عن جهل محاكمات تويتر وظلمها

العدالة لا تنمو في بيئة فوضوية، ولا تُستخرج من تغريدة أو مقطع منتشر، بل تحتاج نظامًا وصبرًا وعقلًا يفرّق بين ما نشعر به وما يجب أن نفعله.


يقول بليز باسكال: «العدالة بلا قوة لا تقوم، والقوة بلا عدالة طغيان.»

على أثر هذه الفكرة الجوهرية عن العدالة، اختارت الحضارات البشرية تمكين السلطات العادلة بالقوة اللازمة لإنفاذ العدالة، والأهم: حصر تلك القوة عليها.

ولذا طوّر البشر النظم القانونية ومكنّوها بالموارد والمعطيات التي تحتاجها لتختص بإقامة العدالة ولا تنشغل بغيرها، ولتكون المسار الأوحد لها. وبذلك وُلدت المحاكم والقوانين، ووُجد القضاة والمحامون.

غير أنه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقدين الأخيرين، تحولّت تلك الوسائل إلى مجالس شعبية؛ تلتقط طرف خبرٍ عن قضية جديدة، وشذراتٍ محدودة من أدلتها وحججها، فتستصدر بسرعة قياسية حكمها النهائي: فلان مدان، وفلان بريء، رُفعت الجلسة!

وفي هذه الحالة، حتى وإن اختصت النظم القضائية بالسلطة اللازمة لإنفاذ عقوبات مثل السجن أو التغريم، فإن تلك «المجالس الشعبية» باتت تمارس سلطةً في إنفاذ عقوبات أخرى، مثل التشهير والنيل من السمعة.

وهي تُنزل تلك العقوبات مع عدم اختصاصها بالعمليات القانونية وعدم تفرّغها حتى لها، والأهم: عدم امتلاكها المعطيات والمعلومات اللازمة للحكم. فهي تملك عنصر القوة، ولكنها تفتقر إلى عنصر العدالة؛ فتغدو بذلك سلطةً طاغية.

يناقش هذا العدد هذه الظاهرة المؤثّرة والمهمة، ويحتجّ لقَصر العدالة بأيدي السلطات العادلة.

قراءة ماتعة!

عمر العمران


تصميم: أحمد عيد
تصميم: أحمد عيد

حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقضِ به، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق، فقضى للناس على جهل، فهو في النار»، لطالما استُشهد به في التحذير من الظلم، وغالبًا ما نفهمه، ببساطة، على أن القاضي الذي يحكم بالعدل في الجنة، والذي يحكم بالظلم في النار.

لكن ما ينبغي أن نلفت أنظارنا نحوه في هذا الحديث، بل ما يستدعي التوقف الطويل والتأمل، أن أحد القاضيين اللذين توعَّدهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنار لم يكن ظالمًا بالمعنى التقليدي، بل كان جاهلًا. لم يكن فاسد النية ولا متعمدًا للجور، ولكنه تجرأ على الحكم وهو لا يعلم. هذا القاضي، بحسب الحديث، لم يكن خبيثًا ولا غاشًّا، بل ربما كان حسن النية، راغبًا في الإنصاف، لكنه افتقد لأهم شروط العدل: العلم. فلما قضى بين الناس دون علم، وقع في الظلم من حيث لا يشعر، فاستحق الوعيد.

هذا التفصيل النبوي لا يحذرنا فقط من الظلم المتعمد، بل من العدالة الزائفة التي يصنعها الجهل. إن الحُكم في الناس -مهما حسنت فيه النوايا- لا يُغتفر إذا كان مبنيًّا على ظن أو جهل أو افتقار إلى المعرفة الدقيقة. أن تحكم بنية طيبة، دون أدوات الفهم، هو في ذاته خطر عظيم. بل لعل الجهل في موضع الحكم أخطر من فساد النية؛ لأن الجاهل يخلط بين العدل والباطل دون أن يعي، فينشر الظلم وهو يحسب أنه يحسن صنعًا.

ويتكرر هذا المعنى أمامنا دائمًا. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منابر يُمارَس فيها القضاء الشعبي، ولكن دون قواعد ولا معايير. فجأة، يتحول الناس إلى قضاة وتتحول المنصات إلى ساحات محاكمة؛ يُتهم فلان، يُبرأ فلان، يُدان آخر، دون أن تُعرض أدلة أو يُمنح أحد حق الدفاع عن نفسه. بل إن الأحكام كثيرًا ما تُبنى قبل أن تُعرف الوقائع؛ لأن الهدف ليس الحقيقة، بل تأكيد موقف سابق أو تصفية مشاعر مكبوتة أو الانتصار لانطباع شخصي.

في كل قضية يتسابق الناس إلى الحكم لا إلى الفهم، وإلى الإدانة لا إلى التثبت. وكثيرًا ما لا تعكس الآراء عدالة مجردة، بل تعكس هوًى متخفّيًا أو تحيّزًا جماعيًّا أو رغبة في الانتقام من «فئة» يمثّلها الشخص المتهم. ولذلك، فإن ما نشهده في «محاكمات تويتر» ليس مجرد نقاش اجتماعي، بل صورة مقلقة من العدالة المزعومة التي قد تجرّم البريء وتبرّئ المسيء، تحت ضغط الجماهير أو رغبة تصدّر «الترند».

في هذا المقال، لست بصدد الدفاع عن شخص أو نفي تهمة عن أحد، فهذا باب آخر. وإنما أكتب عن مسألة أخطر وأوسع: عن التسرع في إصدار الأحكام والتجرؤ على مقام القضاء بلا علم ولا مسؤولية، وعن الفكرة التي نغفل عنها كثيرًا: أن الصمت أحيانًا قد يكون أكثر عدلًا من التصدر. 

أن تختار ألا تُصدر حكمًا، وألا تُشارك في فخ الإدانة أو التبرئة العاجلة، هو في ذاته موقف مسؤول، وقد يكون أقرب إلى العدل من كثير من المواقف التي تزعم الحسم. وسأحاول في هذا المقال أن أشرح لماذا يكون الموقف المتأنّي، الهادئ، المتعقل، هو الأجدر بالاتباع في زمن أصبحت فيه الكلمة الواحدة قد تجرّ خلفها ظلمًا لا يمكن إصلاحه، أو تنسف ما بقي من عدالة في الوجدان العام.

من القضايا التي أستحضرها، تلك الحادثة التي اقتُحم فيها منزل فنانة معروفة، وانتهى الأمر بمقتل الشاب المقتحم على يد زوجها. تحولت الحادثة حينها سريعًا إلى ساحة صاخبة من الجدل العام؛ حيث يرى كل شخص نفسه مخوّلًا بإصدار الحكم. وكأن المنشورات والتغريدات صارت بديلًا عن المحضر القضائي، وصكّ الإدانة أو البراءة لا يُوقّع إلا من الجمهور.

وما حدث -كما يحدث في كل مرة- أن الناس انقسموا إلى فريقين متنافرين: فريق رأى أن الفعل لا لبس فيه؛ دفاع مشروع عن النفس ومن يقتحم بيت غيره يتحمّل عواقب فعله. وفريق آخر رآه جريمة متعمدة، وأن القتل لم يكن ضرورة، بل استغلال للقوة والنفوذ وتمثيل لطبقية لا تعاقَب.

غير أن المشكلة لا تكمن في هذا الانقسام ذاته -فالاختلاف طبيعي- بل في أسبابه الخفية. كثير من المواقف التي بدت حماسية لم تولد من حرص على العدالة ولا من تأمل في الوقائع، بل من دوافع دفينة، بعضها شخصي وبعضها اجتماعي. من أحبّ الفنانة، أحبها لأنها رافقته في أغنية أو شكلت جزءًا من ذاكرته؛ فصار الدفاع عنها امتدادًا لحمايته لصورته هو. ومن كان ناقمًا على عالم الشهرة أو ضاق ذرعًا بتفاخر الأثرياء، رأى في هذه الواقعة فرصة للانتصار الرمزي على فئة طالما أثارت غيظه.

بل إن بعض المواقف لم ترتبط بالحادث نفسه، وإنما بما أثاره من أسئلة وهوية وانتماء: هل القاتل من طبقة نخبوية؟ هل الضحية من خلفية أفقر؟ هل الجاني رجل أم امرأة؟ هل هناك فئة اجتماعية أو عرقية أو فكرية نكرهها ونجد في هذه الحادثة فرصة لإدانتها؟ وهكذا تتحول القضايا من مشكلات قانونية إلى «مرايا إسقاط»، يعكس فيها كل فرد هواجسه وميله وعداوته، وتُصفّى فيها الحسابات القديمة تحت لافتة العدالة.

في هذا المشهد، تُنسى حقيقة أساسية: أن هناك إنسانًا قُتل، وهناك جهة رسمية يُفترض أن تباشر التحقيق، وهناك تفاصيل كثيرة لا نعرفها ولا يحق لنا تجاوزها لمجرد أننا متحمسون أو غاضبون. في مثل هذه الحالات، الموقف العقلاني الهادئ، وربما الأصدق، هو الصمت. لا لأن الإنسان غير معني بالعدالة أو لا يهتم بما يجري، بل لأنه، ببساطة، ليس طرفًا في النزاع ولا يملك المعطيات التي تُخوّله للحكم. 

فالحقيقة في مثل هذه القضايا معقدة، وليست متاحة لمن قرأ عنوانًا عاطفيًّا أو شاهد مقطع فيديو مقطوعًا من سياقه أو اطلع على بعض المستندات والوثائق. فالقضاء الجنائي لا يُبنى على هذه المعلومات المجزّأة، بل على تحليل مسرح الجريمة ومراجعة تقارير الطب الشرعي ودراسة أقوال الشهود والربط بين المعطيات والأدلة. فأن تبني رأيك على مقطع متداول أو صورة مستفزة أو عاطفة لحظية، فهذه ليست عدالة، بل انطباع شخصي يرتدي ثوب الإنصاف زورًا.

ولا بد أن نعي أن عملية اتهام إنسان بارتكاب جريمة -وخصوصًا إذا كانت جريمة معقدة أو خطيرة- ليس أمرًا هينًا. ولهذا السبب لم تترك المجتمعات البشرية مسألة الاتهام والإدانة لردود الفعل أو المشاعر الآنية، بل طوّرت عبر القرون منظومة قضائية دقيقة. 

وكالة الأنباء السعودية
وكالة الأنباء السعودية


وهذه المنظومة ليست مبنية على رأيّ فرديّ دون ضوابط، بل تشترك فيها مؤسسات وأشخاص يحملون مؤهلات علمية وخبرات عملية: قضاة تمرّسوا في فهم القانون، ومحامون يكرّسون شهورًا وسنوات للدفاع والتقصّي، وجهات تحقيق تتعامل مع الأدلة والوقائع بصرامة علمية. 

ناهيك عن تفرغ هؤلاء للعملية القضائية، بعكس شخص غير متخصص وغير مؤهل علميًّا وغير مطلع على جميع المعطيات ثم هو أيضًا غير متفرغ؛ لديه عمله ثم يأتي ليتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لسويعات أو حتى دقائق، فيحكم في هذا وذاك. وكل هذه المتطلبات وجدت من أجل بناء مسار آمن يمكننا من خلاله أن نقلل عدد الأخطاء في مجال القضاء والحكم. 

نحن الأفراد خارج هذه المنظومة، لا نملك المفاتيح التي تمتلكها المحكمة ولا التأهيل الذي حظي به أعضاؤها. ولسنا خارجها من حيث المكان فقط، بل من حيث العلم والاطلاع. لا نرى الأدلة جميعها ولا نحضر جلسات المحاكمة ولا نفهم طبيعة العمل القضائي بكامله. 

وعلى هذا، فإن من يجزم من العامة بأن فلانًا مذنب أو بريء، فإنه في حقيقة الأمر يتحدث بوسائل لا تخوّله للحكم، مهما قرأ من مقالات أو تابع من تغريدات أو شاهد من مقاطع. ما نراه على الإنترنت ليس سوى شذرات من الحقيقة؛ يكاد يكون بعضها مجتزأ، وبعضها الآخر مشحون بالتحيز أو مبني على تصورات خاطئة. كل هذا لا يصنع قاضيًا، بل بالكاد يصنع رأيًا عاطفيًّا هشًّا.

ومن اللافت أن فكرة التورع عن الحكم والقضاء لا تحاط ضمن الأطر الأخلاقية فقط، بل تعترف بها النظم القانونية ذاتها. فمثلًا، التشهير بالمتهمين يُعد جريمة مستقلة في قوانين كثير من الدول، لأنه يُعد تدخلًا في اختصاص السلطة القضائية وتشويشًا على مسار العدالة. وحول ذلك، أدعوك لقراءة أحد مقالاتي السابقة في نشرة الصفحة الأخيرة: «التشهير قبل حكم القضاء فوضى وجريمة».

ومن المهم أيضًا التأكيد على ضرورة احترام القضاء، حتى قضاء الدول الأخرى، والتنبيه بأن احترام القضاء لا يعني أن نتعامل مع أحكامه كأننا نحن من أصدرها، أو نكررها وكأننا جزء من المحكمة. فالعدالة ليست لعبة جماهيرية فيها «فريق انتصر» و«فريق خسر»، ولا ساحة تنافس نثبت فيها مواقفنا. احترامك الحقيقي للقضاء يظهر عندما لا تتدخل في أدواره وتمتثل لأحكامه. فالحكم مسؤولية يتحمّلها من يملك الأدلة والصلاحية القانونية، لا من تابع القضية من هاتفه. العدالة مسار مؤسسي دقيق، وليس فرصة للمزايدة أو تسجيل النقاط.

وهذه نقطة مهمة لمن يرى أحكام القضاء ثم يتبناها دون أن يطّلع على التفاصيل أو يكون مؤهلًا أساسًا لتقييمها. فاحترام القضاء لا يكون بمعاملته كفريقك المفضل، بل أن تدرك أنك شرعًا ستكون محاسبًا، لأنك من الأساس غير مكلّف بالحكم. فالله لن يسألك عن الناس طالما ليست تلك وظيفتك ولا مسؤوليتك. فاحترام القضاء يتأتى دون تبني آرائه، بل في تركه يمارس عمله باستقلالية. 

وبعد أن نعي خطورة مقام التصدي للقضاء دون علم وندرك الموقف العقلاني المنشود، لا غنى أن نعرج على مسألة موازنة الإدانة والبراءة القانونية. فكثير من الأصوات المتطفلة على شأن الحكم في الناس تطلب الإدانة والمعاقبة، وترى في ذلك درعًا حاميًا للمجتمع ورادعًا صارمًا لكل من تسول له نفسه.

وإذا نظرنا إلى المسألة بمنطق احتمالات بسيط، فكل حكم يمكن أن تكون له أربع نتائج فقط: إما أن تُدين مجرمًا (وهذا عدل)، أو تُبرّئ بريئًا (وهذا عدل أيضًا)، أو تُدين بريئًا (وهذا ظلم)، أو تُبرّئ مجرمًا (وهذه مخاطرة وظلم أيضًا). ومع أن الاحتمالين الأخيرين كليهما غير مرغوب فيه، فإن النظام القضائي في العالم -سواء في القانون الوضعي أو الشريعة الإسلامية- يضع قاعدة حاسمة: أن تخطئ في العفو، خيرٌ من أن تخطئ في العقوبة.

ولذلك، نجد أن القانون الأمريكي، مثلًا، يشترط في الجرائم الجنائية أن يكون الحكم بالإدانة صادرًا بالإجماع من هيئة المحلفين. فإذا عارض عضو واحد فقط، سقط الحكم. وفي الشريعة الإسلامية، لا يُثبَت حدّ الزنا إلا بشهادة أربعة شهود عدول رأوا الفعل عيانًا، ومن لم يأتِ بهذا العدد يُعاقب بتهمة القذف. في كلتا الحالتين، التسرع في الإدانة يُعد خطرًا أكبر من التراخي في التبرئة.

 أعضاء هيئة محلّفين يستمعون لشهادة – 1913
أعضاء هيئة محلّفين يستمعون لشهادة – 1913

وكما قلنا في الأعلى، إن تبرئة المجرم كإدانة البريء؛ كلاهما خطأ وظلم وتجاوز، إلا أن جانب التبرئة أولى من جانب الإدانة. فالخطأ في التبرئة -مع كونه مؤلمًا- لا يعني إخلاء سبيل المجرم ليعيث فسادًا من جديد؛ فالجاني قد يُراقَب وتُجمع أدلة جديدة وتُعاد محاكمته في حال ظهور مستجدات. 

العدالة تظل يقِظة، تفتح ملفاتها وتبقي الباب مواربًا أمام إصلاح ما فات. أما إذا أُدين بريء، فإن أبواب العدالة من الصعب أن تُفتح له لاحقًا مقارنة بالحالة الأخرى. ففي حال الإدانة الخاطئة، يُسجن البريء وتُدمّر سمعته ويُفصل من وظيفته وتنكسر صورته في عيون أهله ومجتمعه وتنهار حياته، في أحيان كثيرة، نهائيًّا. وإن ظهرت براءته لاحقًا -وهو احتمال نادر لاعتبارات عملية- فإن ما يُقال له لا يتجاوز كلمة «نعتذر» أو مبلغ تعويض، في كثير من الأحيان، لا يُصلح شيئًا مما تحطّم ولا يعيد ما فُقِد. ولكنه أضعف الإيمان وأكثر ما يمكن تقديمه. 

الإدانة الخاطئة لا تصيب الفرد فقط، بل تهز الثقة في النظام بأكمله. فالناس حين يرون أن العدالة تُخطئ وأنها قادرة على سحق البريء، لا يعودون يرون فيها درعًا يحميهم، بل احتمالًا مرعبًا قد يقع عليهم فجأة. يصبح كل إنسان عرضة لأن يكون الضحية التالية للخطأ أو التسرع أو الاشتباه. والنتيجة: شعور عارم بعدم الأمان، ليس من المجرمين، بل من النظام نفسه. وهنا، تتحوّل العدالة من حصن للمجتمع إلى مصدر خوف يهدد الجميع.

ومع هذا، يبرر كثير من الناس استعجال الأحكام بحجة «ألا يفلت المجرمون من العقاب»، وهي رغبة مفهومة لكنها خطيرة إذا لم تُضبط بالقانون والعقل؛ لأن السعي وراء العدالة لا يبرر أن نرتكب باسمها ظلمًا جديدًا. لا شيء أخطر من عدالة تُمارس بدافع الغضب أو في ظل حالة انفعال شعبي. فالعدالة الحقيقية ليست تصفية حساب ولا تفريغًا لمشاعر القهر، بل هي توازن دقيق وهادئ وأحيانًا جاف. لكنه هو ما يصون كرامة الجميع، حتى كرامة من يُدان في نهاية المطاف.

العدالة التي تنبع من الانفعال تصنع أخطاء جديدة باسم تصحيح الأخطاء القديمة. والعدالة التي تخضع للرأي العام أو تُدار تحت الضغط لا تلبث أن تنهار؛ لأنها تفقد قدرتها على التمييز بين القانون والانتقام، وبين صوت الجماهير وقوة الدليل.

ولكن من الحجج التي يمكن أن تثار: تلك التي تقول إن الموقف العقلاني موقف سلبي، وإنه يمنح الفاسدين والمعتدين بيئة صامتة تمكنهم من ممارسة فسادهم دون مقاومة. قد تبدو هذه الحجة ظاهريًّا منطقية، ويدعمها شعور داخلي مشروع بالرغبة في الانتصار للحق ورفض السكون أمام الظلم. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الموقف الشعبوي الفوضوي حتى لو كان انفعاليًّا أو غير دقيق، فهو على الأقل يُحرك المياه الراكدة ويجعل المعتدين يشعرون بأن هناك من يراقبهم ويحاسبهم ولو بالكلمة، بل يذهب بعضهم إلى وصفه بأنه تكتيك مجتمعي بديل، يردع الجريمة حين تتقاعس الأنظمة.

لكن لتقييم هذه الحجة بإنصاف، لا بد أولًا من الاعتراف بأن المجتمع، في أي زمان ومكان، لن يتحول إلى كتلة واحدة من العقلانيين الذين لا يتدخلون إلا بما يعلمون، ولن يكون في الوقت ذاته جمهورًا فوضويًّا يُصدر الأحكام بلا علم أو روية. الحقيقة أن المجتمع سيظل منقسمًا بين هذه الاتجاهات، بنسب متفاوتة. والهدف ليس رسم واقع مثالي خيالي، بل محاولة ترجيح كفة الموقف المتزن، وتعزيزه بوصفه ثقافة عامة، لا مجرد سلوك نادر يظهر على استحياء.

الفئة التي تمارس الفوضى في إطلاق الأحكام ستبقى حاضرة، وهذه حقيقة يجب التسليم بها. لكن الاعتراف بوجودها لا يعني تفضيل سلوكها. لأن الفائدة التي قد تتحقق من ممارساتها -مثل لفت الأنظار نحو قضية ما أو كشف خلل ما- تظل فائدة مشروطة، وليست بالضرورة متحققة. والأسوأ من ذلك، أنها غالبًا ما تأتي على حساب أبرياء، أو تقترن بمظالم جديدة، كالافتراء والتشهير والانتهاك غير المبرر للخصوصية.

وإذا أردنا المقارنة بين الموقف العقلاني والمتروّي، وبين الموقف الفوضوي والانفعالي، فعلينا أن نقيس الأثر الحقيقي لكليهما. فحتى لو وُصِف الأول بالبرود أو التخلي، فإن ضرره -إن حصل- يظل في دائرة التقصير أو السكوت. أما الثاني، فإن خطره يتجاوز ذلك إلى تشويه سمعة إنسان وإدانة بريء، وتحويل الشك إلى وصمة لا تزول، بل إلى عقوبة اجتماعية لا تخضع لأي معيار عدالة. وهذه الخسائر، مهما كانت النتائج المحتملة، لا يمكن تبريرها أخلاقيًّا.

ثم إن الادعاء بأن العدالة الشعبية، أو ما قد يعرف بالمحكمة المجتمعية، حل بديل حين تفشل العدالة الرسمية، هو طرح مضلل. فإذا كان المجتمع يعاني أصلًا من خلل في النظام القضائي، فالموقف السليم لا يكون في استبداله بالانفلات، بل بالمطالبة بإصلاحه من أساسه: عبر الرقابة المستقلة وتطوير الشفافية وبناء الثقة في المؤسسات القانونية. أما أن يُترك الحكم لمن يملك عددًا أكبر من المتابعين أو صخبًا أعلى في الجدال، فهذا طريق لا يؤدي إلى إصلاح، بل إلى استبدال الظلم الرسمي بظلم شعبي لا يقل عنه خطرًا.

الأهم من كل ذلك أن نفرّق، بوضوح، بين صحة النتيجة وصحة الوسيلة؛ الوصول إلى نتيجة صائبة لا يبرر الوسائل غير العادلة. فتحديد الجاني، مثلًا، أو كشف الفساد، إذا جرى بطريقة تنتهك الحقوق وتخرق القواعد وتستهين بالعدالة، فلا قيمة له من حيث المبدأ؛ لأن العدالة لا تُقاس فقط بما تُحققه من نتائج، بل بكيفية الوصول إليها.

وأشبّه الموقف الفوضوي بمثال يمكن تصوّره: ماذا لو داهمت الشرطة حيًّا كاملًا واعتقلت جميع سكانه دون تمييز، فقط لأن هناك مجرمًا بينهم. بلا شك، سيُقبض على الجاني، بل سيقبض على أكثر من جانٍ آخر لم يكن في أذهانهم، لكن، وألف لكن، كم من الأبرياء سيدفع الثمن؟ كم من الأسر ستتفكك؟ وكم من الحيوات ستُحطم؟ هذه ليست عدالة، بل فوضى متنكرة في هيئة حزم، ونوايا صالحة تخلّف آثارًا سيئة.

وهنا يظهر جوهر ما نحذر منه في هذا المقال: أن الموقف الفوضوي -حتى حين يصيب- يخلّف أضرارًا مضاعفة. وأن أكثر ما يُستخدم لتبريره هو «النية الطيبة»، لكن العدالة لا تُبنى على النوايا، بل على الإجراءات. ولهذا، فالتحذير من الفوضى لا يعني الدفاع عن المجرمين، بل الدفاع عن طريقة تحفظ حق الجميع وتحاسب المخطئ دون أن تظلم غيره.

فالعدالة الحقيقية لا تعمل تحت الانفعال ولا تستند إلى الصوت الأعلى ولا تنجرف خلف الجمهور، بل تعمل بهدوء وبعقل بارد وبإجراءات منضبطة، توازن بين كشف الجريمة وصيانة الحقوق، وتحمي المظلوم دون أن تخلق مظلومين جدد باسم الانتصار له.

وأود التنويه إلى نقطة بالغة الأهمية في هذا السياق، وهي أن الاعتراف لا يعني بالضرورة حصول الجريمة من المتهم؛ إذ قد يُساق المتهم إلى الاعتراف والإقرار بالتهمة لدواعٍ عديدة غير أن يكون فعلًا قد أجرم، مثل ممارسة أطراف خارجية لا تعرف عنهم المحكمة ضغوطًا عليه ليعترف ويحميهم، أو أن يندفع للاعتراف لحماية المجرم الحقيقي في حال كان يودّه ويرغب في حمايته، كأن يكون من أهله.

أو قد يقرّ المتهم بالتهمة ضمن صفقة مع الادعاء العام؛ يقرّ فيها بالتهمة ويعاقَب عليها بالعقوبة التي يُتفق عليها، بدلًا من أن يخاطر بخوض المحكمة فيُحكم عليه -إن أُدين- بعقوبة أشد من العقوبة المعروضة في الصفقة. ويستفيد الادعاء العام بالطبع من نجاحه بالإدانة، وهو دوره الظاهر أمام المجتمع، دون أن يخاطر بخوض المحاكمة واحتمال تبرئة خصمه. فهنا، قد يُقرّ المتهم بالتهمة لمجرّد تجنب المخاطرة، لا لأنه بالضرورة مجرمٌ فعلًا. 

مع العلم أن الادعاء العام قد يعرض صفقة على سجين يسعى لإعادة فتح قضيته، بأن يقر بالتهمة مقابل خروجه؛ حيث يُعدُّ ما قضاه سابقًا هو كامل العقوبة. وفي هذه الحالة، يرى الادعاء العام أن خروج المتهم مقرًّا بالإدانة أجدى -لسمعة الادعاء العام ومشاعر الضحايا وغير ذلك- من مخاطرة خروجه بريئًا بعد إعادة فتح القضية.

في كل هذه الحالات، قد يعترف المتهم ويقرّ بالجرم دون أن يكون بالضرورة فاعلًا له ومستحقًا للإدانة. ولذا، لا يتفق القانونيون مع العبارة الشائعة «الاعتراف سيد الأدلة». والمغزى من إيراد ذلك: أن مجرّد اعتراف المتهم -وبالذات إن لم يحاكم، كأن يعترف ضمن صفقة قبل بدء المحاكمة- لا يعطي الحق للعامة في أن يحتجوا باعترافه لدعم اتهامهم إياه وإدانته.

في زمنٍ يتسابق فيه الناس إلى إصدار الأحكام وتتحول فيه المنصات الرقمية إلى محاكم مفتوحة بلا قضاة ولا قانون، يصبح التمسك بالعقلانية موقفًا شجاعًا، لا هروبًا. فالصمت ليس سلبية حين لا تملك أدوات الحكم، بل وعيٌ بالمسؤولية ورفض للانجرار وراء موجات الغضب التي تحرق ما حولها دون تمييز. 

العدالة لا تنمو في بيئة فوضوية، ولا تُستخرج من تغريدة أو مقطع منتشر، بل تحتاج نظامًا وصبرًا وعقلًا يفرّق بين ما نشعر به وما يجب أن نفعله. وكلما حافظنا على هذا التوازن، اقتربنا أكثر من مجتمع لا يُنصف فقط ضحاياه، بل يقي نفسه من إنتاج ضحايا جدد باسم العدالة.


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

«ترك باب التشهير مفتوحًا على مصراعيه للناس أشبه بتوزيع الأسلحة بينهم!»

في مقالة «التشهير قبل حكم القضاء فوضى وجريمة»، المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة، يحلل أحمد العطاس ظاهرة التشهير غير القانوني في وسائل التواصل الاجتماعي وينقدها؛ لتقويضها الإجراء العادل لإقامة العقوبات في المجتمع.


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرةالصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
أسبوعية، الثلاثاء منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+50 متابع في آخر 7 أيام