الدّاجون في الأرض!

بعد أن قلبت بصري بين المستشارين، عقدت العزم على أن أصبح مستشارًا، ولكني لم أقرر بعد في أي مجال سأقدم استشاراتي للعالمين.

أظن أيها الناس أني قد توصلت إلى سبب منطقي للازدحام المروري، ففي كل مرة أخرج إلى الطريق يشغلني سؤال عجزت عن الوصول إلى إجابته بشكل يرضي فضولي. من أين يأتي كل هؤلاء؟

ثم إني بفضل من الله وتوفيقه استطعت الوصول إلى فتح مبين في الإجابة على ذلك السؤال المؤرق.

هؤلاء مستشارون وخبراء استراتيجيون، ويمكن التأكد من هذه الحقيقة من خلال النظر إلى وسائل التواصل وإلى القنوات التلفزيونية. حيث يتضح أن البشر العاديين الذين يبحثون عن الاستشارة مجرد أقلية بائسة صادف وجودها الفترة الزمنية نفسها التي يحتل فيها المستشارون كوكب الأرض.

والخبراء والمستشارون ليسوا فئة واحدة؛ فهناك العسكريون، والسياسيون والاقتصاديون والاجتماعيون والرياضيون.

والخبير العسكري -على سبيل المثال- في الغالب يكون عسكريًا لم يشهد في حياته معركة واحدة، ولم يقابل عدوًا حتى في الحارة التي يسكنها. وربما كان الانتصار الوحيد الذي حققه في حياته هو انتصاره الساحق على خصمه في لعبة الطاولة أو البلوت -تختلف اللعبة باختلاف منشأ الخبير. لكنه يمتلك العنصر الأهم الذي يحتاجه كل خبير ولا يستغني عنه مستشار، وأعني الثقة بالنفس، وإيمانه بالقدرة على الحديث في أمر لا يحسن عمله.

أما المستشار الاقتصادي ففي الغالب الأعم أنه ورث مبلغًا كبيرًا من والده الذي لم يكن مستشارًا اقتصاديًا ولا خبيرًا ماليًا واكتفى في حياته بالعمل فقط. وغالب هؤلاء لديهم مشكلة شخصية واضحة مع أكواب القهوة. فهم يعتقدون أن إيلون مسك وبيل قيتس وغيرهما من الزملاء فاحشي الثراء لو كانوا يشربون القهوة يوميًا لكانت أعظم مشاكلهم الآن هي «إيقاف الخدمات» وانتظار الفرج من منصة «فرجت». 

وأعرف مستشارين اجتماعيين وأسريين يوزعون النصائح عن الحياة على أمثالي من الخلق البائس، وهم في واقع الأمر يعانون من مشكلات أسرية واجتماعية تحتاج إلى عقد جلسات طارئة لمجلس الأمن، وبعضها لا يمكن حلها إلا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

المحللون السياسيون والرياضيون في الغالب يمكن تصنيفهم في فصيلة واحدة، فهم مشجعون أكثر منهم محللين. ومع اختلاف المصطلحات التي يستخدمها المحللون الرياضيون والسياسيون إلا أنها تسير نحو فكرة واحدة وهي أن فريقنا الأفضل والآخرين يتآمرون علينا والتحكيم منحاز ضدنا. ويعتمد أسلوبهم في إقناع الآخرين على الصراخ. كما أظن أن مرجعهم اللغوي في الشتائم واحد لأنهم في المجمل يستخدمون الشتائم نفسها.

ولعل بعضكم -أو كلكم- يظن أني ألوم هؤلاء، وهذا ظن آثم في غير محله. فهم لا يلامون في حال تحقق شرطين أو أحدهما على الأقل، الأول -وهو شرط مهم- أن يكون هناك من يسمع لهم ويصدقهم. والآخر -وهو الأهم- أن يكون هناك من يدفع لهم أموالًا مقابل النصائح والاستشارات التي يقدمونها.

Giphy 9 1
تأمّل الحال / Giphy

والهوس بتقديم النصائح للآخرين بدا لي أنه شرط أساسي لوجود الناس في مواقع التواصل، ففي اللحظة التي تنتهي فيها من إجراءات تسجيل حسابك في وسيلة من وسائل التواصل فإنك تضع حجر الأساس لتكون مستشارًا. ولا تقلق، فالخبرة والفهم والعلم والدراية أمورٌ ثانوية، حضورها لا يفيد وغيابها لا يضر. وحين تصبح مشهورًا فستجد أن أتباعك يؤمنون بك، وبأنك مستشار بمواصفات نبيّ. شهرتك هي العصمة التي يعتقد الأتباع أنها تحول بينك وبين الخطأ، وأنك حين تحدثهم عن حياتهم وتخبرهم كيف يعيشون وكيف يموتون فإنك غالباً لا تنطق عن الهوى.

ثم إني بعد أن قلبت بصري بين المستشارين، عقدت العزم على أن أصبح مستشارًا، ولكني لم أقرر بعد في أي مجال سأقدم استشاراتي للعالمين. لعلي أميل إلى أن أكون مستشارًا ماليًا، أقدم نصائح عن طرق الادخار وكيف يصبح الناس أغنياء لو توقفوا عن تناول القهوة والشاهي، وكيف يصبحون فاحشي الثراء لو توقفوا عن الأكل والشرب وسائر الأمور التي تؤدي إلى تبديد الأموال.

وربما أكون مستشارًا في تعليم الناس كيف يصبحون مستشارين!

الإنسانوسائل التواصل الاجتماعيالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!