التكلفة الحقيقية لاستقدام العمالة الوافدة

في رحلتنا نحو تحقيق أحد أهم أهداف الرؤية «اقتصاد مزهر»، يصبح بناء قوة استهلاكية محلية واقعٌ لا مفر منه.

تريليون ونصف ريال سعودي، إجمالي ما حولته العمالة الوافدة في السعودية في السنوات العشر الأخيرة فقط. ولتتخيل عظم هذا المبلغ، تصوَّر أن من بين الميزانيات العشرة السابقة جرى تحويل ما يعادل ميزانية سنة ونصف بالكامل. 

وعلى الرغم من ضخامة هذا المبلغ الهائل، فإني لن أتحدث هنا عن الضرر المباشر لهذه الحوالات، سواء أكان واقعًا على الميزان التجاري العام، أم على احتياطات الدولة. بل سأوضح الخسارة الهائلة، غير القابلة للتصديق، التي تتسبب بها العمالة الوافدة على اقتصاد السعودية بشكل غير مباشر، والفرصة الضائعة التي قد تصل إلى تريليونات الريالات من الناتج المحلي. 

القوة الشرائية المفقودة

يتمثل خلل سوق العمل هنا في شقين، الأول وجود نحو 1.5 مليون مواطن خارج سوق العمل. وهذا لا يعني عدم وجود دخل يصرفون منه ويساهمون به في الاقتصاد المحلي فحسب، بل يعني تحمُّل الدولة تكلفة تعويض البطالة وبرامج الدعم، مثل برنامج «إعانة البحث عن عمل» الذي تُقدّر تكلفته بين 15-20 مليار ريال سنويًا (قدّرنا التكلفة بالنظر إلى أرقام العاطلين ومتوسط مبلغ الإعانة).

أما الشق الثاني، فيتمثل في أنَّ جزءًا كبيرًا من المواطنين الذين يعملون في القطاع الخاص يشغلون مراتب دنيا، وأجورهم ضعيفة بسبب التدفق العالي للعمالة الخارجية الرخيصة. كما أن هدف التوظيف في كثير من الحالات يكون لتغطية نسبة التوطين المفروضة، ولذا تتجه كثير من الشركات إلى توطين أقل الوظائف تكلفة عليها لتحقيق تلك النسبة. فتبدأ من أسفل السلم وتوطّن الوظائف التي لا تتطلب مهارة ويمكن استبدال الموظف فيها بسرعة.

والنتيجة ليست انخفاض أجور الموظفين السعوديين في أسفل السلم فقط، بل إن فرصهم في زيادة ذلك الراتب مستقبلًا منخفضة أيضًا. فلا يوجد حافز لدى الشركة لتدريب الموظف وزيادة إنتاجيته لتناسب زيادات الراتب مستقبلًا، لأن الشركة قادرة على استبدال موظف جديد من آلاف العاطلين الطامحين للحصول على أي فرصة، بالموظف الذي يطلب زيادة الراتب.

في المقابل، تستحوذ ملايين العمالة الوافدة على تلك القوة الشرائية التي تذهب إلى الصرف على أساسيات المعيشة بمستوى منخفض وتحويل أي فوائض إلى الخارج.

الفرق في الصرف بين المواطن والوافد

هنا نتحدث عن القوة الشرائية المحلية واختلاف أثر الأجور في السوق المحلي. فحين تذهب الأجور إلى المواطنين، تُصرَف نسبة أعلى منها على محتوى محلي، بدءًا بالإنفاق على المسكن الذي يشكل أحيانًا النسبة الأكبر من تكاليف المعيشة. وسواء أكان الإنفاق على الإيجار أو التملك، فإن العقار يحتل نسبة عالية من المحتوى المحلي، مثل تكلفة الأرض أو مواد البناء وغيرها.

في المقابل، قسمٌ كبير من الوافدين لا يصرفون على المسكن، بل توفره لهم جهة العمل. وسواء أكانوا ذوي دخل متوسط أم منخفض، فالمساكن تكون مقصورة عليهم، إذ لا يقبل المواطنون السكنى فيها حتى إن كانوا من ذوي الدخل المنخفض. أي أن أحياء كاملة بنيت بشروط لا يقبلها المواطن، وحين يغيب الوافد الذي يشغلها لا يمكن الاستفادة منها إلا بهدمها وإعادة بنائها. 

بعد ذلك يأتي الصرف على البنود الأخرى، إذ تختلف طبيعة الاستهلاك عند المواطن كثيرًا عن استهلاك الوافدين خاصة ذوي الرواتب المتدنية. فالوافد ذو الأجر المنخفض مثلًا لا يمكن أن يذهب إلى مطاعم ومقاهي يملكها ويعمل بها ويديرها سعوديون. والوضع ذاته ينطبق على المنتجات الزراعية المحلية الأعلى جودة من المستوردة، مثل التمور والعسل والقهوة والفواكه والخضروات. وإن كان المواطنون يستهلكونها بنسب متفاوتة بحسب الذائقة والقدرة الشرائية، إلا أن تلك المنتجات تكاد لا تستهلك من الغالبية من العمالة الوافدة.

نستطيع بالمبدأ السابق نفسه النظر إلى قطاعات مثل السفر والسياحة المحلية والترفيه والملبوسات والعطور والكماليات.

وجود قوة شرائية منخفضة لدى العمالة الوافدة، بالإضافة إلى رغبتهم في توفير فائض عن الحد الأدنى من تكاليف المعيشة لتحويله للخارج، يحرم السوق المحلي من مئات المليارات من القوة الشرائية الممكنة. Click To Tweet

فحين ينخفض الدخل يتركز إلى الصرف في الأساسيات المعيشية، وهنا نتحدث عن «المنتجات» التي يسهل منافسة المستورد منها للمنتج المحلي. بينما ارتفاع الدخل للفرد يعني أن حصة أكبر من صرفه يتوجه للخدمات، التي تكون أقل عرضة للمنافسة الخارجية.

دوران الريال في الاقتصاد

لا بد من النظر إلى معامل دورة النقد في السياق. فقد يبدو أنَّ بنودًا مثل شراء منزل أو الصرف على السياحة والسفر أو المنتجات المحلية لا يخلق مئات المليارات من القوة الشرائية. ولكن في حال إصلاح سوق العمل وحصر أغلب وظائفه على المواطنين، فإن تلك الرواتب المصروفة في السوق المحلي لن يكون أثرها بمعامل واحد إلى واحد، بل هناك مكرر لدورة النقد يخلقه اقتصاد حيوي منتج.

لإيضاح تلك الفكرة، دعونا جدلًا نسلم أن في حالة التوطين، فإن الرواتب المصروفة للمواطنين تساوي رواتب العمالة الوافدة حاليًا، أي لن يكون هناك زيادة في تكلفة الرواتب على الاقتصاد. لكن بدل أن تذهب إلى سبعة ملايين عامل ستذهب إلى ثلاثة ملايين موظف مواطن -بحساب العاملين حاليًا في القطاع الخاص والعاطلين. هنا سنجد أنَّ متوسط راتب الموظف ارتفع، وهذا طبيعي، إذ تُوزَّع رواتب القطاع الخاص اليوم على عدد كبير بإنتاجية منخفضة، لكن بعد التوطين يتقلص هذا العدد إلى النصف. 

هل ينجح «شريك» في تحقيق رؤية 2030

تنتظر الاقتصاد السعودي قنبلة موقوتة: نحو ثمانية ملايين سعودي مقبلون على سوق العمل في السنين القليلة المقبلة. تواجههم نسبة بطالة مرتفعة في الأساس، ومنافسة الذين

7 أبريل، 2021

وحين يتمتع الموظف بقدرة شرائية أعلى سيغطي أساسيات المعيشة، من ثم يصرف جزءًا من دخله على بنود ترفيهية مثل الأكل في الخارج والسفر والذهاب للترفيه. ولكن الأثر لن يتوقف هنا، فتلك المصروفات هي إيرادات يذهب جزء منها لمالك المنشأة والموظفين السعوديين الذين ينفقونها بدورهم في أنشطة أخرى يملكها ويعمل بها سعوديون. 

هكذا، فإنَّ الريال الذي كانت دورته في السوق قصيرة، أصبح يذهب إلى منتجات ذات محتوى محلي أعلى وخدمات محلية لا يمكن استيرادها. ويتكرر حدوث ذلك مع كل عملية صرف ليصبح أثره أضعاف المبلغ الأساسي.

اقتصادٌ مزدهر في رؤية 2030

حينما صرح سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في شهر مارس 2021 بأن السعودية ستشهد إنفاق 27 تريليون ريال خلال السنوات العشر القادمة، قال إن 5 تريليون ريال منها ستكون من الإنفاق الخاص. وقد نقرأ هذا الرقم على أنه مصروفات العاملين في القطاع العام لتلك الفترة حيث بلغ في العام الماضي 505 مليار ريال، أي أنه خلال السنوات العشر سيشكل 5 تريليون ريال، وهو فعلًا المحرك الأساسي لاستهلاك الأفراد.

هناك قوة شرائية مقاربة لذلك تنتظر الاستغلال، فالقطاع الخاص يصرف تعويضات للعاملين الوافدين برقم ضخم. ولدى حساب متوسط الرواتب للعمالة الوافدة بحسب مسح هيئة الإحصاء بالأعداد المسجلة في التأمينات، نجد الرقم يصل إلى 300 مليار سنويًا. وبعد حساب المخالفين لنظام الإقامة والعمالة المنزلية والزراعية التي تعمل في القطاع الخاص، سيقترب الرقم من 400 مليار ريال.

توجيه تلك المصروفات إلى تعويضات لموظفين مواطنين لن يخلق فقط 400 مليار سنويًا من القوة الشرائية كما أوضحت، بل قد يصل الرقم إلى الضعف أو الضعفين بناء على التغيير الهيكلي في الصرف وتطور قطاعات خدمية لاستيعاب القوة الشرائية الحديثة.

يشكل استهلاك الأفراد 68% من الاقتصاد الأمريكي، أي ما يعادل 13 تريليون دولار، وهو المحرك الأساسي لخلق الوظائف في اقتصادهم. ويشكل استهلاك الأفراد 60% بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. أي أن في رحلتنا نحو تحقيق أحد أهم أهداف الرؤية «اقتصاد مزهر»، يصبح بناء قوة استهلاكية محلية واقعٌ لا مفر منه. وهناك تريليونات من تلك القوة الاستهلاكية تنتظر إصلاح سوق العمل لتجد طريقها لاقتصادنا، وتلك التريليونات المفقودة هي تكلفة الاستقدام الحقيقية.

الاقتصاد السعوديالعمالةالمستقبلالرأي
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية