الدلة حارسة المجالس
كيف حافظت الدلة على مكانتها

ذات مرة، وضعتُ صورة لمجلسنا على إنستقرام. ولم تمضِ دقائق حتى جاءني سؤال من صديق تونسي:
«لماذا كل هذه الأباريق؟»
كان يقصد الدلال.
كتب فواز طرابلسي في تعريفه للفلكلور:
هو انفصال الثقافة الشعبية عن بيئتها الأصلية، وعن مؤلفيها ومنتجيها ومستهلكيها المباشرين، ليُعاد تقديمها لغرض الاستهلاك المُعمّم بواسطة جمهور غير مشارك.
بهذا المعنى، فإن الفلكلور يختزل الثقافة بالمحافل والمهرجانات السياحية، مُضيّعًا سياقها الاجتماعي، إذ تُقدَّم بوصفها «تراثًا» لا تظهر فيه التباينات الثقافية.
أما الثقافة الشعبية فهي تُنتج وتُمارس في الحياة اليومية من قِبَل الناس أنفسهم. ليست محنطة، بل ديناميكية، تتغير وتتفاعل مع الظروف، وتنطوي بالضرورة على مضامين اجتماعية.
والدلة، بهذه السياق، ليست مُجسَّمًا يوضع في دوار مرور في مدينة طرفية، ولا قطعة في متحف، بل رمز ثقافي متفاعل ومتجذّر في مجالسنا.
نوّاف الحربي


نحاسٌ أحمر: من بغداد إلى النعيرية
في طفولتي، كان لجدي -رحمه الله- أو كما نسميه في الشرقية «أبوي العود»، شبّة بعد صلاة الفجر، يجتمع عندها شيبان الحارة في بيت شَعَر مْسُودس نُصب أمام منزله. وكان سَدوُه يحتفظ برائحة الحطب والقهوة، ويُسمع من بيت الشَّعر ذاك صوت النجر والقصائد، وتزينه صفوف من الدلال؛ كبيرة الحجم وكثيرة العدد، معلّقة خلف جدي عندما يجلس أمام النار كأنها حرس شَرَفي مدرّع في أوربا القرون الوسطى.
كانت مهمتي في هذه الشبّة مقدسة: صبّ القهوة. لا يُسمح لي بالكلام ولا بالجلوس قبل أن يُهزّ آخر فنجال، وتُسمع كلمة «بس». و«بس» هنا هي إذنٌ لترتاح يدي من حمل دلة ضخمة كُتب عليها «عمل بغداد». ولطالما شغلني سؤال وأنا أتأمل تلك الدلة النحاسية الثقيلة: لماذا كُتب عليها بغداد؟
وبغداد آنذاك كانت خصمًا؛ امتلأت مجالسنا حينها بأحاديث الغزو، ولم تذكرها كتب الجغرافيا إلا بصفتها نقطةً بعيدة. فكيف تسلّلت هذه الدلال النحاسية من أرضٍ معادية إلى مجلسنا في النعيرية؟
هذا المجلس الصباحي، الذي ظل قائمًا رغم تغيّر الزمن وتبدّل الوجوه، بقيت فيه «البغاديد» حاضرة، شاهدةً على أحداثه من الثمانينيات إلى اليوم.
عرفت البشرية تشكيل النحاس منذ آلاف السنين، لكن ما يعنيني هنا ليس التاريخ المجرّد لتطوّر سَحْب الفلزّات وطَرْقها، بل استمراره بوصفه حرفة تنتقل من يد إلى يد، ومن مدينة إلى أخرى، حتى وصلت إلينا في هيئة دِلال تستقرُّ على الجمر.
كثيرة هي الروايات حول ظهور أول دلة بالشكل الذي نعرفه اليوم؛ منها ما ترجعها إلى ما قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنها ما تنسبها إلى القرن السابع عشر الميلادي. لكن الأكيد أن الدلة معروفة في الجزيرة منذ مئات السنين، والدلائل على ذلك نجدها في قصائد وقصص كثيرة.
وقد اكتسبت الدلة رمزيتها، ليس لأنها مجرد آنية ثمينة من مطارق صُنّاع مهره، بل لأنها صُنعت لتحمل في جوفها القهوة. والقهوة لها تقديس عند أهلها، وعليه فلا يجري إعدادها كيفما اتفق، بل يجب أن تُعد بما يليق بها؛ فعلاوة على أنها من علامات الكرم فهي كيفٌ أيضًا، والتلذذ بها شرطٌ أساسي.
في قصيدة يوصَف فيها أهمية الإعداد الصحيح للقهوة حتى يُبلغ المراد منها، قال الشاعر عبدالله بن عون:
أظنها يا مال طول التماهيل
تقلع همومي كان ربي قلعها
والشاعر هنا لا يتحدث عن مشروب للكيف، بل عن علاج لهمومه. والقهوة حسّاسة؛ أصغر تفصيل في إعدادها قد يؤثر في مذاقها ويفقدها لذتها، من الحمس إلى الطحن، إلى نوع الدلة. وقصة «قهوتك صايدة» معروفة ومرتبطة بهذه التفاصيل الصغير التي تفرّق بين فنجال يُشرب وآخر يُحفظ في الذاكرة الشعبية.
وهذا كلّه ساهم في خلق «إتيكيت» صارم، من الإعداد إلى التقديم، بل ومصطلحات خاصة بالقهوة. وبما أن القهوة حساسة جدًّا (موضوعًا وجوهرًا)، فلا بد من اختيار دلة تناسب هذه الحساسية. ولهذا، يذكر ابن عون في قصيدته دلة «رسلان الأول»، كما لو كانت معيارًا للصنعة المتقنة، ورسلان هو صانع دلال في سوريا.
فإذا نظرنا إلى تصميم الدلة، تستطيع القول إنها صُمِّمت أصلًا من أجل مشروب عزيز على قلب شاربه. فالمصب (سأستخدم هنا تسميات أجزاء الدلة من دارة الملك عبدالعزيز)، وهو الجزء الخارج من الدلة لصب القهوة، يكون طويلًا ونحيلًا ومنحنيًا بدرجة مُعيَّنة تضمن ألّا تنسكب قطرة منها خارج الفنجال. أما الدِّلال المستخدمه للتبهير فمصباتها أقصر وأعرض، لتنقل الهيل والمسمار (العويدي) عند زَلّها (أي: عند نقل القهوة من دلة الطبخ إلى دلة الصب).
وهذا التصميم الهندسي دليل أنك تتعامل مع مشروب غالي الثمن والقدر. كما يقول عبداللّٰه بن زويبن:
من مال قـرمٍ ينفـض الكيـس باسبـوع
نـجــره لجـيـرانـه مـــن الـنــوم يـوعــي
وبـهـارهـا الـلــي بـالـولايــات مــــزروع
عــلــى هـمـالـيـل الـمـطــر والـنـقـوعــي
لم يُصمَّم هذا الشكل الهندسي ليؤدي وظيفته فقط، بل وضع ليُؤدي دورًا وجدانيًّا لا تقدر عليها آنيةٌ أخرى. لست هنا في وارد تكرار ما قاله شعراء النبط من تشبيه الدلة بالفتاة ذات الخصر النحيل، فذلك قد استُهلك. ما يشدّني هو الجزء العلوي من الدلّة: هذا الامتداد النحيل الشاهق، الشبيه لحدٍّ بعيد بمئذنة المسجد. ليس صدفة أن يسميه العامة «الميذنة»، وهو الاسم نفسه الذي في الدارة.
أراد الصنّاع -بوعيٍ أو بدافعٍ متوارث- أن يُلبسوا غطاء الدلة شكلًا يفيض برمزية القداسة. في فِلم فلان «فنجال الشمال»، يقول إبراهيم إن أباه قال له: «لا تصلِّح القهوة إلا وأنت متوضي».

شدّ جدي الرحال إلى بغداد في الخمسينيات الميلادية. بحث بين أزقتها عن صانعٍ يتداول الناس اسمه في المجالس، حتى اهتدى إلى ورشة صغيرة وطلب منه زَهَابًا (طقم من ست دلال مختلفة الحجم). لم يكن اختياره اعتباطيًّا، كما أن أجداده اختاروا صُنّاعًا بعينهم، تتحمل دلالهم النار والترحال دون أن تُفسِد طعم القهوة.
كان الصانع يدرك أن كل دلة يطرقها هي امتداد لتاريخ طويل من الحرفة والمعنى. فالصنّاع في العراق أو الأحساء أو حائل ينقشون أسماءهم أو مدنهم على الدلال، وكأنهم يعلمون أن القادمين من الصحراء سيحملون معهم ما يُورَّث ويُحفظ في القصائد والروايات الشفهية.
مثلًا، تُحاك حول رسلان، الذي مرّ ذكره آنفًا، حكاية… ولاحظ كيف أن الأشياء الهامة أو الغامضة لطالما تُحاك حولها الحكايات.
تقول الرواية إن رسلان أُودعت عنده دلة من رجل بدوي كان في طريقه إلى الحج، ولم يكن قد صنع دلة من قبل. لكن، حين رأى مكانة هذه الدلة في عين صاحبها، قرّر أن يصنع نسخةً منها. وتستمر الرواية بأن رسلان جرّب عشرات النماذج حتى استقر على التصميم النهائي، وأنتج خطًّا من الدلال ذات تصميم معين يحمل اسمه يُعد من أشهر تصاميم الدلال إلى اليوم.
ولا تنتهي رحلة الدلة من عند الصانع إلى الكمار (الدَرْج الذي توضع فيه الدلال).
كان جدي -رحمه الله- بين فترة وأخرى يجمع دلاله ويرسلني إلى «الرَّبّاب»، وهو الرجل الذي يُلمِّع الدلة من الخارج، ويُبيّض باطنها كي لا «تُطَعِّم»¹ وهذه مهمة لا يقوم بها إلا رجل واحد حصرًا، وهو ربّاب الدلال.
وهذه التسمية غريبة؛ فكل من يعمل في تنظيف النحاس يسمى صفّارًا، من تصفير النحاس، وفي بعض الدول العربية يُسمى مبيّض النحاس، لكن ولأن للدلة خصوصية، كان لمن ينظفها اسم خاص.
قبل تشكّل الطبقات المهنية بمعناها الحديث، مثّلت الدلة نمط إنتاج معقّد؛ ليس من حيث التقنية فقط، بل بوصفها أداةً تُبرز شكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين مجموعات متباينة ومتفرقة.
مهنٌ، مثل صانع الدلال الذي يَصهر ويُشكِّل، والربّاب الذي يصونها ويحافظ على صلاحيتها، كانت مهنًا حرفية تؤدى من قبل جماعات مهمّشة، تمارس دورًا وظيفيًّا دون اندماج عضوي في البنية الاجتماعية.
امتلكت البادية رساميل بشرية وثقافية هائلة: شعراء وفرسان وثروة حيوانية، فيما كانت الحواضر تملك أدوات التعليم والزراعة والتجارة، خاصة في مجال التعليم الديني. وكذلك كان لكُلٍّ منهم فئاتهم المهمَّشة.
كان نمط الصنّاع والربّاب يخلق، بوعي أو بدونه، شكلًا من أشكال التكافل بين أنماط إنتاج مختلفة ومتباعدة.
هذه التعقيدات الطبقية والقبلية غالبًا ما عجز عن فهمها أولئك الذين ظلّوا خارجها.
وفي زمن تطور تشكيل المعادن، ظهرت أنواع جديدة من الدلال مصنوعة من مواد حديثة مثل الستانلس ستيل، أخف وزنًا، وأقل سعرًا، ولا تحتاج ربَّابًا، تصنعها المكائن في الصين وغيرها، وتُقلِّد تصاميم الدلال النحاسية مثل البغدادية والرسلانية.
لكن، رغم ذلك، ظلت الدلال النحاسية محافظةً على مكانتها في صدور المجالس، تُجمِّل مكان صاحبها وتحفظ اسم صانعها. وظلت ورشها، وخيام ربّابتها، وإن قلّ عددهم، صامدة. لأن الأمر لم يكن يومًا يتعلق بالمعدن، بل بالمعنى.
حين تمسك بالدلة، أي دلة، فأنت تمسك شبكة من المعاني والممارسات والتاريخ؛ من الورشة إلى الوجار، ومن السوق إلى المجلس، ومن الجد إلى الحفيد.
كتبتُ هذا المقال وأنا في طريقي إلى البريد لاستلام شحنة قادمة من بغداد، وأفترض أنك تعرف ما تحتويه هذه الشحنة.
إنها مجموعة من دلال مهدي صالح (بغداد)، هدية لوالدي بعد تجديد مجلسه. وسيأتي يوم يقف فيه ابني نايف متسائلًا: من هو مهدي صالح؟ ربما، سيكتب ذات يوم مقالًا حول دلال جده.
تُطَعِّم: الدلة المطعِّمة هي التي تُظهر على القهوة طعمًا غير مستحب يشبه طعم المعدن


صار سالفته هذي تسوى كل حلال الناس.
هكذا يروي صالح بن صويدر الهمزان الأسلمي للدكتور سعد الصويان قصة معشّي الذيب: مساجي بن سعيد العليان.
وهو تسجيل يعود إلى تاريخ 27 ذو القعدة، 1403هـ الموافق 04 سبتمبر، 1983م
وأطيب من قصة عشاء الذيب هو تعليق الراوية ابن صويدر: «تسوى كل حلال الناس». وفعلًا، لو تأملت الطيبين، لكان جليًّا حرصهم على «كلام الناس» والذكر الزين.
من حاتم الطائي وإلى يومنا، والوليمة وكرامة الضيف أكثر ما يتغنّى به العرب. حقّ الضيافة والزاد، وش عاد لو كان ذيب؟
أبوي عشّى أبوك يا ذيب .. في ليلة ظلماء وبردٍ سحابه
يقولها ابن معشي الذيب فرحان مساجي بعد أن كاد يقتله الذيب.
ثامر السنيدي

الخرفان تنزل من طيارة أرامكو !

أبيك ترجع للسبعينيات وتسبح معي في ذاكرة قريان الهاجري -أبو محمد- صاحب فِلم «قريّان: بدوي الربع الخالي الذي قاد أرامكو لطرق البترول» يقول:
كنت أداوم في الربع الخالي ويشتغل تحت مسؤوليتي فوق الـ100 موظف في الحقول النفطية. غرفتي كانت خيمة والحياة صلف وجلد. المهم، ذاك اليوم وأنا في المجمع الرئيسي، ولّا تجيني رسالة من موظفيني: أبو محمد نبي منك ولا تهون 21 خروف للأضحية! يقول طلبهم مدري وين أوديه, توهم معينيني رئيس، وهم ربعي ورجال كفو ويستاهلون أكثر.
المهم رحت للمشرف اللي فوقي، واسمه جان ليذر. دخلت عليه وأنا أقدم رجل وأرجّع الثانية... رحبت، وقلت له: يا طويل العمر عندي طلب. قال: هات. قلت: عندي فوق الـ100 موظف من الأجاويد ومقطوعين بهالرملة ومكروفين، وبخاطرهم 21 خروف. قال: من جدك؟! وليه؟ قلت: تعرف، مقبلين على عيد وهذه عاداتنا كمسلمين في العيد إننا نضحي. قال: إذا الموضوع كذا وهو من دينكم، فتم.
(Jan: Do you want them dead or alive? َ
Qurayan: Alive!)

المهم ويتراسل ليذر مع المسؤولين في الظهران: دبرونا بـ21 خروف للـ«بيس كامب» في الربع الخالي، عندنا الموظفين هنا يحتاجونها.
وماهي إلا كم يوم، ويتكلم جان ليذر بالراديو (جهاز الإرسال):
(Qurayan Qurayan :Yes Mr Jan.
Please go to the airport and take the 21 sheep to your employees!
copy copy Mr Jan)


يقول أبو محمد كانت من أغرب ما شفت، 21 خروف تنزل من الطيارة! ولا تنشدني عن فرحتنا فيها.
بعدها زارني رئيسي في خيمتي وقال لي: قريان بنجيب لك مكيف يبرد عليك. قلت له: هذا من طيبك، بس إذا بتجيب لي مكيف لازم تجيب لكل موظفيني. أنا مثل الطير والطير ما يطير بدون جناحين!
يقول التفت علي رئيسي وهو يهز راسه، وبلهجة تاكسسية:
(Qurayan, I wish I have a son like you to take care of me!)
وأنا أقول، الله يذكر زمان الأولين اللي يكثر فيه (أبشر وتم)، وناس تجاهد للحصول على لقمتها. والرئيس اللي يعامل موظفينه مثل جماعته، يعزهم ويحاول ما يظلم نفسه بظلمهم. و في التالين خير وبركة والله يكثر من الطيبين.
*الصور والسالفة من ذاكرة أبو محمد المميزة.
محمد السعدون



مجلس مصنع حائل للدلال - حائل سوق برزان الشعبي

أفضل ما في هذه التجربة هو فنجال الضيافة المُقدّم صباحًا ومساءً. يُعدّ مصنع حائل للدلال الوحيد من نوعه من حيث تفصيل النحاسيات «حسب الطلب»، وأهمها دلال القهوة.
وبجانب المصنع يقع مجلس مفتوح الباب، متنوّع الضيوف، تختلف مقاصد زوّاره بين بائع ومشترٍ أو باحثٍ عن «التِّعلِلَة»، وهو وصف يُطلق على من يبحث عن الأُنس والسوالف.
إن وصلت إلى المجلس، فصّل دلة وخذ فنجالًا.


ثامر السنيدي




الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.