إدفارد مونك: كيف غيرت الصرخة وجه الفن التشكيلي
بعد أكثر من قرن من الزمن لا تزال لوحة إدفار مونك من أشهر اللوحات الفنية، مالذي يميزها؟ وماذا تقوله عن فن مونك وفلسفته؟



في عام 1893، رسم الفنان النرويجي إدفارد مونك تحفته الأشهر “الصرخة” المعروضة في معرض “مفازات الروح” المقام حاليًا في مركز إثراء بالتعاون مع متحف إدفارد مونك في النرويج.
كانت هذه هي النسخة الأولى من بين 4 نسخ أصلية رسمها مونك، إضافةً إلى عدة أعمال مشابهة مهّدت لها واستلهمها من نفس الموقف، مثل لوحة “اليأس” المعروضة أيضًا في نفس الجناح.
انتشار الصرخة
وبالرغم من أن الذوق الفني الرائج بعد وفاة مونك تخلى عن التعبيرية ونحا إلى التجريد، إلا أن اللوحة احتفظت بشعبيتها بل وتزايدت شهرتها مع مرور الوقت، فظلّت هدفًا لعمليات السرقة التي تستهدف الأعمال الفنية، واستمرت في إلهام عدد كبير من الفنانين الذين صنعوا منها نسخهم الخاصة.
من رسام البوب الشهير آندي وارهول، إلى الرسامين الكاريكاتوريين وحتى رسامي الديجيتال وأفلام الرسوم المتحركة في الألفية الجديدة، بل إنها حُولت إلى وجهٍ تعبيري “إيموجي” يُستخدَم في دردشات الهواتف الذكية.
ويمكن القول إن “الصرخة” بلغت اليوم من الرواج إلى حد أنها تُعتبر اللوحة الأشهر في تاريخ الفن مع الموناليزا لدافنشي، رغم قصر عمرها بالمقارنة. لكن على عكس الموناليزا، فإن الصرخة قادرة على التواصل حتى مع من لا يفهمها.
إنها تخطف الأنظار ليس لأنها مشهورة فحسب، ولا بسبب أهميتها التاريخية أو سعر بيعها المرتفع، إذ أصبحت أغلى لوحة تباع في مزاد عام 2012 بسعر 120 مليون دولار-، حيث أن المذهل فيها قدرتُها على أن تترك أثرًا شخصيًا لدى كل من يراها، شاملةً بالتساوي خبراء الفن وعامة الناس وحتى أولئك الذين لم يقفوا قبلها أمام لوحة.
لقد رسم إدفارد مونك تلك الهيئة البشرية دون ملامح محددة ولا جنس ولا هوية، ليسمح لأي شخص يراها أن يرى نفسه فيها ويربطها بتجاربه الخاصة، لكن هذا وحده لا يكفي لتفسير حجم ورقعة التأثير الذي تركته اللوحة. ويبقى السؤال: مالذي يمنحها -مع بقية لوحات مونك- هذه القوة التعبيرية الثابتة؟
تحليل قوّتها
لطالما كانت الإيحاءات الجسدية تحتل مكانة مركزية في الرسم، فكل تصوير للجسم البشري يقول شيئًا عن صاحبه: حالته النفسية والفكرية ومكانته الاجتماعية بل وحتى أحوال عصره.
لكن مع مونك ارتفعت أهمية الجسد إلى مرتبة التماهي مع الروح، فأصبحت ملامح الجسد تحمل تصويرًا حادًا للمشاعر وأعنف الأفكار وليس فقط دلالات متوارية على اختلاجات خفية.
وللمرة الأولى في تاريخ الفن ذابت الحدود بين الداخل والخارج بهذا القدر من التداخل، بل ذابت الحدود أيضًا بين الإنسان وما يحيط به.
ففي لوحة الصرخة، رسم مونك ذلك المنظر الدامي للسماء فوق الجسر بخطوط ثقيلة، تنحني محاصرةً الأفق، كما لو أن السماء الحمراء تصرخ، ونرى تلك الخطوط المنحنية تتكرر في الطريقة التي رسم بها الوجه ويديه محمولتين إلى أذنيه، فيما يفتح فمه في هلع وكأنه بدوره يصرخ في توازٍ مع صرخة الطبيعة، الأمر الذي يجعل اللوحة معبرة حتى دون ألوان كما في نسخة الطباعة الحجرية الموجودة في المعرض.
وعلى حد تعبير مواطنه الروائي النرويجي كارل أوفه كناوسغقارد، فإنه بسبب هذه التعبيرية أعاد مونك الإنسان لواجهة الفن التشكيلي بعد أن تراجع حضوره أثناء حقبة الرومانسية لصالح تصوير الطبيعة المتسامية عليه.
كانت اللوحات الرومانسية تصور الجبال كبيرة ضخمة، والبحر واسعًا عميقًا، والأشجار سامقة كثيفة، ويظهر الإنسان بجوارها ضئيلًا. لكن مونك عكس كل هذا، فأصبح الإنسان يحتل المكانة الرئيسة في اللوحة، وكل ما حوله أصبح تابعًا له ومسخرًا للتعبير عن حالته. وكما يقول كناوسقارد:
“ما إن صار الإنسان في الصدارة، حتى بدا أن لا عودة إلى الوراء”
وكان ذلك هو التأثير الأكبر لمونك في الفنانين الذين تلوه، إذ أصبح التعبير عن فردانية العوالم الداخلية للإنسان السمةَ الرئيسة للفن الحديث، حيث يمكن أن يُفسَّر كل عنصر في اللوحة كاستعارة رمزية لشعور بشريّ.

الطفلة المريضة
مثل معظم الفنانين العظام، كانت أعمال إدفارد مونك تجسيدًا صادقًا لحياته البائسة. فقد كتب في أحد يومياته:
“لقد عايشتُ لوحاتي كلها شخصيًّاً. لوحاتي هي مذكراتي”
كان مونك طفلًا عليلًا، نشأ في بيت تزدهر فيه الاضطرابات النفسية والجسدية، ففي الخامسة من عمره توفيت أمه بالسل، ثم لحقتها أخته بنفس المرض وهو في الثانية عشر. ولهذا قال:
“إن المرض والجنون والموت هم ملائكتي السود الذين وقفوا بجانبي منذ ولادتي”
كان لوفاة شقيقته تحديدًا تأثيرًا على مونك. وهي الذكرى التي استرجعها بالتفصيل بعد أعوام عديدة في لوحته الشهيرة “الطفلة المريضة”. نرى في اللوحة شعر شقيقته الأحمر يتباين بحدة مع ردائها الأخضر وهي تستلقي على السرير متماهية مع الخلفية الخضراء.
الأمر الذي يفسر سبب ارتباط هذا اللون في ذهن مونك بالمرض، ولماذا سيختاره لاحقًا للوجه في لوحة “الصرخة”، وقبلها أيضًا في لوحة “اليأس” حيث نرى الرجل يمشي على الجسر بوجه أخضر يوحي بالغثيان الوجودي، فالوجه الأخضر أصبح دلالة تعبيرية متكررة لدى مونك ليس لمرض الجسد فقط بل لمرض الروح أيضًا كما في اللوحات التي رسمها عن الغيرة.
كما يمكن -إذا حدقنا عن قرب في الأخت المريضة- أن نرى أيضًا حولها خطوطًا متعرجة وما يشبه الخربشات البيضاء، الأمر الذي فسره لاحقًا بقوله:
“لقد أردت أن أجعل المزاج متذبذباً، كما يحدث في الفونوقراف”
كان توماس أديسون قد اخترع الفونوقراف قبل سنين قليلة من رسم مونك لهذه اللوحة، ولأول مرة أصبح من الممكن تسجيل أصوات البشر وإعادة سماعها حتى بعد موتهم.
ومن الواضح أن الأصوات الشبحية لهذا الاختراع تركت أثرًا لدى مونك، فقد استعاد صورة أخته بعد وفاتها بعشر سنين كما يمكن للفونوقراف أن يعيد شخصًا من الموت عبر صوته المصحوب بالخربشات في الأسطوانة.
كانت “الطفلة المريضة” هي التحفة الأولى التي رسمها وهو لم يتجاوز بعدُ الخامسة والعشرين من عمره.
لكن الناس وقتها لم يروا ذلك، فقد لعن النقاد هذه اللوحة بالذات في معرضه الشخصي الأول، وسخر الجمهور من أسلوبه غير الواقعي الذي شعروا أنه يتعمد استفزازهم.
لكن بسبب الضجة التي أثارها المعرض، نجح إدفارد مونك في الحصول على منحة فنية مدة عامين في باريس.
وهناك زار متحف اللوفر واطلع على أساليب الفنانين الانطباعيين، وكان لهذا أثر كبير على أعماله.
ولعل هذا التأثير يكشف الكثير عن أهمية استضافة مركز “إثراء” للمعارض العالمية لكبار الفنانين، وأثر ذلك على الفنانين المحليين، إذ يصبح الوقوف أمام لوحة شهيرة أشبه بورشة دراسية توسّع آفاق المتلقي وتمنحه تصورًا أوضح للأساليب الفنية المعقدة.
فلسفات مونك
وفي حالة مونك بالتحديد يمكن لرؤية لوحاته في الواقع أن تلفت انتباهنا إلى التفاصيل الدقيقة مثل الخربشات البيضاء الآنف ذكرها، وتعمده ترك بعض الفراغات دون تلوين، وضربات فرشاته الثقيلة أحيانًا بشكل يبدو عشوائيًا في الصور لكن نرى مدى دقته وانتظامه وتناظره إذا وقفنا أمام اللوحة و شاهدناها من زوايا مختلفة.
لقد كانت الانتقادات التي تعرض لها مونك مبكرًا ترجع بدرجة كبيرة إلى ارتكابه مثل هذه المخالفات التي لم يكن مُعترفًا بها في الأوساط الفنية وقتها، لكنها بالتحديد نوعية الابتكارات التي تبقيه ملهمًا للعديد من الفنانين اليوم، لأنه اتبع حدسه دائمًا وخلّص الفن من القواعد غير الضرورية وظلّ مثالًا للفنان المجدد المتفرد.
كان مونك يتحدث دائمًا عن أهمية عدم اتباعه لغيره، وألا يجعل الفنان من نفسه مقيدًا إلى أسلوب مدرسة فنية دون غيرها. فقد استفاد من جميع المدارس الفنية المحيطة به، وظل يطور نفسه باستمرار بمعزل عن الآراء المحافظة للنقاد والجماهير الذين لم يفهموا فنه في البداية.
وحين عاد إلى النرويج بعد عدة أعوام أخرى قضاها في الخارج -أنتج خلالها سلسلة أعمال “إفريز الحياة” وذاع صيته في كل أنحاء أوربا وارتفع سعر لوحاته حتى أصبح ثريًا-، وجد نقاد بلده أنفسهم مجبرين على الاعتراف بفنه والتراجع عن آرائهم ونظروا إلى لوحاته بعين جديدة.

ولعل اطلاع مونك على متطورات عصره -بما فيها الاكتشافات العلمية والتطورات التقنية- كان له دور مهم في أن يصبح سابقًا لزمنه بعكس نُقّاده ومعاصريه المتحفظين.
مونك وتقنيات القرن العشرين
فإلى جانب تأثره السابق بالفونوقراف، كان مونك مولعًا بالصور الفوتوقرافية والسينما الصامتة التي بدأت في الرواج مطلع القرن العشرين. وقد التقط بعض الصور الفنية التي لا زالت محل تقدير، وصوّر بعض الأفلام القصيرة، وأعاد إنتاج بعض لوحاته مستخدمًا مختلف أساليب الطباعة الحديثة.
لكن هذه التقنيات الحديثة لم تحد من مخيلته في الرسم بقدر ما وسعتها، وفتحت للوحاته مجالات تعبير جديدة كما يقول:
“لقد كان الناس قانعين بالاكتشافات التي تم إحرازها، ولم يفكروا في حقيقة أن عددًا أكبر من الاكتشافات يجلب معه عددًا أكبر من الألغاز”.
لغز الصرخة
وبالعودة إلى لوحة الصرخة، نجد أن هذا الشعور الثابت باللغز هو ما يجعل منها لوحة خالدة.
فلا زلنا حتى اليوم لا نعرف مصدر صرخة الطبيعة تلك، واللغز الأهم هو لماذا ننجذب لمنظر مزعزِع كهذا عوضًا عن أن نشيح عنه بأبصارنا؟ هل لأن الخوف ضروري لنا لنكتشف أنفسنا، كما كان ضروريًا لمونك لينتج فنه؟
لقد حلل النقاد الفنيين اللوحة بالكثير من التفصيل، حتى تدخل العلماء في تفسيرها وأحالوا لون السماء الأحمر إلى ظاهرة فلكية كانت تُرى في أوروبا عام 1883، وهي ظاهرة غروب الشمس المتوهج الناتجة عن انفجارٍ بركاني كبير في إندونيسيا، إذ تشير سجلات تلك الفترة إلى أن الظاهرة رُصدت في سماء كريستيانا حيث كان يعيش مونك.
لكن لو كان حل اللغز بهذه البساطة لما خلدت اللوحة، فقد اعترض المحللون الفنيون على هذا التفسير لأن مونك لم يكن يرسم الظواهر كما يراها، بل كان ينتقد التصوير الواقعي للطبيعة. وهذا ما عبر عنه حين قال:
“إن الطبيعة ليست فقط ما هو مرئي للعين، بل تشمل أيضًا الصور الداخلية للروح”
لم يرسم إدفارد مونك مجرد هيئات بشرية أو ظواهر طبيعية، بل أرواحًا فصّلها بكل ألوانها وأطيافها وجوانبها المتضادة في أشد لحظاتها معاناة وطلبًا للعون أو بحثًا عن العزاء، لنرى عللها وصراعاتها وأثر التجارب القاسية باديًا عليها، ليوقظنا حين نشعر أننا غافلون، فيشحن انتباهنا إلى العالم من حولنا، كما يوفر فسحة للتنفيس ضد كل ما نرزح تحته من تجارب مؤلمة.
“أنا لا أؤمن بالفن الذي لا ينبثق للوجود من توق الإنسان لأن يفتح قلبه”
لقد كان نموذجًا في التعبير الفني الصادق الحاد في صراحته وأمانة تعبيره عن روح عصره، وهذا ما يحتاج فنانو اليوم أن يستلهموه منه أكثر من أي أسلوب أو تفاصيل فنية، لأن حياتنا الحديثة -بكل ما تجلبه من اكتشافات علمية وتطورات تقنية متسارعة أكثر من أي وقت مضى- ربما تجلب معها حاجةً لصرخة جديدة.

