كيف غيّر الأمير محمد بن سلمان السياسة الخارجية السعودية

كيف غيّرت رؤية 2030 من أولويات السياسة الخارجية السعودية؟


يقول «مؤشر السلام العالمي» (Global Peace Index) إن السلام العالمي في أقل مستوياته منذ إنشاء المؤشر، وإن الشرق الأوسط -تحديدًا- لا يزال المنطقة الأكثر اضطرابًا في العالم.

ولا بدّ أن هذا الاستنتاج جليٌ وواضح للجميع، بفعل الاضطرابات غير المنتهية التي تعيشها منطقتنا. وأيضًا، جليٌ وواضح أن التنمية الاقتصادية والرخاء الاجتماعي يصعب أن يزدهرا في مناطق الاضطراب.

ولذا، اعتمد تنفيذ رؤية تنموية جريئة مثل رؤية 2030 على موازنات دقيقة للسياسة الخارجية السعودية. يعمل هذا العدد على استكشافها وتحليلها، ليحدّد كيفية تغيُّر السياسة الخارجية السعودية بعد إطلاق رؤية 2030.

قراءة ماتعة!

عمر العمران


تصميم: أحمد عيد
تصميم: أحمد عيد

منذ إطلاق رؤية السعودية 2030، كانت التوجهات الاستراتيجية في الرياض تتحول من إدارةِ أزماتٍ شائكة إلى صناعةِ فرصٍ تنموية، سواء للداخل أو عبر الإقليم. داخليًّا، حقّقت السعودية إنجازاتٍ ملموسة أسّست لـ«منطق جديد» في السياسة الخارجية: من توسيع قاعدة الاقتصاد غير النفطي وارتفاع مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل إلى طفرة السياحة بوصولها إلى أكثر من 100 مليون زائر في 2023 - 2024.

وهذه مؤشرات ليست للتفاخر بقدر ما هي تفسيرٌ لماذا باتت الرياض تفضّل الاستقرار الإقليمي، والربط الكهربائي، وصناديق الاستثمار المشتركة، وتسويات الخلافات، على حساب مقاربات الصراع المكلفة. فقد أعلنت منظمة السياحة الأممية تجاوز السعودية حاجز 100 مليون زيارة عام 2023، فيما أظهرت تقارير الرؤية السنوية أن نسبة مشاركة المرأة قد تجاوزت الهدف المحدد (30%) في 2024، وكلّها تعزّز حُجّة «التنمية أولًا» في السياسة الخارجية السعودية.

رؤية 2030 والسياسة الإقليمية: السعودية بوصفها قوة استراتيجية ذات تأثير إقليمي ودولي

جوهر التحوّل الخارجي السعودي منذ إطلاق الرؤية في عام 2016 يمكن تلخيصه في ثلاث أفكار مترابطة: خفض حدّة التوتّر الإقليمي بما يخدم برامج التحوّل الداخلي، ودفع مشاريع الربط والاندماج الاقتصادي (طاقة، كهرباء، استثمار)، وثالثًا تعميم أجندةٍ تنمويةٍ إقليمية في شتى القطاعات ومنها البيئة والسياحة واللوجستيات، عبر مبادرات تقودها السعودية، كمبادرة «الشرق الأوسط الأخضر». وهذا المنطق قد تجسّد عمليًّا في اتفاق الرياض - طهران بوساطة صينية (مارس 2023)، والمصالحة الخليجية في العُلا (يناير 2021)، إلى جانب توسيع الربط الكهربائي مع مصر والعراق، وإطلاق استثماراتٍ سيادية كبرى في دول الجوار.

أحد أبرز ملامح السياسة السعودية الجديدة توظيف أدوات الاقتصاد السياسي لبناء علاقات أكثر رسوخًا مع دول الجوار العربي. فالمشاريع الاستثمارية في مصر والأردن والعراق تمثل نماذج على كيفية دمج التنمية في صميم السياسة الخارجية. واستعراضنا لهذه الأمثلة هو فقط لتوضيح ما نرمي إليه دون أن يعني ذلك أنها تعبر عن كل المشاريع السعودية مع هذه الدول المذكورة أو مع غيرها.

في مصر، دخلت الاستثمارات السعودية إلى قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والسياحة، إلى جانب مشروع الربط الكهربائي الذي يربط بين منظومتي الطاقة في البلدين. في 2022، استحوذت «الشركة السعودية المصرية للاستثمار» على حصصٍ في أربع شركات حكومية مصرية بنحو 1.3 مليار دولار، وأُعلن في 2024 عن «مرحلة أولى» لاستثمارات (PIF) بقيمة 5 مليارات دولار موجّهة لقطاعات السياحة والعقار والطاقة، وهو مسارٌ يخفّف ضغوط السوق المصرية ويستهدف في الوقت ذاته تكامل سلاسل القيمة الإقليمية.

بالتوازي، يمضي مشروع الربط الكهربائي السعودي - المصري (3000 ميقاواط) نحو التشغيل الكامل في 2025، ليتيح تبادل أحمال الذروة وتوليد الطاقة الكهربائية على جانبي البحر الأحمر. هذه المشاريع تحمل بعدًا اقتصاديًّا وتنمويًّا، وتعكس رغبة في خلق مصالح متبادلة تجعل العلاقات أكثر استقرارًا مع تقلبات الحوادث الجيوسياسية، علاوة على أنها علاقات أخوّة إسلامية وعربية.

في الأردن، أسّس صندوق الاستثمارات العامة مع شركاء أردنيين «الصندوق السعودي الأردني للاستثمار (SJIF)» ليكون قناة ضخّ استثمارية منظّمة. ومن أبرز مشاريعه «المدينة الطبية» في عمّان (نحو 400 مليون دولار)، مع توقّعات بآلاف الوظائف ونقل معرفةٍ نوعي في التعليم الطبي. هذه الخطوات تُظهر أن السعودية تتعامل مع التنمية بوصفها وسيلة لتعزيز استقرار الجوار، بما يعود بالنفع على الطرفين.

أما في العراق، فإن إعادة فتح منفذ عرعر ومشاريع الربط الكهربائي تعيد دمج بغداد في شبكة اقتصادية عربية، وتفتح أمامها خيارات تنموية جديدة. إذ بعد عقودٍ من الانقطاع أُعيد فتح منفذ عرعر الحدودي للتجارة في عام 2020، وتتابعت خطوات عملية لربط العراق بمنظومة الخليج كهربائيًّا عبر «هيئة الربط الخليجي» ثم عبر خطّ مباشر سعودي - عراقي (400 كيلوفولت، نحو 435 كيلومترًا) وتزويدٍ مرحليٍّ لقدرات تصل لاحقًا إلى 1800 قيقاواط. وبذلك قلصت هذه المشاريع فاتورة استيراد الطاقة للعراق وستمهّد لتكاملٍ أوسع في سوق الكهرباء، بما يضرب أمثلة ملموسة على السلام الاقتصادي، كما ارتفعت أهمية أمن الحدود والربط التجاري مع التقدم بهذه المسارات.

هذه الأمثلة على سبيل الاستشهاد لا الحصر، وغيرها من الأمثلة الأخرى، تكشف أن السعودية تقدم نفسها بوصفها شريكًا يعتمد على بناء روابط مؤسسية وشراكات اقتصادية طويلة الأمد، يكون فيها الجميع مستفيدًا. وهنا يبرز البعد الاستراتيجي، التنمية المشتركة تُقلّل من احتمالات التوتر السياسي، وتحوّل المصالح الاقتصادية إلى رافعة للاستقرار.

الأبعاد الاستراتيجية والجيوسياسية

التحولات الاقتصادية لا تكون ممكنة إلا بالتزامن مع خطوات سياسية تعزز من مناخ التهدئة. لذا جاءت المصالحة الخليجية في قمة العُلا عام 2021 لتعيد التماسك لمجلس التعاون الخليجي، ما يسمح بإطلاق مشاريع تكاملية أوسع في مجالات الطاقة واللوجستيات.

كما أن استئناف العلاقات مع إيران عام 2023، برعاية صينية، قلّل من حدة التوتر وفتح الباب أمام نقاشات حول الأمن الإقليمي بعيدًا عن لغة الصدام وخطاباته. فعبر هندسة سياسية ودبلوماسية أمنية بعيدة النظر، وبتوقيع اتفاق استئناف العلاقات في بكين، خفَّضت الرياض عوامل المخاطر الإقليمية، وخلقت انحسارًا نسبيًّا لاحتمالات التصعيد، وأعادت تنشيط اتفاقيّات أمنية واقتصادية (1998، 2001). هذا الاتفاق بالطبع لا يُنهي كافة الخلافات، لكنه يفتح مسارات للتعامل المدروس مع ملفات معقدة كالحدود البحرية والأزمة اليمنية، والأهم من ذلك يمنح الطرفين التفكير أولًا في أجندة التنمية.

أما العلاقة بين السعودية وتركيا فقد دخلت مرحلة الاستئناف وفق معايير إعادة ترتيب جديدة في عام 2021، مدفوعة برغبة مشتركة في تعزيز التعاون الاقتصادي وتقليل التوترات الإقليمية. فبادرت أنقرة بخطوات، منها إعطاء إشارات إيجابية في ملفات متصلة بالقضايا القانونية المتعلقة بحادثة السفارة السعودية في تركيا عام 2018، ما استُقبِل من السعودية بمساعٍ لاستعادة التبادلات التجارية وإزالة الحواجز أمام البضائع التركية. 

في المقابل، يدرك الطرفان أن تعزيز الروابط يُفيد في تنويع الشركاء الاقتصاديين، ويفتح أسواقًا جديدة، ويخفض تكاليف التوتر السياسي. هذه الديناميكية تولَّدت في سياق تغيرات في السياسة الأمريكية، إضافة إلى ضغوط داخلية في تركيا متعلقة بالاقتصاد، ما جعلهما يلتقيان عند تقارب استراتيجي يتجاوز الخلافات السابقة، ويُعطي مجالًا لحوار دائم بين البلدين في ملفات إقليمية كليبيا وسوريا وشرق المتوسط.

في الملف السوري، لعبت السعودية دورًا محوريًّا في إعادة إدماج دمشق ضمن الإطار العربي، وبعد التحولات السياسية التي أفضت إلى صعود قيادة جديدة بزعامة أحمد الشرع، غدت السعودية من أوائل الداعمين لاستقرار سوريا وتنميتها تحت لواء قيادتها الجديدة. لم يكن هذا التحرك مجرد عودة دبلوماسية، بل محاولة لإيجاد مقاربة عملية للتعامل مع أزمات اللاجئين، وأمن الحدود، ومكافحة المخدرات، إضافة إلى فتح الباب أمام إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار للشعب السوري وللمنطقة.

وقد لاقى إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من الرياض صدًى واسعًا في الأوساط العربية والدولية، إثر تأكيده عزم حكومته رفع العقوبات عن سوريا، ليعكس الحدث برمته الثقل السعودي في التوفيق بين مصالح القوى الإقليمية والدولية، وقيادة أمن المنطقة واستقرارها لبر الأمان.

أما القضية الفلسطينية، فقد أكدت السعودية من جديد مركزيتها عبر شراكتها مع فرنسا في مبادرة لإحياء مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتعزيز حل الدولتين. هذه الخطوة تحمل دلالات سياسية عميقة، إذ تسعى إلى تثبيت أن استقرار المنطقة لا يكتمل دون معالجة عادلة للقضية الفلسطينية. لا سيما أن الكيان الصهيوني الإسرائيلي بات يعربد ويفاقم من قوته التخريبية في المنطقة عبر تجاوزات وتدخلات وانتهاكات سافرة للقوانين والأعراف الدولية، سواء ضد المدنيين العزل في غزة والضفة الغربية، أو ضد دول مثل لبنان وسوريا، وآخرها الانتهاك الصارخ للسيادة القطرية بذريعة وأسباب تُدينه لا تبرئه: استهداف قيادات حماس السياسية، مع أنهم الفريق المفاوض في مسار الهدنة الذي تدفع إليه حليفتها والقوة الكبرى في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية.

السعودية دوليًّا: الطاقة والوساطة وتوازن العلاقات مع القوى الكبرى

في سياق موقع السعودية عالميًّا، لا يمكن فصل استراتيجيتها عن كونها محورًا رئيسًا في سوق الطاقة، حيث تُعدّ الركيزة الأهم في منظمة أوبك و«أوبك+» ومصدرًا مسؤولًا للنفط عالميًّا. دور السعودية لا يقتصر على موازنة العرض والطلب، بل بات عنصرًا أساسيًّا في استقرار الاقتصاد الدولي وحماية النظام العالمي من تقلبات حادة قد تهدد أمن الطاقة للدول الصناعية والنامية على حد سواء. فالسعودية، من خلال قدرتها على زيادة الإنتاج أو تقليصه بقرارات مدروسة، باتت تؤثر في مسار التضخم وأسعار الغذاء وسلاسل الإمداد، ما يجعلها فاعلًا لا غنى عنه في صيانة الاستقرار الاقتصادي العالمي.

هذا البعد تعزّز أكثر مع تحرك السعودية في المجال الدبلوماسي الدولي، وبخاصة في الأزمة الأوكرانية. فاستضافة الرياض لمؤتمرات دولية جمعت أكثر من أربعين دولة للبحث عن مخرج سياسي للأزمة، ثم انخراطها المباشر في جهود تقريب وجهات النظر بين واشنطن وموسكو، منح السعودية موقع الوسيط الموثوق.

ومن زاوية أوسع، يظهر كيف تستثمر السعودية بذكاءٍ مقوماتها الاستراتيجية: موقع جغرافي يربط بين آسيا وإفريقيا وأوربا، وموارد طاقة هائلة، ومكانة دبلوماسية متنامية. عبر هذه المقومات، تسعى السعودية إلى موازنة علاقاتها بين القوى الكبرى. فهي تحافظ على شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، وتوسّع تعاونها مع الصين في مجالات التجارة والطاقة والبنية التحتية، وتُبقي قنوات فاعلة مع روسيا في إطار «أوبك+» والحوار السياسي.

هذا التوازن لا يُفهم على أنه حياد سلبي، بل استراتيجية مدروسة تتيح للسعودية الاستفادة من كل علاقة في بعد أو أبعاد محددة. والنتيجة هي شبكة علاقات متنوعة تمنح الرياض مرونة استراتيجية وقدرة على حماية مصالحها الوطنية، وفي الوقت نفسه تعزيز استقرار الإقليم والعالم.

 خاتمة: السعودية بوصفها قوة استراتيجية في زمن التحولات

ختامًا، رؤية 2030، بقيادة عرابها ملهم الشباب والمثال المحتذى الأمير محمد بن سلمان، ليست وثيقة تنمية داخلية فحسب، بل تحولت إلى إطار استراتيجي شامل يحدد موقع السعودية في الإقليم والعالم. فمن خلال الشراكات الاقتصادية مع دول الجوار، والدور الفاعل في الملفات الإقليمية والدولية، والمبادرات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والمصالحات الإقليمية مع القوى الإقليمية، لا سيما إيران وتركيا، رسمت السعودية صورة قوة استراتيجية تُدير مصالحها عبر التعاون والتنمية.

دوليًّا، عززت السعودية مكانتها عبر وساطاتها في قضايا كبرى مثل الأزمة الأوكرانية، وأظهرت أنها قادرة على التحدث مع مختلف القوى العالمية من موقع الاحترام والتأثير. ومع المبادرات في قطاعات الطاقة والبيئة، باتت السعودية مؤثرًا رئيسًا في صياغة أجندة الاستقرار الدولي، بما ينعكس إيجابًا على مصالحها ومصالح المنطقة.

السعودية اليوم يُنظر إليها بوصفها قوة استراتيجية لها مكانتها وتأثيرها، لأنها تبني بيئة تجعل الاستقرار والتنمية خيارًا منطقيًّا ومربحًا للجميع. وفي عالمٍ يتغير بسرعة ويتجه نحو تعددية الأقطاب، يظل هذا الدور أحد أهم المسارات التي يمكن لقوة إقليمية ودولية أن تضطلع بها.


كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭

مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨

موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!

هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗

التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

«أحد أبرز إنجازات الرؤية -وقد يكون أكثرها أهميةً وعمقًا- هو تغيير الذهنية الاقتصادية السعودية.»

في مقالة «كيف غيرت الرؤية الذهنية الاقتصادية للمجتمع» المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة، يركّز عبدالله الناصر على إحدى نتائج رؤية 2030 التي يقلّ التنبه لها، وهي تغيير الرؤية لذهنية الفرد ومدى ارتباطه بالعلم والعمل.


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
أسبوعية، الثلاثاء منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+30 متابع في آخر 7 أيام