زياش وحكيمي.. صناعة التاريخ بهوية مغربية
لا يلعب منتخب المغرب بتكتيكات معقدة أو تفاصيل فنية، لكنه في المقابل يملك مديرًا فنيًّا قادرًا على إدارة غرفة اللاعبين بامتياز.
يمكنك قول «كأس عالم مارادونا» وسيفهم الجميع على الفور أنك تقصد كأس العالم 86، لكنك إذا كنت ناطقًا باللغة العربية؛ فأنت تملك خيارين لذكر تلك الكأس، كأس مارادونا أو «كأس الزاكي وبودربالة».
صنعت المغرب التاريخ حينذاك بالتأهل إلى الأدوار الإقصائية متصدرةً على حساب فرق مثل إنقلترا والبرتغال، ويبدو أن المغاربة يجيدون صناعة التاريخ في كأس العالم؛ فبعد محاولات عربية دامت 36 عامًا وحدها المغرب من استطاعت إعادة كتابة التاريخ.
تأهلت المغرب خلال مونديال قطر 2022 على رأس مجموعة شملت كرواتيا وبلجيكا وكندا. يعرف الناس قصة الزاكي ودربالة الخالدة، والآن دورنا لنحكي قصة زياش وحكيمي والركراكي، التي حتمًا ستظل في قلوب الكثيرين سنوات قادمة.
قبل ثلاثة أشهر فقط عُيِّن وليد الركراكي لقيادة منتخب المغرب خلال مباريات كأس العالم. وفي الأشهر الثلاثة تلك عرف الركراكي ماذا ينقص منتخب المغرب تحديدًا، وبمجرد وضعه قطعةَ البازل الناقصة في مكانها الصحيح ظهرت لنا الصورة المثالية لأسود الأطلس.
كانت القطعة الناقصة تلك شعورُ أفراد المنتخب أنهم عائلة واحدة. ألّا يُقسَّم المنتخب على الدوام إلى مغاربة أصليين ومغاربة مهجر أو لاعبين دوليين وآخرين محليين. ألا تُوجَّه الدعوة لأي لاعب محترف يحمل الجنسية المغربية لتمثيل المنتخب لمجرد كونه محترفًا. أن يكون قميص المغرب فخرًا لمن يرتديه لا عرضًا عبر الإيميل للاعبين لم يزوروا المغرب من قبل.
هذا التصدع في صفوف المنتخب عبَّر عنه مدربه السابق خليلوزيتش عندما قال صراحةً إن حكيمي -على سبيل المثال- يلعب كرة القدم، لكن لاعبي الدوري المحلي يلعبون رياضة أخرى. كانت إشارة واضحة أن معسكر منتخب المغرب على الدوام منقسم لأكثر من معسكر داخلي.
وُلد الركراكي في فرنسا، ولعب لمنتخب المغرب، لكنه كان مدربًا في البطولة المحلية منذ أشهر قليلة، لذا فهو يملك المزيج المثالي لعلاج هذا الصدع. يعرف طبيعة اللاعب المحترف كما يتفهم دوافع اللاعب المحلي، لذا قرر أن يقدم حلًّا سحريًّا للجميع؛ كلنا مغاربة، والأفضل فقط مَن يستحق اللعب ليدافع عن ألوان الوطن. أصبح المنتخب أسرة مترابطة، وكان هذا في صالح المحترفين قبل المحليين. ويبدو حكيم زياش مثالًا واضحًا لهذا الحديث.
لا تمر شهور زياش الأخيرة رفقة تشيلسي على ما يرام. لا يشعر زياش أنه مهم للفريق اللندني، يبدأ معظم المباريات من دكة الاحتياط ولا يحتفل بعد تسجيل الأهداف. بدأ نجم زياش يخفت مع الوقت، ثم جاء كأس العالم ليكون فرصة مثالية ليستعيد زياش بريقه أكثر من أي وقت مضى.
شعر زياش أخيرًا أنه رفقة أسرة مترابطة ولا مجال أن يتراخى أبدًا، فلا سبيل لكسر قلوب ملايين المغاربة والعرب المتعلقة بزياش ورفاقه. لأول مرة يبدو زياش هادئًا ومباشرًا ومؤديًا أدوارَه دون زيادة أو نقصان. لأول مرة يبدو كدُرَّة التاج وسط فريق كل عناصره من الكبار، لكنهم ارتضوا حبًّا التماهي مع قميص الوطن.
ظهر منتخب المغرب متخمًا بالنجوم المؤثرة في أنديتها تأثيرًا كبيرًا. بونو نصف قوة إشبيلية الدفاعية، وحكيمي ظهير بصفة صانع ألعاب في باريس، وسفيان مرابط يحمي وسط فيورنتينا على الدوام. كل هؤلاء لم يحاولوا خلق مراكز قوى داخل الفريق، بل تكاتفوا في إيثار لخلق هوية جديدة تخص منتخب المغرب الوطني ذا الأداء الرجولي القوي.
لا يلعب منتخب المغرب بتكتيكات معقدة أو تفاصيل فنية، لكنه في المقابل يملك مديرًا فنيًّا قادرًا على إدارة غرفة اللاعبين بامتياز. كأن روح أنشيلوتي حضرت في جسد الركراكي، فأصبح والد اللاعبين الروحي على الرغم من صغر سنه. والنتيجة منتخب كبير ماتع يلعب من القلب ويهزم المنتخبات الأوربية تباعًا.
التقطت الكاميرات، عقب فوز المغرب أمام بلجيكا، مشهدًا يفسر كل شيء؛ توجه حكيمي نحو المدرجات لاحتضان والدته المتشحة بعلم المغرب، ثم أهداها قميصه وقبَّل رأسها. هذا هو منتخب المغرب بهويته الجديدة، لاعبون محترفون في أفضل الأندية متمسكون بجذورهم المغربية، ومن أجل المغرب فقط يصنعون التاريخ.