كلمات العربية أصبحت تتشبه بالإنقليزية

لو كانت كلمة عربية ما أقرب إلى معنى ظاهرة علميّة، لمنعنا أنفسنا منها لأن الإنقليزية ليس فيها مرادف لتلك الكلمة العربية!


ما زلت أذكر المرة الأولى التي قرأت فيها آية «وجاءت سيّارة فأرسلوا واردهم» في سورة يوسف. تعجّبت حينها من إيراد القرآن لكلمة «سيّارة»، وقد ظننتها مستحدثةً لوصف اختراع مستجد، قبل أن أتنبّه لمصدرها الفصيح «سير» ومعناه الملائم لوصف القافلة السائرة من الناس، أو المركبة السائرة التي نستخدمها اليوم.

كما مرّت علي كلمة «هاتف» في إحدى قصص عرب الجاهلية، فتساءلت: أنّى لهم هواتفنا؟! لأعرف بعدها أن «هاتف» هو المتكلّم غير المرئي؛ ولذلك كان «الهاتف» يرِد في أساطير العرب التي يتخيلون فيها الكلام مع كائنات غير مشاهدة. ولذا، عندما اُخترع هاتف اليوم، كان المعجم العربي غنيًّا بكلمة ملائمة تمامًا لطبيعة الاختراع المستجد.

ولو تأملت الأوصاف العربية لاختراعات مستجدة أخرى، لتعجبّت من فصاحتها ودقّة وصف طبيعتها وتفوّقها حتى على وصف أهل الاختراع.

إلا أن هذه المزيّة للعرب باتت مهددة بالاستيراد الحرفي والأعمى للاصطلاح الإنقليزي، وهو ما ستفصّل به مقالة هذا العدد.

قراءة ماتعة!

عمر العمران


تصميم: أحمد عيد
تصميم: أحمد عيد

كلمات العربية أصبحت تتشبه بالإنقليزية

عبدالله بن حمدان وأمجاد بنت عودة

من أكثر ما يتفاخر به العرب عند الأمم لغتهم العربية. وأعظم شيء في العربية معجمها، ومن عظمته حيكت حوله الأساطير، فقيل مثلًا إن معجم العربية فيه ملايين الكلمات، أمّا غيرها فما في معجمها إلا آلاف قلائل. والعربية لا تحتاج إلى هذه المبالغات حتى تظهر غزارتها، يكفيها عظمة أنها وسعت كتاب الله لفظًا وغاية، فاللغة التي وسعت مفردات القرآن إن معجمها لعظيم.

لكن، ابتُليت العربية في القرنين الماضيين بالتأثر بلغات الأعاجم، الفرنسية والإنقليزية، فأخذت تتحول أساليبها ومفرداتها حتى تناسب ما عند الأعاجم. فصرت تقرأ «السيارة الخاصة بك» بدلًا من «سيارتك»، وتُستعمل الكلمات المساعدة فيقولون «مثير للشفقة» و«عملته بصورة جيدة». ولأن الإنقليز تستعمل لفظ الكفاية «Enough» تبعهم هؤلاء وأكثروا منها، فيقولون «لست قويًّا بما فيه الكفاية لأحمل هذا» بدلًا من «لا أقوى على حمل هذا». ومن إطالة الكلام قولهم «لا أستطيع أن أصدق قوله بسهولة» لأن الإنقليز تستعمل للمقاربة (I cannot easily)، والعرب في مثل هذا توجز فتقول «لا أكاد أصدقه».

حتى العامية أفصح من هذه اللغة الهجينة. فإذا كنا في الفصحى والعاميّة نقول «حزنت عليه»، تجد هذه اللغة الهجينة تطيل الجملة وتتبع الإنقليزية فتقول «شعرت بالحزن تجاهه». والمشكلة أننا إذا أردنا الفصاحة، تركنا فصيح عاميتنا وتكلمنا بهذه اللغة فنقول «أمارس الرياضة» بدلًا من «أتريض» و«ما هو ناديك المفضل؟» بدلًا من «من تشجع؟».

بل إنها جانبت الفصاحة والبلاغة، فمثلًا لو جئت لقوله تعالى (أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا)، تجد هذه اللغة الهجينة تبتعد عن هذا وتقارب الإنقليز في ترجمتهم إذ قالوا (Look after him well! He may be useful to us, or we may adopt him as a son)، فيقال لمثل معنى الآية في هذه اللغة «اعتنِ به بشكل جيد، قد يكون مفيدًا لنا أو قد نتبناه كابن». ولو رجعت إلى جميع ما يُكتب في الإعلام اليوم والكتب الحديثة ومقالات المثقفين، لرأيت اللغة الطاغية تفارق فصاحة الآية التي ذكرناها وتقارب الجملة الثانية في لغتها.

وهذه اللغة الهجينة أسماها الدكتور أحمد الغامدي «العرنجيّة»، لأنها عربيّة إفرنجية ليست الفصحى التي تكلم بها العرب. ومن أراد الاستزادة في وصفها فليقرأ كتابه أو مقالتنا السابقة. أمّا هذه المقالة، فهي في تأثير هذه العرنجية في معجم العربية حتى قتلت مرونته وجعلته جامدًا ثقيلًا، وأبعدت معانيه وألفاظه عمّا يعرفه العرب في عاميّتهم وفصحاهم وقاربت الأعجميات، ثم نختم بأثرها في العلوم والتقنية. 

كثرة الكلمات المركّبة في العرنجية

من علامات حياة اللغة تجدد معجمها بمفردات تغطّي حاجات أهلها في كل عصر؛ فالعرب لمّا أسلموا زادوا على معجم الجاهليّة مفردات الإسلام، ولمّا فتحوا الأمصار رأوا ما لم يعرفوه في جزيرة العرب فأضافوه إلى معجمهم، ولمّا انبروا لعلوم الأرض زادوا في معجمهم حتى أُلّفت معجمات العلوم. ولم ينقطع العرب عن الإضافة حتى يومنا هذا، فأضفنا السيارة والطائرة والجوال، وعرّبنا فقلنا الأرشفة والبسترة. 

فالمعجم الحي ينطلق من حاجات أهله وثقافتهم وتراثهم، لكن العرنجية تأبى هذا. فكما أن العرنجية تتبع صياغات الإنقليزية، تجدها تحذو حذو الإنقليزية في المفردات. فالكلمة التي تقولها الإنقليزية تجدها نفسها مترجمة عندنا الحرف بالحرف؛ ليست حاجة إليها، ولكن اتباعًا وتقليدًا. من ذلك تجد أهل العرنجية يقولون مثلًا «الأخبار الجيّدة»، والناس يعرفون «البشرى» فمن أراد تبشير أحد قال له «جئتك بالبشرى» أو «أبشرك»، أما العرنجية فتقول «لدي خبر جيّد لأشاركه معك».

والعرنجية تحب ملء معجمها بإضافة كلمة «رجل» قبل كل شيء كما في الإنقليزية، فيقولون للعاميّ «رجل الشارع» مثل الإنقليزية (Layman)، وللشرطي «رجل الشرطة» مثل (Policeman)، وللتاجر «رجل الأعمال» (Businessman) وللفقيه «رجل الدين»، وغيرها. وهذه تجر مشكلة للعربية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ألا وهي مشكلة تأنيث هذه الوظائف. أنقول امرأة الشرطة وامرأة الدين؟ هذا أسلوب ركيك غير مستساغ، لذلك عمد بعضهم إلى لفظة «سيدة» فقالوا سيدة الأعمال، لكن أيصح أن تقول سيدة الدين؟ هذا غير أن السيادة لا محل لها هنا في العربية واستعمال سيّدة وسيّد في هذا السياق تأثر بالإنقليزية لا حاجة إليه.

والعرب أول ما تلجأ إليه إذا ظهر لها شيء أن تعطيه اسمًا من وصفه، فتقول للصحراء التي ترجو النجاة منها «مفازة»، والتي تُبيد من يحلّها «البيداء»، والأرض التي يُخشى التيه فيها «مَتيهة»، أمّا التي يُخشى الهلاك فيها فـ«مهلكة»، والتي سال واديها «مسيل»، والتي ارتفعت عن الأرض «رابية»، وغيرها كثير جدًّا. ولا عجب لو أن كل هذا يُسمى في العرنجية «صحراء» لأن الأعجميات ما فيها هذا.

وتحب العرنجية الحشو وإطالة الكلام بلا حاجة. فتجدها إن تكلمت عن دراسة أحد وطلبه العلم قالت «حياته العلمية»، وعند ذكر أهله قالت «حياته الاجتماعية». وذكر الحياة هنا لا حاجة إليه، بل هو اتباع للإنقليزية في الإكثار من لفظة (Life)، إذ يقولون «الحياة السياسية» (Political Life) و«الحياة اليومية» (Daily Life). وتجدهم يحبون كلمات من قبيل «العملية»، فيقولون «نقص المدارس يضر بالعملية التعليمية» بدلًا من «يضر بالتعليم».

وهذا الباب في زيادة كلمات لا تضيف إلى الجملة معنى ولا بلاغة كثيرٌ في العرنجية. كقولهم «الغطاء النباتي» بدلًا من «النباتات»، و«الأعمال الإجرامية» بدلًا من «الإجرام»، و«المجتمع الإنساني» بدلًا من «الناس»، اتباعًا للتداول الأعجمي للمفردات. ولو كانت هذه الزيادات قليلة الذكر لهان أمرها، لكنها كثيرة طافحة في العرنجية؛ تطيل الجمل وتقتل الإيجاز. فجملة مثل «على المستوى الاجتماعي، الأعمال المتشددة تفسد البنية الأخلاقية للناس» لو حذفنا نصف كلماتها لما تأثر شيء: «والتشدد يفسد أخلاق الناس». 

ولا يُفهم من قولنا الإنكار مُطلقًا على أي كلمة مركبّة، بل العرب كانت وما زالت تستعملها في كل شؤونها، ولن يكون للغة غزارة ولا علم ولا أدب إن منعت على نفسها التركيب. ولا يعيب اللغات وجود المركّبات فيها، بل يعيبها أن تأخذ لبّها وأساسها من غيرها وتترك تراثها وأهلها. وكثير من الكلمات التي ذكرناها، وسنذكرها، لا عيب فيها إلا الاتباع والتقليد، وأنها قتلت مفردات في صميم معجم العربية حتى العاميّة تعرفها، وأنها أثقلت معجم العربية وقتلت الإيجاز فيه. فالتركيب وحده ليس الخلل، بل الإكثار منه حتى صار غالبًا كثيرًا. فمثلًا، استعمال كلمة «رجل» لا عيب فيه، بل ما أكثر ما يُستعمل في الفصحى كقولك «رجل علم» و«رجل حرب»، لكن الفصحى تختلف هنا أنها لم تتبع صياغات لغات غيرها وقلدتها، وهو فيها وصف لا اسم قائم بذاته.

مثال موسّع: معجم الحرب

معجم الحرب والقتال من أكبر معاجم العربية، ومع هذا تجد كثيرًا من مصطلحاته بدأت تتشبه بالإنقليزية حتى في استعاراتها. مثلًا، تقول العرب عمّن أُسر في الحرب «أسير»، أمّا الإنقليز فيقولون (Prisoner of War)، فزادت العرنجية ما زادته الإنقليزية فقالوا «سجين حرب». ومثله أن العرب تقول لمقدمة الجيش «المقدّمة» ولمؤخّرته «الساقة»، أما في الإنقليزية فيقولون (Frontlines) و(Rear lines)، فتبعتهم العرنجية فقالت «الخطوط الأمامية» و«الخطوط الخلفية». 

ومن الاستعارات استعمال العرب للنار لوصف الحروب، كقوله تعالى (كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله) وكقول قيس بن الخطيم «وَكُنتُ اِمرِأً لا أَبعَثُ الحَربَ ظالِمًا – فَلَمّا أَبَوا أَشعَلتُها كُلَّ جانِبِ». والإنقليز لا تستعمل النار في مثل هذا، إلّا استعمالهم لها في الحروب الحديثة مع البواريد والقنابل. لذلك يقولون لرمي المسدس (Fire)، ثم جاء أصحاب العرنجية فقالوا «أطلق النار»، ثم لمّا أراد الإنقليز الهدنة قالوا (Ceasefire)، فتبعوهم وقالوا «وقف إطلاق النار»، مع أن في العربية «الهدنة» و«الصلح» و«السلم».

هذا والنار معروفة عند الإنقليز لكنهم لا يستعملونها للحرب، فما بالك بالذي لا يعرفونه في ثقافتهم كتلقيح الناقة، وهو وصف مستعمل للحرب عند العرب «قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي – لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ»، وما هو نادر في لغتهم كإضافة أب وأخ وأخت إلى الكلمات، ومنه قول الخنساء «فيومًا تراه على هيكل – أخا الحرب يلبس سربالها». أمثال هذا لا تجده في العرنجية، لأن الإنقليز لا يستعملونه.

بعد المعاني عن العربية واستبدال ألفاظ الفصحى

من آثار العرنجية أنها أبعدت المعاني عمّا يعرفه ويألفه العرب وصارت تتبع المعاني الأعجمية، ومنها ما لن تعرف معناه إلا لو عرفت أصله الإنقليزي. خذ أكثر الأمثلة استبشاعًا من الناس: «التغذية الراجعة»، ولا أظنك تجد أحدًا إلا واستبشعها، حتى الذين يستعملونها. هذه الكلمة لن يعرف معناها إلا من عاد إلى الإنقليزية فقرأ (Feedback). ثم إن انتشار الكلمة في سياقهم الثقافي لا يعني نقلها كما هي في سياقنا، بل هي في سياقنا مستبشعة مقززة، فكيف تكون تغذية ثم تكون راجعة؟ وكيف تطلب من أحد أن يُعطيك «تغذيته» الراجعة؟ والناس لا تعرف ارتباط الغذاء والرجع إلا بمعنى القيء لا معنى طلب الرأي والاقتراح.

ومن الأمثلة أن لو سألك أحد عن «الحالة الاجتماعية» لما عرفت مقصده إلا لو رجعت إلى الشيء الذي تُرجمت منه ألا وهو (Marital Status)، ويقصدون به حال المرء في الزواج. وما دمنا في موضوع الزواج، فبعض من تفاصيله أيضًا دخلتها عجمة العرنجية، كانتشار شريك وشريكة بدلًا من زوج وزوجة، وتسمية الطلاق بالانفصال، وتلاحظ في المثالين أنها جاءت من استعمال الإنقليز، كقولهم (Partners) للأزواج.

وكذلك استعمال «علاقة غير شرعية» أو «جنس خارج إطار الزواج» وترك الكلمة العربية «زنا»! ولا يخفى عليك أن ما ذكرته متأثر بثقافة اللغة الإنقليزية أو البحث عن تعابير تُخرج الفعل من بيئته وما اعتاد الناس عليه. ومنها كذلك تقسيم الأعمار، فيقولون لمن دون الثامنة عشرة «قاصر»، ولمن فوقها «بالغ». وما تعرفه العرب وتقره الشريعة أن الصبي مميِّز منذ سن السابعة، فإذا بلغ الحلم صارًا بالغًا ومكلفًا شرعًا، أو إذا بلغ الخامسة عشرة. واللغة منظار الثقافة كذلك، فصرت ترى بسبب هذه الألفاظ من يرى الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة أطفالًا غير محاسبين!

ومن أكثر ما حوته معاجم العربية وصف الإنسان في مروءته وأخلاقه وحسن أفعاله. لكن تجد في العرنجية تغليبًا وإكثارًا لوصف الإنقليز، كقولهم للفطن والنبيه «ذكي اجتماعيًّا» (Social Intelligence) أو قولنا للرحيم واللين السهل «ذكي عاطفيًّا» (Emotional Intelligence). فإن أضافت الإنقليزية «الذكاء» إلى كلمة، اتبعناها ولم نفتش في معاجمنا. وحسبك أن كتاب «المخصَّص» لابن سيده قد كتب في وصف العقل والذكاء والرأي وحسن الخلق أكثر من ثلاثين صفحة، في كل صفحة عشرات الكلمات التي تصف كل حالة بما يناسبها.

ومثل حسن الخلق تجدنا نتبعهم في وصف سوء الخلق، من هذا كلمة «سام» كقولهم «شخص سام» و«علاقة سامة» و«بيئة سامة»، وهذه جاءت من توسّع الإنقليز في استعمال (toxic)، ونستطيع الوصف بالعربية بقولنا «غير سوي» أو «سيء العشرة» أو «كريه الطبع» أو «نكِد»، إلخ.

وكذلك استفحال كلمة «إيجابي» حتّى باتت تُحشر في كل شيء، وتركنا لكلمات مثل الفأل والتفاؤل والمحاسن والمحامد والفضائل وغيرها كثير. ولاحظ أن في العربية كلمات كثيرة قد تعبر عن المعنى نفسه أو معانٍ متشابهة، ولا نستعمل في العرنجية إلا كلمة واحدة! ومن الأمثلة انتشار «السلام النفسي»، وتركنا للطمأنينة والسكينة والرضا، وهذا معنى السلام النفسي عندهم.

ومن آثارها اندثار بعض الكلمات حتّى صارت غريبة على أسماع الناس، وربما لم يفهموها أو رموها بالتكلّف، وقد تجدها مستعملة معروفة مأنوسة إلى عهد قريب، بل قد تكون في القرآن والسنة، وقد تكون في عامية الناس قبل أن تتسلل مصطلحات العرنجية إلى العامية. خذ مثلًا أسماء الأوقات في العربية، استُبدل ما عند الإنقليز (صباح ومساء وليل) بها، ولولا أسماء الصلوات لنُسيت الأوقات مثل العصر والمغرب والعشاء. وبعض الأوقات ليست مرتبطة بالصلاة فلا تجد كثيرًا يعرفها، اللهم إلا إنْ كان مطّلعًا على كلام العرب ويحفظ من القرآن والحديث، مثل الأصيل والبكور والسحر والهاجرة والعشيّ. ومن ذكرها في القرآن: (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).

العرنجية في العلوم والتقنية

المشكلة في العلوم وعموم الاصطلاح أعقد من غيرها، وكلها تدخل من باب أن الإنقليز استعملوا كلمة، ثم نأتي نحن فنترجمها حرفًا بحرف. ينظر الإنقليزي إلى الظاهرة العلمية فيدونها في ورقة، ثم ننظر نحن في ورقته وننقل منها إلى ورقتنا. فمنقولاتنا عن العلوم ليست الظواهر كما هي في الواقع، بل الظواهر كما رآها الإنقليزي. وظهر هذا أكثر ما ظهر في مصطلحاتنا.

من هذا أن حتى أخطاء الإنقليز في مصطلحاتهم نترجمها كما هي ونصطلح عليها كما فعلوا. فمصطلح «الطباعة الثلاثية الأبعاد» أخذناه كما هو من (3D Printing)، مع أن هذا الاسم خطأ من وجهين: الأول أن الطباعة في العربية تبدأ من مجسم أولي فتطبعه للشكل الذي تريد، وهو غير ما يراد به هنا من الابتداء صفرًا ثم الإضافة حتى الانتهاء. هذا غير الطول المزعج لاستعمال «الثلاثية الأبعاد». والثاني أن الاسم الإنقليزي أخذ حقه من النقد من أهل التخصص لأنه خاص معمم، لذلك جاؤوا ببديل فقالوا (Additive Manufacturing)، وقد تُرجم عندنا بـ«التصنيع بالإضافة».

وإن كان الأجدر الخروج من هذا كله فنأتي بمصطلح من معجمنا الغزير. فلو نظرنا إلى العملية لوجدناها وضع مواد فوق بعضها حتى تخرج جسمًا مكتملًا، وهذا في العربية هو الركم والتراكم. ففي لسان العرب «الرَّكْمُ: جمعك شيئًا فوق شيء حتى تَجْعله رُكامًا مركومًا كركام الرمل». فلو اصطلحنا على اسم العملية بالركم، لسهل علينا الاشتقاق منها فنقول للجسم المصنوع بها «مركوم»، وللآلة الصانعة «راكمة وراكمات»، ومكان التصنيع «مِركم» بدلًا من «سرير الطباعة» المأخوذ من الإنقليزية (Print bed)، وغيرها من الاشتقاقات التي ستنفعنا في تفصيل العملية وما فيها من تعقيد. 

ثم إن الإكثار من الكلمات المركّبة يثقل النطق ويقلل المرونة ويصعب الإيجاز وتكوين الجمل. ويظهر هذا أكثر شيء في التقنية، وهو مما يُنفّر الناس من العربية فيقولون حينها إن الإنقليزية أسهل من العربية في هذا.

فكل من استعمل الأنظمة المعرّبة في أجهزة الحاسبات والجوّالات وجد شيئًا يستثقله فيها. فأول ما تفتح جهازك، تأتيك رسالة تطلب منك «اسم المستخدم» و«كلمة المرور»، ثم تكتبها باستعمال «لوحة المفاتيح» فيسمح لك «نظام التشغيل» بالدخول، وإذا بـ«هذا الكمبيوتر الشخصي» (This PC) يرحّب بك وهو على «سطح المكتب» أعلى «قائمة ابدأ»، وإذا دخلت على «موقع إلكتروني» جاءتك رسالة «ملفات تعريف الارتباط». كل هذا ونحن لم ندخل في تفاصيل البرامج وقوائمها وإعدادتها. ولو أنها كانت قليلة، لما لاحظنا ثقلها ولتعودناها.

أمّا داخل الجهاز فعندك «وحدة المعالجة المركزية» مع «وحدة معالجة الرسومات» و«ذاكرة الوصول العشوائي» وغيرها. ولا يخفى أن الإنقليزية تسهل لها مثل هذه التسميات لأنهم لا يذكرونها إلا باختصاراتها لطولها، فلا تكاد تجد أحدًا يقول (Central Processing Unit) بل يقولون (CPU) و(GPU) و(RAM)، وغيرها لباقي القطع. فالعرنجية تبعت الإنقليزية إلى ساحة التسميات الطويلة، حتى إذا دخلت الإنقليزية باب الاختصارات أغلقته، فقعدت العرنجية في السّاحة وحدها مع كلماتها الطويلة.

وترجمة المصطلحات لا تعني اتباع اللغة المنقول منها حذو القذة بالقذة. فماذا علينا لو حذفنا كلمة «وحدة» واكتفينا بكلمة «المعالج المركزي»؟ ولو شئنا اختصرناها في كلمة واحدة، لكننا لن نفعل هذا حتى يكون الأصل في الإنقليزية (Central Processor) دون استعمال «وحدة»، ولأنهم لم يستعملوا (Unit) مع الذاكرة لم نستعملها. 

فصار من المصطلحات عندنا ما هو ترجمة الحرف بالحرف لما في الإنقليزية دون النظر إلى اللغة ولا الثقافة ولا حتى تاريخنا في العلوم. من ذلك أن حتى العلوم التي نشأت عندنا واصطلح على تسمياتها علماؤنا في الماضي أخذها هذا الاتباع. فالفقه مثلًا كثيرًا ما يُكتب «الفقه الإسلامي»، وهل نعرف فقهًا غير فقهنا حتى نحتاج إلى هذا الوصف؟ لكن لأن الإنقليزية تقول (Islamic Jurisprudence) تبعناهم وأضفنا «الإسلامي».

ونعلم أننا سنُلام في هذا طالبين منّا اتباع الكلمة الأصل دون «تحريف» كما وضعها مخترعها. وهذا وهم كبير منتشر، كأنك تقول إن شركة الأثاث هي أولى منك بتزيين بيتك لأنها هي صانعة الأثاث. والمخترع لمّا اخترع كان تحت وطأة لغته وثقافته وسياقه ثم سمّى، فلِم نحبس أنفسنا في ثقافته وسياقه؟ والموجودات والمخترعات في معزل عن اسمها، فالشيء يُوجد ثم يُسمّى. ولو كانت أسماء الأشياء موحّدةً بين اللغات لما اختلفت اللغات بادي الأمر. آية هذا أنك لو نظرت إلى أسماء الكواكب مثلًا وقارنت بين اختلاف العرب والإنقليز لوجدت أثر ثقافتهم ظاهرًا بيّنًا في التسمية:

فأشد الكواكب نورًا وحسنًا للناظر من الأرض، لمّا رآه الأعاجم سموه على آلهة الجمال عندهم فقالوا له (Venus)، أمّا العرب فسموه «الزهرة» أي «الأَبيض العتيقُ البياضِ النَّيِّرُ الحَسَنُ، وهو أَحسن البياض كأَنَّ له بَرِيقًا ونُورًا» (لسان العرب). ورأوا كوكبًا أحمر فقال له الرومان (Mars) وهو إله الحرب عندهم فأخذه الإنقليز منهم، أمّا العرب فسموه «المرّيخ»، والأمرخ هو المنقّط بالأحمر. والأمثلة على الاختلافات بين الثقافات في التسميات كثيرة جدًّا، ولاحظ أن الأعاجم يسقطون خرافات ثقافتهم على واقعهم فيسمّوا عليها، أمّا العرب فتُكثر من التسمية بالوصف. ولا ينفي هذا تعريب تسميات الأعاجم كما فعل العرب بالأسطرلاب.

ثم إنه ليس شيء أقتل للعلوم من الظن بأن الاتباع والتقليد أولى من الإبداع. ومن قلّد في التسميات وهوّل من الإبداع فيها، أتراه يجرؤ على الإبداع فيما هو أكبر وأعظم منها؟ ولا يعني نقدنا هذا أن كل مصطلح إنقليزي لا بد أن نخترع له مصطلحًا جديدًا من عندنا، بل هذا أقرب إلى المحال لكثرة المصطلحات التي تخرج كل يوم، لكن سد الطريق هو الذي لا ينبغي. 

حسن صنيع العرب المعاصرين

حتى لا يُظن أن العرب لم يُفلحوا في الترجمة والاصطلاح أبدًا، سنضرب أمثلة هنا أبدع أصحابها وأصابوا.

من أكثر ما أبدعوا فيه تسمية المركبات. فقالوا للمركبة التي تسير على الأرض «سيّارة»، والتي تطير في الجو «طيّارة»، والتي تحفل بناس كثير «حافلة»، والكبيرة التي تشحن المتاع «شاحنة»، وسفينة البخار «باخرة»، والتي تسبر الفضاء وتكتشفه «مسبار»، والمركبة التي تدب الأرض «دبّابة»، وأخذوا تسمية العرب للإبل التي تسير خلف بعضها فقالوا للمركبة التي تسير بعربات «قطار»، وكثيرات أُخر كالصاروخ والمسيّرة والمروحيّة والغوّاصة والدرّاجة وغيرها. يذكرك هذا بما ذكرناه آنفًا في تسمية العرب للصحاري.

ولو رجعت إلى تسميات الإنقليز لهذه المركبات لوجدت اختلافًا كبيرًا عن هذه التسميات، فالسيارة عندهم (Automobile) أي المركبة المتحركة بنفسها، و(Car) لاتينية بمعنى مركبة بعجلات. وليس بمستبعد أننا كنا سنسمي السيّارة «مركبة متحركة بنفسها» لو أنها ظهرت اليوم لنا. وإن تعجب فعجبٌ والله تسمية العرب للغوّاصة بالغوّاصة، وبهذا قد انفردوا عن أكثر لغات العالم التي تسميها «تحت البحر»، فالإنقليزية تقول (Submarine) والتركية تقول (Denizaltı) والألمانية (Unterseeboot).

ثم انظر إلى الطيران وتسمية الإنقليز له، تجدهم يُغلّبون استعمال حيّز الطيران «الهواء» لا فعل الطيران كما فعلنا نحن. لذلك يقولون «مركبة الهواء» (Aircraft) و«ميناء الهواء» (Airport) وغيرها. وانظر إلى إبداع العرب المعاصرين لمّا اشتقوا كل شيء من فعل الطيران، فقالوا للمركبة «طيّارة» ولمهبط الطيران «مطار» ولسائق المركبة «طيّار» وغيرها.

وعلى ذكر الاشتقاق، لم يقولوا لتكوين الإنسان للمطر «صناعة المطر» من (Rainmaking)، ولا «بذر السحاب» من (Cloud Seeding)، بل قالوا «استمطار» وهو وزن اشتقاق في العربية يفيد طلب الشيء. ومثله استعمال وزن الآلة «فعّالة»، فقالوا غسّالة وثلّاجة وبرّادة ونشّافة، وهو نظر حسن لخصائص العربية الغائبة في الإنقليزية، فلو أنهم حصروا أنفسهم فيما قالوه الإنقليز لقالوا للغسّالة «آلة الغسيل» (Washing Machine).

وظهر إبداعهم في كثير من كلمات الرياضة. فقالوا لفريق الدولة «المنتخب» بدلًا من «الفريق الوطني» (National Team) لأنه منتخب من خيرة لاعبي البلد، وسموا تسلل اللاعب تسللًا ولم يترجموه «خروج من الجانب» (Offside)، وقالوا للكرة الراجعة من هجمة «مرتدة» ولم يقولوا «هجوم مضاد» (Counter - attack).

فهؤلاء نظروا للمُسمّى فسموه ولم ينظروا إلى تسمية الإنقليز فترجموها. وحتى لو نظروا إلى تسميات الإنقليز، تجدهم قد ترجموها بأحسن ألفاظ العربية وأكثرها مناسبةً للمعنى. فـ(Mobile Phone) عند الإنقليز هو هاتف غير ثابت بل متحرك، فلم يترجمه العرب «الهاتف المتحرك»، بل قالوا «الجوّال» لأنهم نظروا إلى لفظة الحركة وما يتصل بها من معانٍ فأخذوا التجوّل والجوّال. 

لعلّه ظهر الآن أن النظر إلى العربية وخصائصها يعطينا مفردات أليق بالعربية من الترجمة الحرفية من الإنقليزية. فشتان بين السيّارة والمنتخب والجوال، وبين «التغذية الراجعة» و«الإيجابيّة السامّة» و«الطباعة الثلاثية الأبعاد» وغيرها.

ختامًا، فإن اتباع الإنقليزية في التسميات مطلقًا يعني أن مفردات الإنقليزية وخصائصها ستطغى، ومفردات العربية ستضمحل وتموت. فلو كانت كلمة عربية ما أقرب إلى معنى ظاهرة علميّة، لمنعنا أنفسنا منها لأن الإنقليزية ليس فيها مرادف لتلك الكلمة العربية، فلا نستعمل حينها من معجم العربية إلّا ما كان له مكافئ إنقليزي. وقل هذا في كلمات كانت العرب تصف بها، فاستبدلنا الكلمات المترجمة بها كما ذكرنا لك من أمثلة.

واللغة ليست غايتها الألفاظ والأصوات، بل تحمل معها ثقافة كاملة ومنظورًا شاملًا. لذا هذه دعوة إلى النظر بأعيننا لا أعين غيرنا، والكلام بألسنتنا لا ألسنة غيرنا، والانطلاق من ثقافتنا لا استعارة ثقافة قوم آخرين.


كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭

مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨

موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!

هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗

التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

«إن لم نتدارك الأمر، سينتهي عصر خلود لغة العرب الذي عاش أكثر من 1700 عام!»

في مقالة «العربية المعاصرة لغة أعجمية بحروف عربية»، يزعم عبدالله بن حمدان وأمجاد بنت عودة أن العربية التي نتداولها اليوم على أنها فصيحة، ليست إلا لغة أعجمية بحروف عربية، لا حظّ لها من العربية القويمة؛ فلا تُشبه لغة القرآن ولا حتى لغاتنا العامية.


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
أسبوعية، الثلاثاء منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+20 متابع في آخر 7 أيام