هل تك توك منصة نشر مفيدة؟

صناعة المحتوى الرقمي تتغير كل يوم، فحاول أن تستوعب هذه المتغيّرات، وتواضع أمام التقنيات الجديدة في صناعة المحتوى.

هل تذكر بدايات عام 2013، عندما سمعنا عن تطبيق جديد للمراهقين في أمريكا اسمه سناب شات؟ وأنه تطبيق تقوم فكرته الأساسية على تبادل الصور الفاضحة بين المراهقين؟

هذه كانت السمعة التي رافقت سناب في بدايته، ولم ينكر إيفان شبيقل مؤسس التطبيق ذلك، وذكره في كتاب «كيف ترفض مليار دولار» (How to Turn Down a Billion Dollars). كانت سناب تدافع عن نفسها وتقول: «إن الصحافة التي غطت التطبيق في بدايات انتشاره لم تفهمه جيّدًا.»

وهكذا، في أيامه الأولى، ارتبط سناب بالرسائل الجنسية، وأصرت عناوين الصحافة على تعريف التطبيق بأنه «تطبيق يسمح للمراهقين تبادل الصور الفاضحة التي تمسح خلال أربع وعشرين ساعة من إرسالها». 

ولدي هنا استدراك مهم جدًا: إذا كنت تدير شركة ناشئة، فلا تدع الصحافة تُعرّفك حسب طريقتها. كن واضحًا في خطابك الإعلامي وأرفق مواد إعلامية على موقعك. سهّل للصحفيين إمكانية الوصول إليك، وابنِ علاقة جيّدة مع الإعلام. صدقني، إذا كان الإعلام يجهلك، فسيكتب عنك أسوأ تعريف يمكن أن يرافق شركتك طوال عمرها!

تغيير شريحة المستخدمين

حاول سناب تغيير شريحة المستخدمين، ونجح إلى حد ما. وكان «ديسكفر سناب» خطوة اتخذها لتغيير نظرة المستخدمين له. وحصل على ثقة مواقع إخبارية معروفة مثل سي إن إن، وكذلك نيويورك تايمز التي تحرص على الظهور في جديد الشبكات الاجتماعية منذ أيامها الأولى. واستهدفت الصحيفة شريحة مستخدمين جدد لا يتابعون الأخبار بالضرورة لكن يستمتعون بمحتوى قيّم.

حسنًا، ربما لم يتغير مستخدمو سناب في أمريكا، لكنهم تغيروا لدينا. إذ يُستخدم سناب لدينا في القطاع التجاري استخدامًا كبيرًا. كما أنشأت بعض الهيئات الحكومية حسابات لها مثل السناب الأمني ووزارة الصحة ووزارة التعليم. وأصبح لكل وزارة تقريبًا حساب يغطي أنشطتها وأعمالها للجمهور. وخلق المحتوى الجديد مسمى وظيفيًا جديدًا: مدير حساب سناب.

بهذا انتهت السمعة السيئة التي رافقت سناب، وأصبح منصة إعلامية مهمة بعد تغيّر شريحة المستخدمين التي غيّرت كل شيء. صحيح أن بعض مشاهيره يقدمون محتوى سيئًا، لكن الجهات الحكومية المعنية بضبط المحتوى تهتم بذلك.

ما حدث مع سناب يتكرر الآن مع تك توك بالنموذج نفسه. يبدأ التطبيق مع المراهقين دون قيود، مع رقابة مخففة من الشركة ورغبة في الانتشار وإحداث الضجيج في المجتمع. ثم جاءت أزمة كورونا وكانت أفضل وقت لتغيير المستخدمين. فقد شاهدنا نجوم الصف الأول عربيًا في الغناء والتمثيل والمسرح، وقد أنشؤوا حسابات فيه في تلك الفترة. يومها طرحت هذا السؤال، ووصلتني إجابات مثرية جدًا.

لم يكن الأمر مفاجأة، بل خطة تسويقية صرفت فيها تك توك الشرق الأوسط مبالغ ضخمة، ودفعت للمشاهير للظهور على منصتها. ومع تغير الشريحة الجديدة تغيّر المحتوى بداية من عام 2020 وحتى اليوم. بدأنا نشاهد محتوى مختلفًا، وأصبح تك توك في المنطقة أداة إعلامية، ثم تحول إلى أداة تسويقية، ثم أداة للنشاط التجاري.

فاليوم تلقى ثقافة «التسوق المباشر» (Live shopping) المنتشرة في آسيا، وفي الصين تحديدًا رواجًا عالميًا بدعم من تك توك الراغب بدخول قطاع التجارة الإلكترونية. ومع دخول التطبيق مجال الموسيقا من خلال «تك توك ميوزك» (TikTok Music) بات التطبيق قويًا قادرًا على نشر ثقافته!

تك توك محرك بحث العالم!

قلت مرة إن دمغة تك توك هي أحد أسباب شهرته. تخيّل أن يفكر دماغك بهذه الطريقة «مقطع مضحك، مصدره تك توك بالتأكيد». فهو يصلنا في كل مكان، وأصبحت مقاطعه على واتساب وفي تويتر وفي إنستقرام وسيلتنا للتسلية!

ولا يقتصر هذا على الترفيه فقط، بل يتجاوزه إلى اكتشاف المحتوى الجديد أيضًا. لدينا اليوم جيل جديد في السعودية سمع لأول مرة عن «فن المحاورة» عبر تك توك لرواج هذا المحتوى. كما انجذب بسببه مستخدمون تتراوح أعمارهم بين خمسين وستين سنة، وجدوا أن خوارزمية تك توك تمنحهم المزيد من المحاورات التي يحبونها ويشتاقون لها. 

قدرة تك توك على اجتذاب هذه الفئة العمرية حد إدمانهم عليها يعود إلى قابلية الاستخدام. فأنت إذا فتحت التطبيق وواصلت السحب إلى الأعلى، ستتعلم الخوارزمية محتواك المفضّل وتقترح عليك نتائج مماثلة. 

وبعد استحواذ تك توك على هذه الشريحة في العالم كله، أصبح لدينا فرضية مشروعة: ماذا لو نسخ تك توك نموذج قوقل وأطلق محرك بحث وخرائط؟ نعم يمكنه ذلك، فالجيل الذي بدأ استخدامه للإنترنت من خلال تك توك، سيستمر في استخدام بقية خدماته. ولا تنس أنه انتزع من قوقل عرش أكثر موقع زيارة في العالم!

السّر في الخوارزمية

لا أحد يعلم على وجه اليقين كيف تعمل خوارزمية تك توك، وقد حاولت صحيفة وول ستريت فهم الخوارزمية. ولكن هناك من يقلقه وجود شبكة اجتماعية عالمية تملكها شركة صينية. ولهذا حاول الرئيس السابق دونالد ترامب حظر التطبيق في أمريكا، أو دعم استحواذ شركة أمريكية عليه، ولم ينجح. ونُسي أمر القضية بعد وصول الرئيس بايدن للسلطة، لكنه عاد للتحرك هذا الأسبوع راغبًا في تقييد أعمال تك توك

لكن تك توك يخضع للمحاسبة في الصين أيضًا. إذ أصدرت الحكومة قرارًا يُلزم الأطفال دون أربعة عشر عامًا باستخدامه أربعين دقيقة فقط في اليوم. كما لا يُسمح لهم باستخدامه بين الساعة العاشرة مساءً والساعة السادسة صباحًا. جاءت هذه القرارات ضمن حملة الحكومة الصينية الانقلابية على شركاتها التقنية التي لم تُعرف أسبابها حتى الآن.

واليوم نشهد حظرًا للحسابات في تك توك في سياسة صارمة من التطبيق، وإغلاق لبعض الحسابات نهائيًا، ما يدل على محاولة تك توك مراقبة المحتوى.

لست متأكدًا؛ لكني:

أجد أن الشركات التي تبدأ نشر المحتوى دون قيود لكسب أكبر شريحة ممكنة، ثم تفرض القيود والقواعد لاحقًا، تحقق نجاحًا إعلاميًا باتباع قاعدة: «في مشروعك التجاري كن لطيفًا مع الجميع حتى تكبر، وإذا كبرت لا تهتم بالجميع».  Click To Tweet

اغرق في المحتوى!

عدت لاستخدام تك توك لأنه أصبح أداة مهمة في التسويق. شركة «تيتا» (Teta)، مثلًا، بدأت في سبتمبر 2021، واليوم يبلغ عدد مشتركيها 140 ألفًا، ولها حضور في 170 بلدًا حول العالم. تحقق 80% من هذا النمو من خلال حساباتهم في الشبكات الاجتماعية وتحديدًا حساب الشركة في تك توك، يليه إنستقرام وديسكورد.

لذا من المُعيب جدًا أن تعمل في المجال الإبداعي، ثم تُسأل في اجتماعات العمل عن تك توك، وترد بأنك لا تستخدمه أو لا تعرف أيّ شيء عنه. ففي صناعة المحتوى عليك أن تكون مستهلكًا كبيرًا للمحتوى من كتب ومجلات وموسيقا وأفلام ومسلسلات ووثائقيات ومقالات وفيديوهات قصيرة، وكل الأدوات الجديدة لعرض المحتوى المكتوب أو المرئي. 

أعلم أن الانغماس الكامل في كل هذا مُجهد ويستهلك وقتًا، ولكنه يجعل «الفكرة حاضرة في رأسك دومًا» إذا أردت تطوير فكرة جديدة، أو كنت تبحث عن نموذج ربحي لمشروع ما. هكذا ستتزاحم الأفكار في رأسك. 

وإذا كنت تعمل في المجال الإبداعي، فتواضع وكن مستهلكًا شرهًا للمحتوى. استهلكه وأنتجه باستخدام الآيباد برو بعيدًا عن الجوّال. جرب قراءة النشرات البريدية من خلال «تطبيق سبارك» (Spark)، ثم احتفظ بالمقالات المرجعية المهمة على «تطبيق انستابيبر» (Instapaper)، مع تصفّح بقية الشبكات الاجتماعية. ما زال إنستقرام قبيحًا جدًا على الآيباد، أما نسخة تك توك على جهاز الآيباد فاخرة جدًا.

قسّم استهلاك المحتوى ضمن روتينك اليومي في العمل. ابدأ يومك بالنشرات البريدية مثلًا، ثم شاهد مسلسلًا قصيرًا في فترة الغداء، وفي نهاية اليوم حاول أن تتفقد الشبكات الاجتماعية. المهم أن تطوّر أسلوبك الخاص الذي لا يفسد إنتاجيتك في العمل، لكنه يبقيك على اطلاع دائم بما يحدث في الصناعة.

ماذا يستفيد عقلك من كثرة استهلاك المحتوى؟ 

اطلاعك على مختلف أشكال المحتوى، يجعلك حاضر الذهن. وعندما يتحدث زملاء من أقسام متفرقة عن فكرة أو مشروع جديدين، ستبدأ تلقائيًا باقتراح أفكار مدهشة تتدفق منك بسرعة.

ستتعرض لمحتوى رخيص تافه مزعج بالتأكيد. لكن ضريبة العمل في المجال الإبداعي، يا صديقي، أن تتقبل مشاهدة كل أشكال المحتوى، المدهش منه والمبتذل. نعم، لا بد أن تشاهد المحتوى الرخيص. 

سأشرح لك، ولكن أجب أولًا عن عدة أسئلة: لماذا صنّفته رخيصًا؟ فلربما كان هذا المحتوى لا يناسبك، وذائقتك ليست معيارًا. كيف حصل على رواج كبير؟ هل جرى التسويق له جيّدًا؟ لماذا يستهلك المستخدمون هذا النوع من المحتوى؟ من هم؟ ما معدل أعمارهم؟ ما المحتوى المشابه الذي جذبهم؟ أين نقطة الإشباع؟

يتمثل المحتوى الرخيص في رأيي -ورأيي ليس معيارًا- في قائمة ترند تويتر وسناب شات، أو مسلسل سخيف من مسلسلات نتفلكس التي تلقى رواجًا في الشبكات الاجتماعية، أو سلسلة تغريدات في تويتر مختومة بالجملة العظيمة «فضلها وارجع لها»، أو عراك صحفي من عِراكات كرة القدم السعودية، أو خِلافات مفتعلة بين مشاهير، أو مقال يتعمد إثارة الجدل.

نشرة الأخبار على تك توك

تحول تك توك من مجرد تطبيق للرقص والأداء الشفهي للأغاني والمقاطع الضاحكة إلى منصة إخبارية عالميّة توثّق اليوم حدثًا مفصليًّا في تاريخ البشرية.

3 مارس، 2022

لكن حتى المحتوى الرديء يحقق مشاهدات ويحصد أموالًا، فحاول استخلاص أفضل ما فيه من أفكار، وصِغها في قالب جذاب راقٍ. قطاع صناعة المحتوى ضخم ومتشعب وممتع، وإذا كان اكتشاف المحتوى يثير فضولك، فيمكنك أن تنجح فيه. انتبه؛ أنا لا أحثك على صناعة محتوى رديء، أنا أخبرك فقط بأن صناعة المحتوى تتطلب الفضول والاكتشاف والتجربة، وما تراه رديئًا يراه غيرك قيّمًا!

ستحتاج لعمر آخر لتتمكن من الإحاطة بكل المحتوى المتدفق يوميًا واستهلاكه، واستنتاج قيمة معرفية منه. نعم يا صديقي، فأكبر أزمة سنواجهها خلال العشرين سنة القادمة هي تحويل هذا الكم الهائل من البيانات إلى معلومات مفيدة.

كذلك يجب أن تفهم عادات المستخدمين أيضًا لأنها جزء من المحتوى. أنت لا تعرف كيف يستهلك المستخدمون محتواك. ومهما امتلكت من أدوات للمراقبة والتتبع، سيبقى هناك شيء غامض وغير مفهوم. وعلى ضوء ذلك، عليك أن تحاور مستهلكي محتواك، وأن تدعهم يشاركون في صناعته إذا رغبوا في ذلك. 

كن شديد الفضول !

لا أعرف ماذا سيظهر بعد تك توك، لكن ما دمت تعمل في المجال الإبداعي، عليك أن تكون «فضوليًا جدًا»، لاكتشاف كل أنواع المحتوى. راقب النشرات البريدية، واجعل خاصية الرسائل الخاصة متاحة في تويتر، ومكّن المتابعين من الوصول إلى بريدك الإلكتروني. 

لا تنس أن التقارير وسيلة جيّدة، لكنها ليست كلها جيّدة، (بعض التقارير التي تصدرها الوكالات والمؤسسات الاستشارية والتسويقية والبحثية، هدفها الحصول على بريدك وبياناتك، ثم إغراقك بسيل من العروض التجارية). لذلك كُن انتقائيًا وتذكر، التقارير جيّدة لكن ليست كلها جيّدة.

احتضن المواهب الصغيرة في مجال عملك. قدم لهم الرعاية وتحدث معهم، واكتب تجاربك في العمل. معرفتك أو ذائقتك في المحتوى مهمة، لكنها ليست معيارًا. شاهد كل شيء وأيّ شيء. فكلها أفكار ستجعلك مطلعًا على ما يحدث حولك.

ناقش الأطفال وحاول فهم طريقتهم في استخدام الإنترنت والمواقع التي يتصفحونها. اقرأ كل يوم واكتب كل يوم وامشِ كل يوم. تذكر أن صناعة المحتوى الرقمي تتغير كل يوم بمثل تسارع الاقتصاد الرقمي، فحاول أن تستوعب هذه المتغيّرات، وتواضع أمام التقنيات الجديدة في صناعة المحتوى. واستمر في التعلّم من تك توك.

الصحافةتك توكصناعة المحتوىالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية