آخر مسارح البادية: حياة الوادي وتحولات سكانه.

قراءة في نهاية مشروع توطين البدو.

سلّط على النصراني اللي لقى الزيت

يا علّ نقع الزيت يعمي عيونه

بهذا الغضب ينظر بندر بن سرور إلى انعطافة تاريخية في حياة البدو، وتداعياتها على أنماطهم المعيشية.

يُعد مشروع توطين البدو واحدًا من أبرز المشاريع الاجتماعية الطموحة التي تبنّتها الدولة السعودية في منتصف القرن العشرين. ومع ذلك لم يحظَ هذا التحول الجذري بالعناية البحثية الكافية، خصوصًا من زاوية علم الاجتماع الحضري، الذي يدرس التحول من الحياة الرعوية المتنقلة إلى الاستقرار في تجمعات سكانية شبه حضرية.

من أبرز نتائج هذا المشروع نشوء «الهِجْرة»؛ وهي قرى مستحدثة أُنشئت خصيصًا لتوطين البدو. وقد لا يستقيم التعبير حين يُقال «قرى البدو»، لكنه توصيف دقيق حين نفهم أن الهجرة هنا تعني ترك حياة الترحال من أجل الاستقرار. وقد أعاد هذا الواقع المستجد تشكيل الهوية الاجتماعية والثقافية لأجيال الجديدة.

تركّز هذه المقالة على المرحلة المتأخرة من مشروع التوطين في شمال غرب المملكة العربية السعودية، حيث تبرز ملامح نهاية هذا الفصل الاجتماعي (مشروع التوطين) ومعرفة ماذا حل بمن نزلوا الأودية.

نوّاف الحربي


آخر مسارح البادية: حياة الوادي وتحولات سكانه.

ناصر الحربي

خمسون عامًا مضت على آخر مظاهر حياة البادية في الوادي، ولا يزال عمّي يَعدُّ الديار حوله في كل مرّة نمر فيها على الطريق ذاته ويصفها، ودائمًا ينهي وصفه بقوله «هنيّا عَرَبنا» (أي: هنا أهلنا)، ثم يبدأ بتقسيم ملامح الوادي الذي خلا اليوم من أهله ويعيد رسمها من جديد على كيفية مواقع أهل الوادي سابقًا: «هذا مراح عرب فلان، وهذا شعيب أرحامنا»، ويعاود المشي فيها بذاكرته كما كان ذلك البدوي الذي خشنت خطواته فيها. وفي حال ابتعدنا عن الوادي، أو حتى اقتربنا من المدينة يصمت، كما لو كان حديثه مرتبطًا بحدود ذاكرته. عمي عرف البداوة قبل الوادي بزمن طويل، ومشى في ديار أكثر من التي يعدُّها، ولم يولد في الوادي، بل أصبح «مالوده»، أي أنّ الوادي هو من أعاد ولادته، ولا يعرّف نفسه إلا من خلاله. 

على صدى صوت مواطير الكهرباء والماء القادمة من المزارع المترامية على أطراف وادي الحمض الذي عشت طفولتي كلها حوله، يصدح فيها هذا الصوت المتوغّل في فراغ مشهد الوادي، الخالي تقريبًا من أي سكّان حاليًّا، ويطرح سؤالًا طالما دار في فصول تحولات البادية: أين ذهب «وِلْد الوادي»؟ وكيف زحفت المزارع والمراعي والخيام وجميع مظاهر البادية وصفاتها إلى المدينة؟

أسئلة لا يسعنا معها إلا استكشاف الذاكرة والأرض ومعاينة فصل من أهم قصص البادية في الجزيرة، وتحديدًا الشمال الغربي منها. أذكر مشاهد الانتقال الأخيرة لآخر سكّان الوادي في بداية الألفية، والحزن الذي لم يكن على المغادرة بحد ذاتها بل على غياب «وِلْد الوادي»، أي رحيل الشاهدين على الوادي والحاملين ذاكرته العميقة. وهذا ما يدفعني إلى فهم سردية الوادي وتمكّنه من خلق حياة وروح خاصة، متجذّرة في هويتي وهوية أحفاد الوادي في كل مكان.

حَضَرَت الأودية في الجزيرة العربية بوصفها مشهدًا من مشاهد الطبيعة الجغرافية. ولطالما تعامل سكان الجزيرة العربية مع مفهوم الأرض بخصوصية. فترى سكانها يطلقون الأسماء على المناطق التي وإن كانت قاحلة وخالية، إلا أنها تشكّل جزءًا من ذكرياتهم الحميمة ومن علاقتهم بهذه الأرض وسكانها، فأصبحت تسميات بعض المناطق مرتبطة بتجارب أهل البادية أنفسهم. فالأرض هنا تمثّل بساط منظومتنا الأخلاقية والقيمية، مشكّلة وجهنا الاجتماعي والثقافي وراسمة إيّاه.

فالوادي أتى ليفتح الستار عن آخر تحوّلات البادية المهمة التي تستحق التأمل. فالأودية مثل وادي الرُّمة والحمض والدواسر وبيشة والغاط والعجمان والسرحان وغيرها، كانت مسرحًا لأهم الأحداث التاريخية في السابق، وطريقًا للحجيج والقوافل والتبادل التجاري، وكانت ملاذًا للبدو الرحّل، نظرًا لما يقدمه الوادي من ماءٍ وأرضٍ للرعي والزراعة والأمان النسبي.

ومع مرور الزمن وبداية توحيد المملكة العربية السعودية، توقّفت البادية شيئًا فشيئًا عن الترحال، مما أدى إلى تغيّر نظرتهم إلى الأودية وتحويلها لمساكن يستقرون فيها، بعد أن اعتاد البدوي الترحال من الوادي وإليه.

ففي مثال بادية الشمال الغربي، تحوّلت الوديان لمساكن ابتدأ فيها نمطٌ حديثٌ للحياة. فنلاحظ أن الخيام قد توسّعت وظهر تقسيم الخيمة إلى حجرات أكثر لتتّسع مراحًا لأهلها، وصار الرعي يجري في منطقة مشتركة بين قبائل تراحمت وتعايشت بعد تاريخ طويل من الصراع. فترى موارد الوادي أصبحت مشتركة بين أهله، وبرعاية مؤسسات الدولة التي أخذت على عاتقها حماية أهل الوادي من الانتهاكات، مما جعل موارده تشاركية بعد أن كانت انتهازية.

فبدأ أهل البادية في الوادي يأخذون مسألة التعرّف على الآخر بجدية أكبر، وبنحوٍ أكثر قربًا واحتكاكًا. ولأن لكل قبيلة اختلافاتها من لهجة وطباع وسلوم وعادات، حضر السكن المستقر فاتحةَ طريقٍ بدأت منه القبائل في التعرّف إلى سلوك الآخر من باب «العرف»، أي لا بد من أن تكون معرفة سلوك الآخرين وطباعهم مأخوذة على محمل الاهتمام، وتُعلَّم للجيل الأصغر الذي تكوّن وتربى في الوادي على حياة مستقرّة. وليس الاهتمام بالآخر يأتي من أجل القيام بآداب الضيافة والاحترام فقط، بل هو تمهيد للتقاطع الثقافي بينهم الذي بقي حتى عصرنا الحديث.

وادي الحمض أحد أكبر أودية شبه الجزيرة العربية يقع شمال المدينة المنورة 147 كم
وادي الحمض أحد أكبر أودية شبه الجزيرة العربية يقع شمال المدينة المنورة 147 كم

وليس النسب القبلي أيدلوجيًّا في حالة سكان الوادي، بل ميتافيزيقي لأنه استثمارٌ لروح القبيلة وقِيَمها وجوهرها الحقيقي، خالقًا تجربة إنسانية جامعة وسردية تاريخية لجميع أبناء النسب الواحد. ولهذا كانت القبائل بعد الاستقرار في الوادي بحاجة إلى منظور جديد يضاف إلى مفهوم القبيلة القديم. فالقبائل تحالفت سابقًا على عدوٍّ مشترك في وادي الحمض مثلًا، ولكنها لم تتعايش فيما بينها إلا لاحقًا حين استقرّت القبائل في الوادي واتّخذته مَسْكنًا. 

وهذا يدل على أن العلاقات الجديدة تطلّبت من القبيلة دعم التعايش وزيادة الاعتزاز بروحها العميقة، مكوِّنةً مجتمعًا يضيف إلى جميع أفراده صفات إيجابية لتموضع القبيلة التي تشارك أرضها مع القبائل الأخرى ولا تحتكر المكان.

 ولهذا أُعيدت صياغة الوادي لإنتاج حالة مجتمعية جديدة لأهل البادية، وهو ما دفع القبائل لترك الانغلاق وهجران التعصّب. وليس الوادي هنا مجرّد حاوية للسكن، بل هو انفتاح مجتمعي لجميع أهله، مما أدخل مفهومًا جديدًا على معجم بادية الحجاز «وِلْد الوادي».

ولد الوادي هو جيل جديد مختلط النسب بحكم انتشار التزاوج بين قبائل أهل الوادي التي حضرت من مختلف المناطق؛ الشمال والغرب والوسطى، ويمتلك لهجة تختلف عن الجيل السابق له. فتشاركية الوادي أنتجت لهجةً جديدة تجمع مختلف ولد الوادي. وتقارب اللغة لا يعني مجرد التخالط القبلي، بل يعني أنّ الحالة الجمعية بدأت في التعايش المنطلق من التجاور والتشارك مع الآخر، وأخذت تتجاوز الصراعات التاريخية بين القبائل.

قد يكون التعايش من بديهات عصرنا اليوم، إلا أنه تطلّب خلق حالات خاصة ومركّبة في مختلف أراضي المملكة العربية السعودية بعد توحيدها، فكانت حالة الوادي خاصة، بتكوينها لجيل ولد الوادي الذي صنع أساليب عيش تتماهى مع الوضع الجديد للبادية، التي مهّدت فيما بعد لتحول لاحق نعرفه اليوم بـ«الحياة المدنية». 

يضع هذا الشكل الجديد من الوادي سؤالًا: هل تخلّت البادية عن هويتها؟ والإجابة ليست حاسمةً بنعمٍ أو بلا، ولكن لدينا ملامح جديدة لنمط عيش أهل البادية، وهنا نستطيع أن نتأمل أول المظاهر: الخيمة التي كانت السُكنى في الترحال فقدت وظيفتها بسبب توقف الحاجة إلى الرحيل. ولكن أهل البادية لم يتخلّوا عنها، فتحوّلت إلى نوعٍ جديد من المنازل، حيث توسّعت وأضافوا إليها حجراتٍ أكثر، وصارت مكانًا ثابتًا للضيافة، على العكس من الخيام بالماضي الدائمة الرحيل. ومنها طوّر ولد الوادي تجسيدًا جديدًا لشكل الضيافة، حيث ابتُدعت «فنون المجالس» و«سلوم» خاصة بالضيافة الدائمة الناتجة عن الثبات والاستقرار. فأصبحت المجالس بضيوفٍ دائمين، ولا بد من تقديم رحابة المجلس، وممارسة أشكال مختلفة من الفنون لروّاده تسلّيهم وترفّه عنهم. ولهذا انتزع أهل الخيمة صفاتٍ من فعل الضيافة؛ فالخيمة التي تستقبل الناس باستمرار يُمتدح أهلها بأن «نارهم حية»، دلالةً على كثرة تردّد أهل الوادي على دارهم ومجلسهم، ما ساهم في انتشار روح الوادي باعتبارها روحًا جامعة لأهله كافة.

دارٍ نعرف ديارها عِرْف خبّار 

والحيِّ فيهم ما لحنهم لحنّا

ولا فيك يالوادي من الوِلْد دِيَّار

وأنته من أول ما بك إلا ضعنّا

قدام يطلع لا برق الريش منقار 

ما فيك يا غير الذيابة وحنّا 

قدّام يطلع للمجانين حِشّار 

حنا هل الكلمة وهذا وطنّا 

هواش السليمي (وادي الحمض)

تتقاطع الثقافات بين سكان الوادي وتاريخهم الطويل المُحمّل بسنوات البادية بعد الاستقرار، فتجد أوضح أشكالها يتجلّى في الفنون الشعرية التي تُعدّ امتيازًا حصريًّا لكل قبيلة ومنطقة؛ ففي وادي الحمض حلّت وسكنت قبائل قدمت من الشمال والغرب، ولهذا السبب ظهرت معهم فنون مثل: الدحّة والخبيتي والمحاورة والزير والرفيحي والمزهوم، وغيرها. والعجيب في كل هذه الفنون، غير وجودها في مكان واحد، هو التقاطع الذي حدث بينها وطوّر ألحانها وأسلوب تقديمها. هذا التقاطع جعل من الوادي مكانًا تستطيع أن تجد فيه شاعرًا من قبائل الحجاز يمتاز بلعب الدحّة، كما يمكنك مشاهدة شاعر آخر شمالي يبدع في المحاورة، ولم تعد ميزةً فنية تتميّز بها قبيلةٌ حصرًا عن الأخرى، وهذا الأمر لا يأتي إلا حينما يتعدّى التجاور حدود المفهوم الجغرافي فقط.

مع انتشار المدينة الحديثة وتوسّعها، ما عاد الوادي يستطيع إنتاج حياةٍ خاصة به، وبدأ يتلاشى مفهوم الوادي التشاركي الذي كانت فيه المراعي مشتركة، ولحقت به موارد الماء الجامعة ومجالس الضيافة المستمرة... وغدت الأودية أراضي مجرّدة، كما كانت قبل حضور البادية إليها. وحتى مصطلح «ولد الوادي»، أصبح لا معنى له اليوم بعد دخولهم إلى المدينة الحديثة.

أما أهل المدينة اليوم، فيظهرون تعاطفهم مع حياة الوادي سابقًا، ويحاولون دمج حياتهم في الوادي مع حياتهم في المدينة تحت شعار «حياة البادية»، حيث أخذوا خيامهم الثابتة لتسكن في منازلهم، واستمرّت الشبّات داخل البيوت، وحاولوا الحفاظ على لهجة الوادي التي تذكّرهم بالحياة السابقة، واختاروا الوادي موضوعًا لقصائد تحن إليه وترثيه، وبقيت الخيمة إلى اليوم دالة على الضيافة الدائمة، مناقضة لطبيعة الكسب المادي وحياة الوظائف في المدن.

لا نبتعد كثيرًا عن الواقع إن قلنا إنّ جَرَيان المياه في الوادي هو جريان للحياة فيه، وسُقيا لذاكرة عمي التي كانت تعد ديار الوادي لأنها تعرف أنها ديار لن تختفي أبدًا. ولهذا نحاول تأمّل هذا التحوّل المهم وفهمه في آخر فصول سردية البادية، لاسترجاع الروح التي ساعدتهم سابقًا في تكوين حالة مجتمعية إستثنائية.

على كثر ماعشت وسط المدينة

اللي بها رزقي وشربي وزادي 

إلا إنّي أونس في شعوري سكينة 

لا شافت عيوني تضاريس وادي


فلان هب ريح

في هالشريط يسجل الدكتور سعد الصويان مع الشاعر والراوي مطلق الراشد المليحي السبيعي في منزله حي المليحية بالرياض عام 23 شعبان 1403هـ، الموافق 04 يونيو 1983م.

في هالتسجيل يتحدث الراوي السبيعي عن حجاب النشّاق «وحجاب يقوم يتقلب، مِرْ يشرّف الرِّجِم، ومِرْ يرد الركايب، ومِرْ يسوي القرص، ومِرْ يسوي القهوة، وهذولاك رقّدوا كلهم»

ويسأله عمه عن فعله هذا، فيتمثل حجاب بأبيات يلقيها السبيعي مردفًا بعدها تعليق الراوي: الرجال ما يبيّنها إلا الطرق ذي والروحات.

وهذا تجسيد قولهم: فلان هب ريح.

ثامر السنيدي


قبل سنة بالضبط كنت في بيشة، أبحث في موضوع سواقين التريلات ومجتمعهم؛ تكياتهم في الخطوط، تحدياتهم وعلومهم. وظليت أبحث لين ساقني الله للباحة، ولقيت مبتغاي عند الشهم عبدالرحمن الزهراني. صحيح الفِلم نزل، لكن فيه ملاحظات دونتها ولا نشرتها من سوالف وحكم أبو متعب يقول فيها:

  • شفت لما يبنشر لك كفر وأنت معتاز هناك؟ استغل ذاك الوقت بالدعاء. ادعُ الله وأنت بحالة الضعف ذيك وابشر برب كريم.

  • أيش معنى إنك مؤمن بالله؟ فعلًا هل تفكرت وش يعني إنك مؤمن؟ إذا كنت ما تتوكل ولا توقن ولا تحتزم ولا تخشى، فوش معنى إنك مؤمن؟

  • لا تصنع مطبات في علاقاتك. صحيح ممكن تكون حاد برأيك بس لا تجرح.

  • الفعل يصدر منك لأنه يمثلك. وأنا أتعامل مع اختياراتك لأنها الشيء اللي تبيه. لا تتصنّع معي، كذا تكون علاقاتنا فيها أريحية وبدون مجاملات.

  • التجارة تكسبك المال بس المنصب يكسبك شيء آخر.

  • بين ما تحب وما تبصر وتسمع مساحة، إذا عرف كيف تملأها أسعدت نفسك.

  • يا أخي أنا ما أتوقع ولا أنتظر من أحد رد لجميل. أعطِ ولا تفكر بالأخذ. أعطِ من نفسك، لأنك حر.

محمد السعدون


تالي الشبّة / الرسّام: عبدالعزيز الصريري
تالي الشبّة / الرسّام: عبدالعزيز الصريري

عبدالحميد السلمان الروقي العتيبي. شيخ وأديب و«متفنّن» مثل ما يقول. عنده مكتبة فيها أكثر من 30,000 مصنّف. وهو تاجر عملات وخبير فيها. وأعطاه الله ذاكرة حديدية؛ يسولف لك عن المعيقلية وساحة الصفاة وحراج «بن قاسم»، كأنك تشوفها. تحصله يوم الجمعة والسبت عند الحراج اللي بجانب سوق الزل.

محمد السعدون



نشرة فلان
نشرة فلان
كل أسبوعين، الثلاثاء منثمانيةثمانية

الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.

+20 متابع في آخر 7 أيام