في مديح الكسل الإيطالي ⏳

زائد: بهجة الفن الذي نمارسه لأنفسنا

شاهدت مؤخرًا ريل على إنستقرام عن الفن الذي نجد له وقتًا في زحام مهام العمل: في استراحات الغداء، بعد الدوام، أو في ساعات الصباح الأولى.

ذكر المستخدم في الريل مقالة «مكتب شاحنتي» (My Truck Desk) للكاتب بد سمث، يحكي فيها عن مكتبٍ خشبي بناه داخل شاحنته التي يتنقل فيها بين مواقع عمله كميكانيكي. كتب سمث قصائد وروايات وقصص قصيرة على هذا المكتب، مبتكرًا مساحة في هامش حياته يتنفس فيه شغفه بالكتابة. ✍🏽

ذكرني المقال بالبهبجة التي يمنحنا إياها الفن الذي نمارسه لأنفسنا فحسب. فن لا نبحث فيه عن نشرٍ أو جمهور، بل فن يخصنا نحن وحدنا. فن نمنحه دقائق يومنا وساعاته حين تُتاح، حتى لو كانت قليلة، لأن وجوده بحد ذاته يشبه تنفسًا آخر.

أتمنى لك نهاية أسبوع مليئة بلحظات تذكّرك لماذا وقعت في حب ما تحب، قبل أن تزدحم تلك اللحظات بأفكار الإنتاجية والإنجاز. 🌻

وبالحديث عن الإنتاجية، تتأمل آلاء حسانين في عددنا اليوم عبارة إيطالية عن «الكسل اللذيذ» والحياة التي لا تحتاج إلى غاية حتى تكون ذات معنى. وفي «خيمة السكينة»، تصف مجد أبودقَّة ضبط إيقاع حياتها اليومية وعودتها إلى الكتابة بعد ولادة ابنتها. ونودعك في «لمحات من الويب» مع اقتباس عن الإنجاز الذي لا يتحقق إلا بالتكافل، وصوت الأذان في مسجد صيني عتيق. 🕌

خالد القحطاني


رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

في مديح الكسل الإيطالي

آلاء حسانين

أكثر ما يخيف الإنسان الحديث ليس العدم، بل الفراغ. ذلك الصمت الذي لا يُقاس فيه الوقت بوحدات الإنتاج، ولا تُقاس فيه الذات بما تُنجزه، بل بما تقدر على احتماله من سكون. في قلب هذا الصمت وُلدَت عبارة إيطالية صارت فيما بعد شعارًا فلسفيًّا للحياة: (dolce far niente)، أي «حلاوة عدم فعل شيء». 

تلك ليست مجرد حكمة عابرة من جنوب أوربا، هي منظومة وجودية متكاملة تتجاوز المعنى الحرفي لتصير مرادفًا لفنّ الحياة كما يفهمه الإيطاليون، وكما تحوَّل في مخيالهم الجمعي إلى طريقة للنظر إلى الجمال والزمن والذات.

الإيطالي حين ينطق بهذه العبارة لا يقصد الكسل، هو يقصد أن الحياة لا تحتاج دائمًا إلى غاية كي تكون ذات معنى. الفعل عنده ليس غاية في ذاته، بل لحظة منسجمة مع تدفق الوجود. (dolce far niente) هي في جوهرها فلسفة الانسجام مع ما هو قائم، وليست تمرّدًا على العمل أو الزمن، بل تصالحًا عميقًا معهما. إنّها عودة إلى ما كان الرومان يسمّونه (otium) أي الفراغ الكريم، أو الوقت الذي يُعاش للذات، للفكر، للفنّ، للتأمل في نهر التيبر أو في ضوءٍ ينسكب على جدارٍ في منتصف النهار.

في الثقافة الرومانية القديمة، كان (otium) يعني أكثر من مجرد استراحة من العمل؛ كان زمنًا يُمنَح للحكمة وللصداقة وللتأمل في معنى الحياة، لحظة يستعيد فيها الإنسان سيادته على وقته بعد أن يتحرر من شؤون السوق والسياسة. وقد رأى الفيلسوف والخطيب الروماني شيشرون في هذا الفراغ نوعًا من الكرامة، فسماه «الفراغ بكرامة»؛ أي أن يعيش المرء سكونه دون شعور بالذنب، وأن يتعامل مع راحته كقيمة لا تقلُّ عن العمل. فكرامته هنا لا تنبع من الانشغال، هي تنبع من قدرته على الصمت، على أن يكون حاضرًا دون حاجة إلى إنجازٍ أو صخب.

هذا «الفراغ النبيل» لم يكن يُنظَر إليه بوصفه بطالة، بل علامة على النضج والرقي الداخلي، على أن الإنسان صار قادرًا على الاستغناء عن الزيف اليومي ليجلس مع صمته كمن يجلس إلى صديقٍ قديم.

في إيطاليا، يُقال إن «حلاوة عدم فعل شيء» لا يمكن أن تُفرَض، بل تُعاش مثل تنفسٍ عميق، يأتي وحده حين نسمح للعقل أن يهدأ والجسد أن يستعيد وقته. الإيطالي الذي يجلس على الميناء عند الغروب لا يهرب من العمل، هو يؤجل الحاجة إلى الجدوى كي يترك للزمن أن يصبح ملموسًا. في تلك اللحظة، لا شيء يحدث، ومع ذلك كل شيء موجود: الضوء، النسيم، رائحة البحر، فكرةٌ تتشكل ثم تتلاشى.

إنهم يسمُّون ذلك «اقتصاد الرغبة»، وهي فكرة شائعة في الذهنية الإيطالية، تعني أن يعرف الإنسان كيف يكتفي بما لديه دون أن تفقد الحياة بريقها. فالرغبة لا تُلغَى هنا، هي تُروَّض بلطف؛ تبقى حيَّة، ولكنها تتنفس بهدوء، كمن وجد أخيرًا الإيقاع الطبيعي لوجوده.

في الثقافة الإيطالية الحديثة، استمرّ هذا المفهوم كتيارٍ تحت الجلد، لا يُقال دائمًا لكنه يُمارَس؛ في المقاهي الصغيرة، في الشرفات المزهرة، في بطء الوجوه التي لا تستعجل الحديث، في الأعياد التي تمتدّ لأيامٍ دون حاجة إلى ذريعة. هذا البطء ليس تأخرًا، هو مقاومة خفية ضد تسارع العالم الصناعي. إنه إعلان جمالي أن الجسد والعين يستحقان زمنًا يخصّهما، زمنًا لا يُستثمَر بل يُعاش. والجلوس بلا هدف في ساحة، أو السير ببطء في شارعٍ قديم، ليس كسلًا بل حكمة مكتسبة، إدراك بأن الإنسان لا يمكنه أن يسمع نفسه إلا عندما يهدأ كل شيء حوله.

في مدن الجنوب الإيطالي، هناك قول شائع بين الحرفيين والعمّال القدامى يُختصر فيه سرُّ الحياة: «إن لم تبتسم وأنت تعمل، فتوقّف قليلًا». هذه ليست دعوة إلى الكسل، هي دعوة إلى الصدق مع الذات. العمل في نظرهم لا ينبغي أن يكون عبئًا، بل امتدادًا للبهجة. كل فعل يجب أن يحمل شيئًا من اللعب، وكل بطءٍ يحمل بداخله نوعًا من الحكمة.

حتى الطعام الطويل الذي يمتدّ لساعات ليس ترفًا، بل طقسٌ يومي يعيد ترتيب العلاقة بين الزمن والذوق، بين الجسد والعالم. وفي كل تفصيلٍ من تفاصيل اليوم الإيطالي - فنجان قهوة في ظهيرةٍ دافئة، محادثة بلا استعجال، نظرة إلى البحر - يتجلّى احترام عميق للبطء، وإيمان بأن الفعل الحقيقي لا يبدأ إلا عندما يتوقَّف اللهاث.

في فرنسا، تبنَّت اللغة هذا المفهوم لكنها لم تحتضنه بالحرارة نفسها. كلمة (farniente) الفرنسية استعارة لغوية أكثر منها شعورًا ثقافيًا. الفرنسي قد يتحدّث عن «الفارنيانتي» خلال عطلة صيفية أو استراحة قصيرة، لكنها تبقى لحظة خارج الزمن العادي، لا فلسفة دائمة للحياة. أما في إيطاليا، فـ«اللامبالاة الجميلة» جزء من الوعي الجمعي، تنعكس في المعمار، في الموسيقا، في الطريقة التي تضيء بها الشمس المدن عند العصر، وفي تلك النظرة المائلة التي تعرف أن الجمال لا يحتاج إلى سرعة كي يكون حقيقيًا. هناك شعورٌ بأن البطء نفسه ترفٌ روحي، وأن العالم يصبح أجمل حين يتنازل قليلاً عن عجالته.

هذه الفكرة ليست فقط جمالية، هي كذلك وجودية. إنها قناعة بأن الإنسان، لكي يفكر حقًا، عليه أن يتوقف. أن يتأمل لا ليُنتج فكرة، بل ليُعيد ترتيب علاقته بالعالم. في مجتمعٍ يقدّس العمل، يتحوّل الكسل إلى فعل تحرري. في (dolce far niente) يكمن التمرّد الحقيقي: رفض أن تكون آلة، واختيار أن تكون كائنًا يشعر ويصغي ويتنفس. الإيطالي الذي يجلس على مقعد حجري في ساحةٍ صيفية، يحتسي قهوته ببطء، لا يضيع وقته، بل يستعيده. فكل لحظة لا تُستثمَر تُستعاد.

وحين نحاول البحث عن جذورٍ مشابهة في الثقافة العربية، نكتشف أنَّ لدينا ما يقترب من هذا الإحساس وإن اتخذ أسماء مختلفة. في التصوف الإسلامي، نجد فكرة قريبة جدًا من «حلاوة عدم فعل شيء». فالمتصوف لا يرى في السكون ضعفًا، بل طريقًا للمعرفة، إذ يؤمن أن من استقرَّ قلبه في حضرة المطلق تحرّر من اضطراب العالم حوله. عند ابن عربي، يصبح «السكون إلى الحق» حالة من الصفاء العميق، حيث يهدأ الفكر وتنتفي الحاجة إلى السعي، لأن الإنسان حين يذوب في المعنى لا يعود محتاجًا إلى الحركة.

هذه الروح نفسها تلمع في الأدب العربي الحديث، في المقاهي القاهرية التي رسمها نجيب محفوظ كفضاءات للبطء والتأمل، وفي عزلات جبرا إبراهيم جبرا التي تتحول فيها العزلة إلى بحث عن الذات، وفي الليل الطويل عند أدونيس حيث التوقف عن الفعل يصبح طريقًا لاكتشاف جوهر الكينونة.

الفرق أن الثقافة العربية ظلَّت تميل إلى النظر إلى الكسل كعيبٍ أخلاقي، لا كفعلٍ جمالي. فالعمل في وعينا الجمعي يرتبط بالجدّ والواجب والمروءة، أما الفراغ فغالبًا ما يُخشى بوصفه بوابةً للضياع. لكن الشعراء والفلاسفة القلائل الذين تجرؤوا على الإصغاء إلى الصمت أدركوا أن الفراغ لا يهدِّد الوجود بل يكشفه. وربما لذلك نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت، إلى استعادة معنى «الكسل اللذيذ» في زمنٍ لم يعد يسمح لأحدٍ بأن يتوقف.

إن (dolce far niente) ليست فقط عبارة من لغة أخرى، بل مرآة تكشف مدى خوفنا من الهدوء. لأننا نعيش كما لو أن الصمت موت، بينما هو شرط الحياة نفسها. إنها لحظة نادرة يعود فيها الإنسان إلى نفسه من دون وسائط، إلى وعيٍ لا يريد شيئًا ولا يخاف شيئًا. هناك، في تلك الدقيقة التي لا ننتج فيها شيئًا، نكون أقرب ما نكون إلى المعنى. وربما كان هذا ما فهمه الإيطالي بشكل حدسي حين قالها أول مرة: أن الحلاوة لا تأتي من الفعل، بل من القدرة على التوقف عن الفعل، والنظر إلى العالم كما هو: عارٍ، بسيط، وكافٍ.



The Cradle by Berthe Morisot
The Cradle by Berthe Morisot

الخوف من الفوت أدعى له 🏃🏻‍♀️

لطالما كنت عَجولةً، خاصةً في محاولات تحقيق أهدافي، وأظن أنَّ هذه العجلة أصيلةٌ فيَّ. فأنا تركت -في يومي الأول بالروضة- مجموعة الأطفال التي تلعب، وتوجهت إلى الإدارة أسألهم متى سنبدأ الدروس.

لم أكره هذه العجلة في سنوات شبابي، بل كنت متصالحة مع هذا الإيقاع الذي يشعرني دائمًا وكأني أركض، ويقتضي اضطرابًا مستمرًّا وقلقًا دائمًا. ولكني بدأت أشعر في أوائل الثلاثينات أن كلفة هذه العجلة باتت أعلى وعوائدها أقل؛ لذلك حاولت أن أتحسس طريق الهدوء والسكينة.

بعد ولادة ابنتي بتُّ أسير بأبطأ إيقاعٍ عرفته في حياتي، واضعةً أمام عينيَّ أهدافًا وأولويات مختلفة عما عرفته طوال عمري. قدمت أطول إجازة أمومة يسمح بها عملي، وانقطعت تمامًا عنه بعقلي ووجداني، لأقضي وقتي مع طفلتي بإيقاعها الهادئ.

ورغم أني وجدت في هذا الإيقاع لحظات سكينة لطيفة، فإن فكرة خجلة تراودني بين الحين والآخر لتخبرني أني ساكنة، وأنّ كل شيء آخر يتحرك بسرعة.

أصبحت هذه الفكرة تزورني أكثر كلما جلست إلى الكتابة أجاهد لصياغة فكرة متماسكة، فيطلُّ عليَّ طيف إحباطٍ خفيف أدفعه بمزيد من العمل؛ لأجد الأفكار متناثرة حولي عصيّةً عليّ، فأتجه إلى مزيد من العمل.

الهرب إلى العمل  استراتيجيةٌ دفاعية قديمة جدًا عندي، ولكني بسببها أصبحت أشعر أني أعمل طوال اليوم دون نشوة إنجاز حقيقية، حتى أخبرتني «إيمان» -في تعليقها على تدوينة لي- أني مؤخرًا بِتُّ أتعجل في الكتابة. 

للوهلة الأولى فكرت أني أتبع النهج نفسه دائمًا، إلّا أن تلك الفكرة الخجلة الملحة أطلَّت عليَّ مرةً أخرى؛ أنا ثابتة وكل شيء يتحرك بسرعة كبيرة، فتنبهت أنها زادت إلحاحًا مذ عدت إلى الكتابة. وكأني بعودتي إلى الكتابة أردت أن أتأكد من استمرار حركتي بحالها القديم، فغدوت عَجِلةً لإثبات اتساق إيقاعي مع الآخرين فشذَّ عنهم، إذ أنَّ الخوف من الفوت أدعى له.

الحقيقة أني ما زلت أضبط إيقاعي، وآليات دفاعي القديمة أصبحت أقل ملاءمةً مع أهدافي الآن. وحتى الأفكار الملحة بضرورة الحركة نابعة من خوف أعمى واعتياد قديم أكثر من كونها نابعةً من رغبة حقيقية. لذلك سأحاول هذه المرة تقبُّل إيقاعي الجديد بهدوء، وأحاول بخطواتي أنا أن أتحرك نحو أهدافي الحقيقية، ولعلِّي خلال ذلك أعمِّق معرفتي بالهدوء والسكينة. 

إعداد 🧶

مجد أبو دقَّة


ادّخر بذكاء من كل عملية شراء 🧠

كل ريال تنفقه يمكن أن يصنع فرقًا في مستقبلك المالي.

«ادخار سمارت» من stc Bank حساب ادّخاري يعطيك 4% أرباح سنوية وتقدر تسحب فلوسك بأي وقت!

ادّخر اليوم، واستثمر في غدك مع «ادخار سمارت».



نشرة أها!
نشرة أها!
يومية، من الأحد إلى الخميس منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+40 متابع في آخر 7 أيام
في مديح الكسل الإيطالي ⏳ - ثمانية