تمهد لنا الطفلة سكاوت بداية الحكاية: «وحين مرَّ من السنين ما كان كافيًا لنعود بأفكارنا إلى تلك الأوقات…».
هذه الجملة العادية ما زلت أحفظها، رغم مرور سنوات عديدة على قراءتي للرواية. بالفعل، الحديث عن الأحداث الجليلة في حياتنا ومناقشتها ليس بالأمر الهين. ولذلك نترك الأمر لعامل الزمن كي يمضي بنا إلى تلك اللحظة العشوائية البعيدة، التي نرى فيها أنفسنا قادرين على الحديث عن تلك الأحداث. ثمة الكثير من طرائق العلاج أو الحيل السلوكية، وهنا أقترح عليك إحداها: التدوين.
قد يظن البعض أن للتدوين غرضًا وحيدًا؛ وهو توثيق المهم من الأحداث اليومية. لكن ذلك ليس إلّا فائدة هامشية للتدوين. فنحن قادرون على توثيق هذه الأحداث بالصوت والصورة في منصات التواصل الاجتماعي، بل وتذكّرنا هذه المنصات سنويًّا وشهريًّا بهذه الأحداث. لهذا، فالمدونات الشخصية، كما يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في مقالته المطولة عن «كتابة الذات» (Self Writing)، ليست بدائل للذاكرة.
القيمة الأكبر للتدوين هي في تمكين المدوّن على التبصّر وفَهم ذاته، وتفسير مواقفه بوضوح، وخاصة ما يتعلق بفهم الأحاسيس والمشاعر. إذن التدوين أقرب إلى أن يكون توثيقًا داخليًّا أولًا، نفهم فيه مشاعرنا ونحلّلها.
فعندما نمر بمواقف حياتية مختلفة، وتختلج صدورنا مختلف المشاعر من خوف أو غيرة أو غضب… فإن هذه المشاعر تظل غير ناضجة أو مفهومة، تمامًا مثل الانطباعات الأولى غير المبررة التي بلا قيمة. تساهم كتابة هذه المشاعر في ترتيب ما برؤوسنا، مما يسهّل العملية التالية، وهي فهم هذه المشاعر التي تشكّل جزءًا كبيرًا من ذواتنا.
كثيرة هي المشاعر السّلبية التي تجتاح الجميع، وتشعرنا بالسوء من أنفسنا. فالحسد والغيرة والانفعال ليست من صفات المرء السوي، وإبقاؤها غير مبررة يجعل بيننا وبين ذواتنا هوة مزعجة. لذلك كان التدوين إحدى خيارات العلاج للتصالح مع الذات.
مع الممارسة اليومية، نصبح أكثر شجاعة وتصالحًا مع ذواتنا؛ فلا نحتاج حينها إلى تلك «المسافة» الزمنية العشوائية، التي تدعونا بعد مرورها للعودة إلى الوراء والتأمُّل فيما جرى لنا. بل إنَّ المواجهة الذاتية الآن أصبحت في بيئة أكثر أمانًا.
فالتدوين عملية نقد داخلي، ولذلك هي ناجعة وآمنة. فنحن نتوجس من النقد الذي يأتي من الخارج، وغالبًا ما يكون مزعجًا، وقد يزيد من تحفيز تلك المشاعر السلبية «الغيرة والخصومة إلخ». لكن النَّقد الذاتي عبر التدوين آمن للنفس وأكثر قبولًا.
قد تكون بداية العام وقتًا مناسبًا لبدء هذه العادة الإيجابية، وخطوة أولى للتصالح مع الذات. وقد تساهم أيضًا في ضبط النفس، والحد من تغريداتك الصارخة في تويتر أمام آلاف الناس.


نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.