مبابي في قطر: كلمة فرنسا السحرية
يريد مبابي أن يكون، الوحيد الذي أتي بكأس العالم مرتين متتاليتين. أن يتوج بلقب هداف كأس العالم الحالي، ثم الهداف التاريخي للبطولة.
توقع الجميع ظهورًا باهتًا لفرنسا خلال بطولة كأس العالم قطر 2022، مثلما هي عادة حامل اللقب خلال النسخ الثلاث الأخيرة. لكن وعلى العكس تمامًا ضمنت فرنسا التأهل بعد مرور جولتين فقط. كان ذلك بفضل الرجل الذي أحرز ثلاثة أهداف وصنع آخر؛ ويواصل التألق في كأس العالم وكأنه يلعب في حديقة منزله؛ كيليان مبابي.
تفوق مبابي بفضل الأهداف الثلاثة تلك على أسماء أسطورية مثل بابان وفونتين، وجاور زيدان في قائمة هدافي المنتخب الفرنسي بواحد وثلاثين هدفًا، لكن الفرق أن مبابي لم يكمل أربعة وعشرين عامًا بعد.
احتاج مبابي إلى تسع مباريات فحسب ليحرز سبعة أهداف في كأس العالم، أقل بهدف وحيد من أهداف ميسي ورونالدو اللذين شاركا في خمسة كؤوس عالم متتالية وحققا الرقم نفسه، بعد أن تجاوزا الخامسة والثلاثين عامًا. وحده بيليه من استطاع تسجيل هذا العدد من الأهداف في هذا العمر، يحتاج مبابي اليوم إلى هدف ضد تونس لكي يكسر رقم بيليه شخصيًا.
بدأت رحلة مبابي مع كأس العالم في روسيا 2018، لم يكن منتخب فرنسا مرشحًا أساسيًّا لنيل تلك البطولة، لولا هذا المراهق الأسمر، القادم من ضواحي باريس الفقيرة. تجسد كل ذلك في مباراة فرنسا ضد الأرجنتين بدور الستة عشر، احتاج الفتى كيليان مبابي إلى خمس دقائق فقط ليحرز هدفين، ويحرم ميسي من حلمه المنتظر، ويبدأ حلمه الخاص.
دخل التاريخ بصفته أصغر هدافي فرنسا في كأس العالم، وعادل سجل بيليه بوصفه أصغر لاعب يسجل هدفين أو أكثر خلال جولة خروج المغلوب، بل وركض حينها بسرعة 22.9 ميلًا في الساعة، فيما يعادل رقم يوسين بولت الأولمبي في سباق 100 متر، والأهم أنه قاد فرنسا بالفعل لتحقيق البطولة، ليؤكد أنّه الرجل الأوفر حظًا للوقوف فوق قمة كرة القدم، تلك القمة التي كانت حكرًا على رونالدو وميسي لسنوات عديدة.
لم يقف مبابي على القمة مثلما توقع الجميع، بل ذهبت التوقعات نحو نيمار، الذي ظل أعوامًا في انتظار دور النجم الأوحد، لكن الأرقام لم تقف إلى جواره، وقفت الأرقام جوار أسماء مثل ليفاندوفسكي وبنزيما وصلاح، وظل موقف مبابي مبهمًا.
لم يتعرض مبابي إلى هبوط في مستواه أو إلى إصابة طويلة الأمد أبعدته عن التوقعات؛ لكن السبب الظاهر لنا هو تغير خريطة الكرة على مستوى الأندية بوجود نادي باريس سان جيرمان. لأنه في ظروف طبيعية كنا سنرى مبابي في ريال مدريد وحوله آلاف الكاميرات، وفي جعبته أكثر من كرة ذهبية. لكنه عوضًا عن ذلك وجد نفسه رمزًا لفريق يحاول فرض نفسه بصفته قوة عظمى بين فرق أوربّا التاريخية.
حاول ريال مدريد أن يظفر باللاعب الاستثنائي، يومها تدخلت الأموال؛ إذ عُرِضت عليه مبالغ خيالية وسلطة شبه مطلقة من فريق باريس، ثم تدخل الرئيس الفرنسي ماكرون شخصيًّا في الأمر، قال له ماكرون:
لا أريدك أن تغادر الآن، أنت مهم جدًّا لفرنسا
لتكن فرنسا كلمة السر إذن؛ قرر مبابي أن ينتزع قمة العالم من الجميع بقميص الديوك لا بقميص الأندية، ولا فرصة أفضل من فرض أفضليته على الجميع من كأس العالم، فعلها مراهقًا في روسيا، وعزم أن يكررها هنا في قطر، دون أن يعطي إلى أحد فرصة التشكيك أنه المُنتظَر.
هكذا ظهر مبابي لاعبًا مرعبًا خلال مباريات الدور الأول؛ أثبت ببساطة أنه قادر على تعذيب أي مدافع يجرؤ على الوقوف في طريقه. والأهم أنه يلعب على طريقته الخاصة، يمرح مثل طفل مسببًا المشاكل في دفاع كل الفرق، مستمتعًا بزئير الجماهير كلما لمست أقدامه الكرة.
يستمتع مبابي كونه نجم فرنسا الأوحد في بطولة ضخمة مثل كأس العالم. هنا لا مجال أن يشاركه النصر أسماء مثل ميسي ونيمار، لا مجال لشخصية البطل التي تُبعث في قميص ريال مدريد في الدقائق الأخيرة، ولا مجال لقوة الإعلام الإنقليزي الذي يجعل هداف الدوري الإنقليزي الممتاز (Premier League) فوق مرتبة البشر. في هذه البطولة لا يوجد نجم مثل مبابي، ومن خلال تلك البطولة سيقف على قمة كرة القدم لسنوات طوال.
لم يرتبط مجد بيليه باللعب لسانتوس، بل لكونه أيقونة البرازيل تربع فوق القمة. ترك مارادونا عشاقًا له بقمصان برشلونة ونابولي، لكن في المقابل وضِعت صورته فوق ملايين الجدران في كل أنحاء العالم بقميص الأرجنتين التي جلب لها الكأس والفخر والمتعة.
هكذا يريد مبابي أن يكون، الوحيد الذي أتي بكأس العالم مرتين متتاليتين. أن يتوج بلقب هداف كأس العالم الحالي، ثم الهداف التاريخي للبطولة، مجردًا كلوزة من لقبه وصانعًا تاريخ لن يتكرر. هذا الفخر يكفيه لما تبقى من عمره مع الكرة، ويضعه في مكانه المناسب فوق قمة كرة القدم. بينما يُوثق الكثيرون رقصات ميسي ورونالدو الأخيرة في كأس العالم؛ قد يجبر الفرنسي الصغير كل هؤلاء على توثيق تاريخ جديد تمامًا، يظهر خلاله بطلًا مفردًا، حتى ولو ظلَّ داخل فرنسا إلى الأبد.