اختراع العالم، وانهيار السعادة…!

أعراض نقص السعادة بدأت منذ انتقالي إلى مسكن قريب من مكان عملي، حين قصر الوقت الذي أقضيه في الذهاب إلى العمل أو العودة منه.

لاحظت، ونادرًا ما أفعل، أني لم أعد سعيدًا بالدرجة ذاتها التي كنتُ عليها قبل سنوات. وقد حدثني من لا أثق بحديثه أنه سمع من لا يثق في علمه يقول: «إن السهر يسبب نقصًا في هرمونات السعادة على المدى الطويل.» ولكني أستبعد هذا السبب لأني أسهر منذ عرفت الليل، ولو كان السهر يسبب الشقاء لكنت أشقى خلق الله، وأنا لست كذلك ولله الحمد.

ثم إني اجتهدت كثيرًا في البحث عن الأسباب، وتوصلت بعد طول عناء إلى معرفة الحقيقة. فعرفت أن أعراض نقص السعادة بدأت منذ انتقالي إلى مسكن قريب من مكان عملي، وأصبح الوقت الذي أقضيه في الذهاب إلى العمل أو العودة منه لا يتجاوز الدقائق الخمس.

يكاد يكون مشوار العمل المشوار الوحيد الذي أذهب إليه وحيدًا. وكنت أستغل طول الطريق جيئة وذهابًا فأطلق العنان لخيالاتي. وقد شغلت في ذلك المشوار خلال سنوات عملي كل المناصب التي يمكن أن يشغلها كائن بشري. فخطبت في الأمم المتحدة، ورفعت حذائي كما فعل خوروشوف، وقاتلت العصابات المارقة، وأحضرت المجرمين مكبلين في صندوق سيارتي. وسجلت أهدافًا حاسمة في كأس العالم، وقدت الاتفاق في نهائي كأس العالم للأندية أمام ليفربول. 

ناظرت العلماء، وألفت كتاب «أخبار الحمقى والمثقفين»، وفزت بنوبل ثم اخترعتُ الديناميت. وجدت علاجًا لكل الأمراض. وجالست الزملاء الملوك والرؤساء، الأحياء منهم والأموات، فأقنعت هتلر بعدم غزو الاتحاد السوفيتي. وأجبرت هولاكو على شراء تلفزيون ذكي ومتابعة دوري أبطال أوروبا بدلًا من غزو العالم، وأقنعت صدام بالانسحاب من الكويت والاعتذار مني. جلست في المطار أنبه الركاب وأنصحهم بعدم الصعود على الطائرات التي ضربت برجي التجارة، وأصلحت مفاعل تشرنوبل قبل أن يتسرب الإشعاع.

Giphy 6
ريك أستلي / Giphy

وتقلدت مناصب حكومية رفيعة. لم أترك شيئاً للصدفة في هذا الكوكب، حتى حين يشتد الزحام والحر أكون زعيم عصابة أو ميليشيا مارقة، أو لاعبًا في فريق يصارع من أجل النجاة من الهبوط للدرجة الأدنى. لكن أصعب المناصب التي تقلدتها خلال تلك الحقبة منصب وزير التعليم في السعودية. فقد كنت أشعر أن مهمتي اختراع شيء جديد وإلغاء كل شيء فعله من سبقني، لأن هذه، حسب اعتقادي، مهمة وزير التعليم في كل زمان وأيًا كان الوزير.

فكرت في إضافة مادة أسميها «كيف تسيطر على العالم قبل أن تدخل الدوار»، ثم تراجعت وفكرت في تقسيم العام الدراسي إلى اثني عشر فصلاً دراسيًا حتى يعلم كل أناس مشربهم. ثم فكرت في الاستفادة من المعلم في أعمال المقاولات أثناء الصيف، ووافقت هذه الفكرة رغبة أخرى تتعلق ببناء منزلي، وهي رغبة وجدت صعوبة في تخيلها حتى وأنا أحكم العالم. في آخر أيامي وزيرًا للتعليم في عالمي التخيلي، توصلت إلى فكرة أن يستفاد من المعلمين في عملية نزع الألغام في مناطق الصراع أثناء إجازتهم السنوية.

لكن هذه الفكرة العبقرية ماتت قبل أن تولد، لأن عالمي السعيد الذي أمارس فيه هواية إنقاذ الكوكب انهار انهيارًا مأساويًا بعد انتقالي إلى مكان أقرب، وأصبح الطريق القصير عائقاً أمام طموحي. ولم أعد أستطع -منذ انتقالي- حتى لقاء أرشد خان في صناعية الثقبة لإصلاح سيارتي، التي ربما أصابها الإحباط هي الأخرى، بعد أن أصبح يقودها شخص لا يغير العالم كما كان يفعل من قبل.

السعادةالعملالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!