«المنسيّون بين مائين»: رواية كتبت على الماء 🌊

زائد: أحببت وغدًا 👺

حضرت عددًا من ورشات الكتابة التي أعدّها الكاتب العراقي محسن الرملي، وكان من بين المبادئ التي شدّد عليها: ضرورة التخفّف من الإطناب، حتى لا تُفسِد التفاصيل الزائدة جمالية الرواية. ربما هو محق، خصوصًا في ظل ضغوط بعض دور النشر التي تربط صفة «رواية» بعدد معين من الصفحات. ومع ذلك، لطالما تساءلت: متى تحوّلت الكتابة المقتضبة، القريبة أحيانًا من التقرير، إلى غاية أدبية بحد ذاتها؟

في زمنٍ تُختزل فيه اللغة إلى أوامر وتعليمات، إلى إشعارات تنبّهنا ومراسلات تنظّم يومنا، يبدو المجاز كأنه ترفٌ أو حنين إلى بلاغة لم تعُد تُقنع أحدًا. لكن الحقيقة أعمق: المجاز ليس زخرفًا، بل ضرورة. نحن لا نتحدث فقط لنُبلِّغ رسالة، بل لنُوجِد لأنفسنا مكانًا في عالم لا يكفّ عن التصلّب. حين نقول «انكسر قلبي»، لا نريد الدقة العلمية؛ نريد أن نمنح الألم شكلًا يقبله العالم.

الواقع النثري لا يسعفنا حين نريد وصف الغياب، أو الحنين، أو شعور مباغت بالجمال ونحن ننتظر قهوتنا. المجاز، وحده، يفتح نوافذ في جدار القسوة. هو ما يسمح لغريب أن يستقبلني في المخبز صباحًا قائلًا: «الضوء اليوم غايةٌ في الجمال»، فأشعر أن اليوم بأكمله صار قابلاً للعيش.

لهذا، لا يُختصر المجاز في جمال اللغة، بل في حاجتنا العميقة لأن نقول شيئًا لا يُقال، بطريقة تجعلنا أقل وحدة، وأكثر حضورًا.

في هذا العدد، يحدثنا الكاتب والمترجم المغربي محمد آيت حنا عن رواية عُبّدت فصولها وسط البحر، بصبر وأناة وسنوات من البحث والاستعداد، وأضمن أنها ستثبت نفسها ضمن أهم الأعمال الأدبية الخليجية والعربية في القرن الواحد والعشرين، وأحدثكم في «هامش» عن الوغد الذي أحببته، بالإضافة إلى جديد الإصدارات والتوصيات.

إيمان العزوزي


Imran Creative
Imran Creative

«المنسيّون بين مائين»: رواية كتبت على الماء 🌊

محمد آيت حنا

ما من شيء أشدّ ازدواجًا من الماء. هو أصل الخليقة ونهايتها. حياة الغريق وموته، نعمة الناجين ونقمة المفقودين. لا يستقرّ على حال، ولا يُمسك بيد. يتسرّب، يتغيّر، يُنعش ويُهلك، يُغذّي ويُغرق. ومن هذا التوتّر العميق، تنطلق رواية «المنسيّون بين مائين» للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع، حيث لا يظهر الماء عنصرًا طبيعيًّا أو خلفيّة مشهديّة، بل يتقدّم بوصفه كيانًا سرديًّا، مزدوجًا، نابضًا، وكأنّه الكلمة الأولى في جملة لم تُكتَب بعد.

منذ الجملة الأولى، حيث الجسد الأنثوي يطفو بين سطحين، يدخل القارئ فضاءً برزخيًّا معلّقًا بين العذوبة والملوحة، بين الحياة والموت، بين البحر والنبع، بين النسيان والكتابة. الماء هنا ليس مجازًا، بل مادةٌ روائيةٌ حيّة، يُبنى منها النصّ، ويُحوَّل عبرها المصيرُ الفرديّ إلى سيرة جماعية، تتخللها الأطياف والأنين والصمت.

توتّر الماء: بين الحياة والموت

في الرواية، لا يُنقِذ الماء ولا يُميت فقط، بل يحبس الكائن في لحظة ارتعاش بين الطرفين. هو الهاوية التي نُلقى إليها، والمهد الذي نُولد منه. ليس من قبيل المصادفة أن تكون البداية من الغرق، ولا أن تنتهي الحكايات عند الشاطئ. فالماء يحرّك الشخصيات كما تحرّك الأمواج القوارب الصغيرة: لا تمضي وفق إرادتها، بل وفق مدٍّ خفيٍّ، متقلّب، لا يُستعاد ولا يُتوقّع.

في هذا التوتّر، تتشكّل الشخصيات، خاصة النسائية منها، بين حنين لماء الطفولة وخوف من ماء الغرق. وما البحر إلا امتداد لذاكرةٍ لا تستقرّ، تتشكّل بفعل الفقد، وتُروى على لسان نساء تتقاطع في أجسادهنّ الموجات والصرخات والحكايات المنسيّة. الرواية لا تبحث عن البدايات، بل تنقّب في أطلال الغرقى، وتسمع النداءات التي لم تصل يومًا إلى البرّ.

كتابة البرزخ: بين عالمين، بين مائين

«ناديا»، إحدى شخصيات الرواية، لا تكتب بالقلم، بل بالارتعاش، بالصرع، بالرؤيا. كأنّ كل كتابة حقيقيّة لا تُولد من الصفاء، بل من الحافة، من الهذيان الذي يعقب الصدمة. بين عالَمَيْن -عالم الذاكرة وعالم الغياب- تتناثر الكلمات، وتبحث عن شكلها. وفي هذا البرزخ تحديدًا، يُعاد تركيب المعنى لا عبر البناء، بل عبر التهشيم.

إنّ الرواية بأكملها تجسيد لفكرة الكتابة بما هي عبور، لا استقرار. كل سرد فيها هو حركة في ممرٍّ ضيّق بين عالمين، لا يستقرّ على أرض صلبة، بل يُكتب فوق رمل مبلّل، قابِل للزوال. تمامًا كما أنّ البحرين، تاريخيًّا وجغرافيًّا، تقع بين ماءين، فإن الرواية تقع بين لغتين: لغة الطفولة العذبة، ولغة الواقع المالح. وهكذا، تتحوّل كل حكاية إلى محاولة مستحيلة لربط طرفين لا يلتقيان إلا لحظة الغرق.

الماء محوًا والماء كتابةً

من قلب هذا التوتّر، تتولّد الكتابة المائية. لا شيء فيها ثابت، لا جملة تُستعاد بالشكل نفسه، لا ذاكرة تُروى دون أن تُخدَش. فالماء، وهو رمز المحو، يصير في الرواية أداةً للكتابة. لكنها كتابة لا تُنقش على الورق، بل على الأجساد، تُهمس في الرؤوس، تُستعاد في نوبات الاضطراب، كما لو أن الرواية نفسها كُتبت في هواءٍ رطب، يُمحى بمجرد النظر إليه.

الذاكرة في هذا العمل ليست أرشيفًا محفوظًا، بل أثرًا غائمًا. لا وثائق، بل ارتعاشات. لا يقين، بل خيوط متكسّرة. وكل محاولة للحكي تتحوّل إلى تمرين على الغياب، على الانفصال، على تعقّب الأثر قبل أن يزول. ولهذا، يمكن القول إن كتابة ليلى المطوّع ضربٌ من المعارضة لقول لبيد «وَجَلا السُّيول عن الطلول»، إذ يتحوّل صدر البيت الشّهير في الرواية إلى: «وَجلا الطُّلول عن السيول». من أطلال الذاكرة يُستعاد الماءُ في عملية تناوبٍ سرديٍّ وصراع أسطوريٍّ، بين من يحاولون ترويض الماء ومن يخضعون إليه. كلّ شيء عابر، وكلّ حكاية محتملة، وكلّ أثر معرّضٌ للذوبان.

من الكتابة إلى الانمحاء

«المنسيّون بين مائين» ليست رواية عن البحر، بل رواية كُتبت على البحر، وفي وجهه، وضده. لا تقول الحكايات، بل تبحث عنها في ارتجافات الجسد، في رعشات الغرقى، في صمت الذين لم يعودوا. وكلُّ كتابة فيها تُشبه ارتطام الموج بالحجارة: لحظة ضوء، ثم زوال. لا يمكن استعادتها، لكن يمكن الإصغاء إلى صداها، كما يُصغى إلى الأنين الذي يتبقى بعد النداء.

ولعلّ تأمّلاً لمفردة «بحر» -على ما فيه من سطحيّة- ينبّهنا إلى أنها تُخفي في جوفها كلمةً أخرى: «حبر». وإنّ تبديل موضع الحروف لا يلغي دلالتها، بل يبدّل مصيرها: من ماءٍ لا يُمسَك إلى مدادٍ لا يُمحى. ومن هذا اللعب الخفيّ تنبثق إحدى أجمل مفارقات الرواية: إنها تُكتب بحبر البحر، وتسعى إلى أن تُثبّت ما يُفترض أن يُمحى. فكما يلتهم البحر الوجوه والأسماء والأصوات، كذلك يحاول الحبر أن يُنقذها، أن يمنحها مقامًا على الورق، أن يجعل من زبد الذاكرة جملةً تُقرأ.

بهذا المعنى، فإنّ كتابة البحرينيين – ومن ضمنهم ليلى المطوّع– ليست فقط حنينًا إلى البحر، بل مناظرة تاريخية معه. البحرُ أخَذ، فكتَبوا. البحر محا، فحاولوا الترسيم. البحر غيّب الأثر، فحاول الحبر أن يترك أثرًا مقابلًا، أن يطبع اسمًا في الزمن. لكن الحبر نفسه ماءٌ، مائع، يذوب، قد يتسرّب من الورق كما تتسرّب الأرواح من أجساد الغرقى.

إنّ الكتابة، في «المنسيّون بين ماءين»، لا تنقذ من الموت، لكنها تمنح الغرقى نداءً أخيرًا. هي لا توثق، بل تهمس. لا تؤرّخ، بل تُشير. لا تقول: «كان هنا إنسان»، بل تترك أثرًا خفيفًا كالماء على الرمل، لا يُرى إلا إذا مرّ عليه ظلّ النسيان.

وهكذا، فالرواية لا تُنهي الحكاية، بل تتركها معلّقة، مشرعة، تُحكى وتُنسى، كأثر ماءٍ على رملٍ لم يجفّ بعد. وبين البحر والحبر، حكايات الإنسان الواقف على الحدّ: يكتب كي لا يُمحى، ويحكي كي لا يُنسى، ويعلم أنّ كل كتابة، في النهاية، هي أيضًا غرقٌ مؤجَّل.


Imran Creative
Imran Creative

أحببت وغدًا 👺

إيمان العزوزي

قد تكون هذه المرة الأولى التي أكتب فيها عن عمل كرهته بشدة، ومع ذلك وجدت نفسي مستمتعةً به، ولا أكاد أصدق أني أفعل ذلك. لا يبدو هذا التناقض غريبًا عن القارئ، وسبب الاستياء لا يكمن في كتاب «هوس القراءة» ذاته، بل في كاتبه، الناقد الأمريكي جو كوينن، الذي يجسّد -بأريحيّة مستفزة- كل ما أكره في القارئ: نزقه وتعاليه وتكبره المفرط.

هو القارئ الذي يظن أنه لا نظير له؛ يسخر ممن لا يتّبعون أسلوبه، يحتقر كل ما لا ينسجم مع ذائقته، ويصرُّ على فرض وجهات نظره باعتبارها قوانين القراءة المثلى. إنه أيضًا القارئ الذي يتصنّع التواضع فيقرأ الكتب السيئة فقط ليخبرنا أنه اكتشف رداءتها بنفسه، دون حاجةٍ إلى رأي أحد. والأدهى من ذلك، أنه يظل مفتونًا بتلك القراءات، يتحدث عنها بثقة المنتصر، كأنه أنجز فتحًا لا يُستهان به. أغلب الظن أنكم صادفتم نموذجًا يشبهه بين دوائركم القرائية.

ومع كل تحفظاتي على كوينن، لا يمكنني إنكار أنه قارئ استثنائي، سواء أحببتُه أم كرهته. وأؤكد لكم أنه -على الأرجح- يزدري 90% من قرّاء كتابه «هوس القراءة»، وأظنه يعلم أن أغلبهم اقتبس من كتابه أكثر مما اقتبس من أي كتاب آخر. جو كوينن يجيد الكتابة القابلة للاقتباس، تلك التي تلامس أوتار القارئ الحسّاسة، وتبدو وكأنها وُجدت بالضبط لتدافع عن شغفه بالقراءة: مرحى، كوينن قالها بدلًا عنّي، وأحسن التعبير! 

كوينن كاتب مهووس، لا جدال في ذلك، وأنا أول من يقرّ بذلك دون أدنى تردد. غير أن فرادته لا تكمن في نهمه بالقراءة فحسب، بل في قدرته اللافتة على الحديث عمّا يُقرأ بجرأة لاذعة وسخرية بلا هوادة. لا يتوانى عن جلد النصوص التي لا تروقه، بل يجد متعةً خاصة في التعليقات اللاذعة على موقع أمازون، وقد لا تُفاجأ إن علمت أنه شارك في كتابة بعضها بنفسه، فقط للمتعة.

وأكثر ما يثير دهشتي هو توازنه الغريب بين هذا الشغف المفرط بالقراءة، وغزارة الكتابة التي لا تنقطع. يؤكد في «هوس القراءة» أنه يقرأ في كل مكان وكل وقت، ما عدا الحمّام، لأن في ذلك -كما يزعم- إهانة للكتب. ولا أدري صراحةً من هذا الذي يحرص على القراءة في الحمّام أصلًا؟ ومن ذا الذي يجد فيه فسحة من الوقت تكفي لقراءة جادة؟ إلا إذا كان يواصل هناك تأمّله في شذرات سيوران، التي -بلا شك- كانت سببًا مباشرًا للإمساك الذي لازم ليلته الماضية.

يقرّ كوينن بأنه قرأ ما يقارب سبعة آلاف كتاب، وهو رقم يبدو مفاجئًا في تواضعه، لا سيّما بالنظر إلى شغفه المُعلَن، ومهنته التي تتمحور أصلًا حول القراءة. لكنه، في سياقه، يبدو رقمًا معقولًا إذا أخذنا في الحسبان كثرة انشغالاته الأخرى. فهو يواظب على قراءة نحو 125 كتابًا سنويًا (وكأن تخطّي عتبة المئة تحوّل إلى طقس تنافسي بين القرّاء). ورغم أن العدد ليس هيّنًا، فإنه يتضاءل أمام أساطير القراءة من طراز أمبيرتو إيكو، ذلك البطل الخارق بنسخته الببليوفيلية، الذي يُقال إنه كان يلتهم الكتب بمجرد لمسها.

«هوس القراءة» ليس مجرد سيرة ذاتية لرجل مغرم بالقراءة يدوّن شغفه، بل فضاء فسيح يفتح فيه جو كوينن النار على مظاهر القراءة ومؤسساتها، ويقاربها بنظرة لا تخلو من السخرية والنقد الحاد. ولم ينجُ أحد من سهامه: قرّاء الكتب الإلكترونية وأصحاب القراءة السريعة، النساء المستلقيات على أطراف المسابح في إجازاتهن الصيفية وقد انشغلن بالكتب عن أطفالهن وهم يصارعون الغرق، النقّاد الذين لا يرى فيهم سوى حفنة من الأوغاد المتملقين يديرون بنك خدمات ثقافي، وحتى الكُتّاب أنفسهم لم يسلموا من تهكمه.

لا يوفّر كوينن نوادي القراءة من سخريته، إذ يراها تجمّعات رتيبة لأشخاص سئموا الحياة وراحوا يناقشون عناوين سطحية بدلًا من الغوص في أعماق الكتب المختارة. أكثر ما يثير حنقه تلك الأسئلة البلهاء التي تُطرح في نقاش تلك الأعمال، وما يتبعها من ردود متحفّزة من «عباقرة القراءة»، مما يقتل في نظره المتعة.

لم أصادف قارئًا يكره النوادي القرائيّة إلى الحدّ الذي يفضّل أن تنهش جرذانٌ جائعة جفونه على أن يُجبرَ على حضورها، لكني التقيت بالفضولي الذي يحضرها فقط ليتعرّف علينا نحن: «جرذان القراءة»، تلك الكائنات الغريبة ذات النظارات السميكة والأسنان البارزة، التي يفترض أنها ترتدي أزياء عفا عليها الزمن من سبعينيات القرن الماضي، وتجلس في دوائر مغلقة تُحاكي جلسات العلاج النفسي. لا أعرف مَن رسم هذه الصورة في مخيّلة القادمين من العوالم الموازية للقراءة، لكن يبدو أنهم مقتنعون بها كثيرًا.

ما أثار استيائي أكثر من عدائه المعلن لنوادي القراءة هو موقفه المتشنّج من المكتبات العامة، التي لا يرى فيها سوى أماكن مرهِقة بأنظمتها، مزدحمة بكتب لا تستحق عناء التصفّح. لم يتردد في تسديد سهامه نحو أمناء المكتبات، الذين يعطلون مسعاه بلا مبرر واضح، بل لم يتوانَ أحيانًا عن وصفهم بالغباء. أما زيارته لتلك المكتبات، فغدت تجربة منفّرة في نظره، إذ يشعر أن موظفيها يستقبلون طلباته بنظرة دونية، لأنه لا يسعى وراء كتبهم المفضّلة. وهذا، في عرف كوينن، مبرر كافٍ لوصفهم بأنهم «شباب مضطربون ومنبوذون».

كوينن متحمّس على حدٍّ سواء للكتب التي قرأها، وتلك التي يرفض قراءتها قطعًا، وغالبًا ما يذكر عناوينها صراحةً. ومع أن كتابه يعجّ بعدد هائل من الإحالات، أحيانًا مليون عنوان في الصفحة الواحدة، مع افتراض معرفتنا المسبقة بها، فإنه لا يقدّم عملًا نقديًّا بالمعنى الأدبي التقليدي. في كثير من الأحيان لا يأتي على ذكر محتوى الكتب أو رأيه فيها، وإن فعل، فبعبارات مقتضبة بالكاد تفي بالغرض. الكتاب، في جوهره، أقرب إلى تأمّل ذاتي في تجربته بصفته قارئًا، ورصد لمشاعره تجاه القراءة، منه إلى محاولة فكرية لقراءة الكتب التي يذكرها.

لا يتورّع كوينن عن الإفصاح، بل التباهي أحيانًا، بانتقائية تحمل طابعًا طبقيًّا وإقليميًّا واضحًا في اختياراته القرائية. فهو يرفض، بكل صراحة، قراءة روايات تدور أحداثها في مدارس خاصة، ولا يقترب من الكتب التي تتناول فريق (Yankees) أو تلك التي يكتبها مشجعوهم، بمن فيهم سلمان رشدي. حتى غلاف الكتاب قد يكون في نظره سببًا كافيًا للعزوف، كما حدث مع «مغامرات هكلبري فن» لمارك توين التي تأخر في قراءتها لأن غلافها لم يرُق له. لا شك أن هذه ليست معايير مألوفة عند قارئ متمرّس، لكن كوينن، كما يظهر، يعيد تعريف مفهوم «الذائقة» بطريقته الخاصة.

في الختام، يظل جو كوينن واحدًا من أولئك القرّاء الذين أفضّل أن تنهش الجرذان جفنيَّ وكل شَعري على أن يجمعني معهم مجلس أو نقاش. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن وراء تعجرفه شغفًا حقيقيًّا، ومعرفةً أصيلة، وذكاءً يفرض نفسه على القارئ رغمًا عنه. لا يكتب ليسترضي أحدًا، بل ليفرض وجهات نظره. ومع نفورنا منه، نقرؤه، ونقتبس من كلماته، ونكتب عنه.

وأنا أطوي الصفحات الأخيرة من «هوس القراءة»، تردّد في ذهني عنوان كتاب لن أقرأه يومًا: «أحببت وغدًا». جو كوينن وغد، بكل تأكيد، لكنه يتقن ما يفعل، ولهذا أحببته.


الأمل مثل درب في الريف، حيث لم يكن ثمة درب، لكن عندما مشى عدد من الناس فوقه أخذ الدرب بالتشكل

يُعدّ لو شون من أبرز الكُتّاب الصينيين الذين استطاعوا مخاطبة عامة الناس، متجنّبًا الشعارات، ومتجذّرًا في التجربة. في اقتباسه الشهير، يرسم لنا رؤية نادرة للأمل: إنه ليس هبةً معطاة، ولا حقيقةً يمكن القطع بوجودها أو نفيها؛ بل هو مسار يتكوّن من أفعالنا، ويعتمد على خطانا أكثر مما نعتمد نحن عليه.

دروب الحياة لا تُعبَّد لنا سلفًا، ولم تُخلق عبثًا. إنها تظهر حين نبحث عن معنى، عن وجهة، عن إمكانية. ولكي نبلغ ذلك، قد نطأ العشب، أو ندك الصخر، نصعد الجبال أو ننزل التلال، وتحفظ خطانا ملامح التضاريس، ونفتح في الغابات والمحيطات والصحاري مساراتٍ لم تكن موجودة من قبل. فلا شيء يقف أمام الأمل... إلا التردّد. وكل شيء يبدأ بخطوة، بقرار، بقبول المغامرة.

وأجمل الدروب، تلك التي نسجتها أقدام كثيرة: تعبٌ مشترك، صبرٌ متكرر، وإيمانٌ يومي. وبعض هذه الدروب لا يصبح مرئيًّا إلا حين نؤمن بوجوده وجدواه، ونمضي فيه رغم الغموض.

في عالم يكتنفه الضباب واللايقين، يزداد قربي من فكرة أن الأمل ليس مجرّد شعور عابر، بل ممرّ نَسلكه معًا. ما يُبقي جذوة الأمل متّقدة في قلبي، هو إيماني بأنني لا أمشي وحدي.

ولعلنا لا ننسى المغامر الأول، ذاك الذي شقت خطوته الأولى الدرب، وسلك نصيحة رالف والدو إيمرسون: «لا تذهب حيث يقودك الطريق، بل اذهب حيث لا يوجد طريق... واترك أثراً.»

خزامى اليامي


صناعة الوحوش،كيف يجرّد البشر من إنسانيتهم

صدر حديثًا عن دار الساقي كتاب «صناعة الوحوش،كيف يجرّد البشر من إنسانيتهم» للكاتب ديفيد ل. سميت، المتخصّص في فلسفة فرويد وأستاذ الفلسفة في جامعة (University of New England).

يقدّم «صناعة الوحوش» قراءة مقلقة وعميقة لظاهرة نزع الإنسانية، مفادها أن تحويل الآخر إلى «أقل من بشري» ليس مجرد بلاغة، بل عملية ذهنية تُنتج إدراكًا حقيقيًّا يرى الآخر كائنًا غريبًا، أقرب إلى الحيوان، ويُشيَّء، حتى لو ظل بعض الإدراك ببشريته حاضرًا.

هذا التناقض المرعب هو ما يسمح بارتكاب العنف الجماعي، حيث تصبح الفظائع ممكنة حين يتلاشى التعاطف. يستعرض سميث تجارب من التاريخ الحديث، ويُبرز كيف يُغذَّى نزع الإنسانية بمفاهيم جوهرية ترى في الآخر خصائص ثابتة تجرده من فردانيته.

الكتاب ليس مجرد تشخيص، بل تحذير: نزع الإنسانية ليس فعلًا يقوم به «الآخرون»، بل استعداد بشري كامن فينا جميعًا، ويحتاج إلى مساءلة نقدية مستمرة.


  1. القلب العاشق: تاريخ غير تقليدي للحب

تأليف: مارلين يالوم / ترجمة: خالد الجبيلي / الناشر: الروافد الثقافية/ ابن النديم / عدد الصفحات: 292

ظلّ القلب عبر العصور يتجاوز وظيفته البيولوجية ليغدو رمزًا ثقافيًّا مركزيًّا، يستوعب في تشكيلاته المجازية طيفًا واسعًا من المشاعر الإنسانية، وعلى رأسها الحب. فقد ترسّخ هذا العضو في الوعي الجمعي لا وعاءً للدم فقط، بل وعاء للشعور، وهو ما تسعى المؤرخة مارلين يالوم إلى تفكيكه في كتابها «تاريخ غير تقليدي للحب»، وتقدّم فيه قراءة متعددة التخصصات لتحوّلات رمزية القلب عبر قرون مضت، مستندة إلى النصوص الدينية والأساطير والأدب والفنون، مع إضاءات ذكية على البعد العربي في تمثيلات الحب. يتناول الكتاب كيف أسهمت الثقافة في تأطير القلب أيقونيًّا، وكيف ساهم الأدب والطقوس الاجتماعية في ترسيخ حضوره رمزًا عاطفيًّا، في مقابل إزاحة عضوية وثقافية لبقية الجسد، بل وللمعاني الأكثر تعقيدًا التي ينطوي عليها الحب ذاته.

تسرد يالوم هذا التاريخ في عشرين فصلًا قصيرًا مع رسومات بالأبيض والأسود، مستهلّةً بالقلب النقي الذي يسمح للروح بالعبور في «كتاب الموتى» لدى المصريين القدماء، وصولًا إلى اختصارات العصر الرقمي، حيث بات القلب، بألوانه المتعددة، لغةً افتراضية تختصر مشاعر لا يسعها التعبير اللفظي.

ما شدّني في هذا العمل ليس ما يزخر به من معلومات مدهشة فقط، بل ذلك التركيز على دور الأدب في ترسيخ صورة القلب رمزًا للحب. بدءًا من سافو وأوفيد ودانتي، وصولًا إلى أسماء مألوفة وأخرى منسية، تظهر كيف استقرت رمزية القلب في أعماق الوعي الإنساني. كما تثير يالوم تأملًا عميقًا حول قوة الرموز: كيف تنشأ؟ كيف تغزو المخيلة؟ وكيف تفرض نفسها -استخدامًا وتعبيرًا- في سياقات لم تكن محسوبة؟

إن تتبّع تاريخ القلب بوصفه رمزًا للحب يكشف عن قدرة الثقافة على إعادة صياغة الوظائف البيولوجية في قوالب رمزية تتجاوز بنيتها العضوية إلى ما هو تأويلي وتخييلي. فكما تُظهر يالوم، لا تنبع سلطة الرمز من دقته الواقعية، بل من قابليته للتكرار والتأويل ضمن شبكة من الخطابات والسياقات. ومن ثمّ، فإن الإفراط في استخدام أيقونة القلب في التعبير عن الحب، خاصة في زمن التواصل الفوري والرموز الرقمية، يثير تساؤلات حول مدى صدق التعبير، وعمق الشعور، وحدود الرمز ذاته. 

لعلّ العودة إلى جذور هذا المجاز تمنحنا وعيًا نقديًّا بكيفية تشكُّل صور الحب في المخيال الحديث، وتدعونا إلى إعادة التفكير في أدوات التعبير التي نمنحها ثقلًا رمزيًّا قد لا يعكس تمامًا ثقل التجربة العاطفية الحقيقية.

قبل أن ترسل قلبًا فكر في ذلك.. ربما غيرته بكلمة «أحبك».

  1. غرفة المسافرين

تأليف: عزت القمحاوي / الناشر: الدار المصرية اللبنانية / عدد الصفحات: 235

أحيانًا نرغب في السفر بمفردنا، لنخفّف وطأة الحضور البشري في يومياتنا، ونتجنّب الجدل المعتاد بين رفقاء الطريق، كالنقاش حول الوجهات المفضّلة، مثل: هل نذهب إلى المتاحف؟ أم المحلات التجارية؟ من هنا، يبدو هذا الكتاب رفيقًا مثاليًّا للترحال؛ فهو بمثابة حديث شيّق لرجل خاض أسفارًا في العالم وفي الكتب، واصطحب في رحلاته قصصًا تُروى عادةً في الطريق أو بعد العودة منه بين الأصدقاء. ما يميّز هذا الرفيق أنه صامت، لكنه مُلهِم.

كتاب «غرفة المسافرين» لعزت القمحاوي هو عمل أدبي فريد يصعب تصنيفه ضمن قالب واحد، إذ يجمع بين ملامح أدب الرحلة، والتأملات الفلسفية، والسيرة الذاتية، وحتى النقد الثقافي. يدافع القمحاوي عن افتراض أن السفر هو ولع يجمع كل الناس، ولكنه لا يرى كل المسافرين بالمنظار نفسه، حيث يميز بين الشغف في السفر وبين السفر بصفته وجبة استهلاكية لا تقل ضرواة عن باقي مظاهر الاستهلاك التي غزت مواقع التواصل.

في معظم فصول الكتاب ذات الصفحات القليلة، يقدم القمحاوي رؤاه مثل ومضات تتشابك فيها تفاصيل السفر الواقعي مع السفر المتخيل، يكتب من خلالها القمحاوي عن السفر بوصفه تجربة وجودية، فيها خفة الكائن حين يغادر مكانه الأصلي، وفيها أيضًا نوع من «الموت اللذيذ» الذي نعود منه وقد تغيّرنا. الكتاب يحتفي بالكتب التي قرأناها وتلك التي لم نقرأها بعد، ويعيد تقديمها بوصفها مسارات بديلة للسفر، وكأن القراءة نفسها نوع من الترحال الداخلي.

لا يتحدث القمحاوي وحيدًا بل يدعو قارئه إلى الانخراط في الحوار، مثل دعوته القراء لمناقشة رؤيته حول التوافق بين رواية توماس مان «الموت في البندقية» و«الأمير الصغير» لسانت إكزوبري، أو دعوته للنظر إلى السفر بصفته تجربة تحتاج منا الإصغاء لتفاصيلها كي يتبيّن لنا حجم الفائدة التي يعود بها إلينا اكتشاف عوالم أخرى.

يقدم القمحاوي في كتابه عدة «بروفايلات» للمسافر، وسنجد حتمًا تشابها بيننا وبين إحداها؛ قد نكون المسافر الذي لا يحب السفر بحرًا، أو ذاك الذي يحب السفر كل مرة مع الحقيبة نفسها، أو المسافر الهارب الذي يترك خلفه ما يخشاه، أو المسافر الذي يفضّل رفض الأكل في الطائرة لأنه أكثر انشغالًا من تضييع وقته في الأكل والشرب. ولا يكتفي فقط بالمسافر، بل يرتب للحقيبة أوصافًا تناسب أصحابها، وللمدن حالات تتماهى وحاجات المسافر إليها.

لم أكن على سفر حين قرأت كتاب «غرفة المسافرين»، وكم ندمت على ذلك. فهو كتاب بطعم السفر؛ الجري في المحطات والمطارات، الجلوس للاستراحة قبل المغادرة، الخوف والقلق من ضياع أو تفويت شيء، والاستراحة أخيرًا في غرفة الفندق. يُقرأ هذا الكتاب وهو يرافق تفاصيل السفر، ينعتها ويصفها ويرشدنا إلى ما تاه عنّا. لم يقصد القمحاوي أن يكتب دليلًا للمسافر، ولكننا حتمًا سنجد بين سطوره نصائح غالية.

لا تنسَ أن تضعه في الحقيبة وأنت مغادر.

  1. مغزى القراءة

تأليف: بيتر شتاينس / ترجمة: محمد رمضان حسين/ الناشر: مصر العربية / عدد الصفحات: 233

يحدث أن يقع بين أيدينا كتاب، نتوقف أمامه كثيرًا، كتاب يجيبنا تحديدًا عن السؤال الذي عجزنا أن نفكر فيه: مغزى القراءة. حين أوصتني إيمان بقراءة «مغزى القراءة» لبيتر شتاينس، كنت للتو قد أنجبت طفلي الأول، شرعت في قراءته بعد ولادة لم تكن سهلة، وخضت فيها مخاضًا صعبًا انتهى بعملية قيصرية. آنس الكاتب الهولندي وحدتي في تلك الليالي الطويلة. لم تكن صحبته مبهجة، إلا أنها أنستني آلامي. أدركت، وهو يتحدث عن أوجاعه المرتبطة بمرضه «التصلب الجانبي الضموري»، أن آلامي بسيطة ومؤقتة، وأن العالم يسع آلامًا أكبر مما نستطيع تخيلها. لم أكن أعرف شيئًا عن هذا المرض، لكن الكاتب الذي كان ينتظر موته عرّفني به بألطف طريقة ممكنة.

حين نُشر الكتاب عام 2015، كان ستاينس قد أُصيب بمرض «التصلب الجانبي الضموري» (ALS) منذ سنتين، وهو مرض يهاجم الجهاز العصبي الحركي ويؤدي غالبًا إلى الوفاة خلال ثلاث إلى خمس سنوات. هناك صيغة نادرة منه، مزمنة ومبكرة الظهور، تتيح أملًا بعمر أطول. أشهر المصابين بها كان ستيفن هوكينغ، وقد أسهمت شهرته، إلى جانب ظاهرة «تحدي دلو الثلج» (Ice Bucket Challenge)، في إدخال المرض إلى الوعي الجمعي.

لكن بييتر ستاينس اختار طريقًا مغايرًا. لم يقدّم جسده رمزًا للمرض، بل واجه المرض بالأدب، وكتب عنه في مقالات تحتفي بالكلمة، وتقترب من الأدب ذاته في بنائها. مسيرته المهنية لا تقل إثارة عن نصوصه: أستاذ لتاريخ العصور الكلاسيكية القديمة في جامعة أمستردام، ثم محرر أدبي بارز من دون تكوين صحفي مسبق، ثم مدير مؤسسة تدعم الأدب الهولندي محليًّا وعالميًّا. وفي كل ذلك، ظلّت الكتب هي الخيط الذي يشد أطراف رحلته. وله كتاب لا يقل روعة عن «مغزى القراءة» وهو «القراءة وهلم جرّا»، وهو دليل للأدب العالمي مصنف في فئات تشبه الشبكة؛ مثل الخيط الذي ينطلق من رواية «1984» لجورج أورويل، ليمر نحو «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، ثم إلى «الساعة الخامسة والعشرون» لقونستانتين جورجيو، في شبكة أدب المدينة الفاسدة (Dystopia).

بالنسبة لشتاينس، كانت مقالاته القصيرة مبررًا ممتازًا لإعادة قراءة كتبه المفضّلة. كما أتاحت له الكتابة مسافة تأملية في مواجهة التدهور الجسدي ورحلة العلاج. قد لا يمنح هذا الكتاب إجابة حاسمة عمّا إذا كان الأدب يقدّم عزاءً في الأوقات العصيبة، ولكنه بيّن لشتاينس، ولنا، أن الكتابة عن الأدب كانت بلا شك عزاءً عميقًا.

من خلال أفلاطون تأمّل الموت، ووجد تشابهًا بين موت سقراط ومسار مرض «التصلب الجانبي الضموري» (ALS)، حيث يبدأ بفقدان السيطرة على الأطراف، وينتهي بفشل التنفّس. مع رواية «1984» لأورويل تساءل عن حدود الألم، ومع رابيليه تأمّل صعوبة تناول الطعام، ومع «نرسيس وغولدموند» لهرمان هسّه تساءل عن «الفضائل» التي يفرضها المرض عليه. بأسلوبه الساخر الرصين، يحافظ دائمًا على توازن دقيق، فلا يقع في فخ السخرية السطحية أو الشفقة على الذات.

في اثنتين وخمسين مقالة، يستعرض ستاينس كنوز الأدب القديم؛ الهولندي والأنجلوساكسوني والألماني. وحين يمل ينتقل إلى الأغاني وشِعرها، مثل كتابات جاك بريل، ليُظهر كيف يمكن للأدب أن يفتح نوافذ داخلية يصعب، وربما يستحيل، بلوغها بغيره. بهذا المعنى، يصبح الأدب احتياجًا وجوديًّا.

ورغم افتقاده التام للميلودراما وصراحته، يرافق القارئ مسار الانهيار الجسدي لهذا الرجل بشعور متصاعد من الألم. لذا، فهذا الكتاب وثيقة موجعة، لكنها أيضًا احتفاء نادر بقدرة الأدب على جعل الحياة، حتى في وجه الفناء، ذات معنى. إنه بالتأكيد دافع لكل قارئ أن يراجع نفسه ويسأل ما المغزى من القراءة بالنسبة إليّ؟

إن استطعت الإجابة شاركنا إياها.

خزامى اليامي.

القراءةالكتب
نشرة إلخ
نشرة إلخ
أسبوعية، الأربعاء منثمانيةثمانية

سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.

+80 متابع في آخر 7 أيام