لا تخشَ الضياع والتخبُّط في حياتك 🌊

زائد: عندما تتحول العزلة إلى سجن من الأفكار.


الضياع والتخبُّط / Imran Creative
الضياع والتخبُّط / Imran Creative

لا تخشَ الضياع والتخبُّط في حياتك  🌊

شهد راشد

عندما أفكر بالحياة البشرية تذهلني فرديَّة كل تجربة، أو على الأرجح اعتقادي بفرديّتها إلى أن أجد من يتكلم عنها في لقاء، أو يكتب عنها في كتاب، أو يمثّلها في مسلسل، فأشعر بعزاء لا يوصف. فنحن لسنا وحدنا في النهاية رغم التساؤل الأيقوني «هل نحن وحدنا؟» 

وجدت عزائي في مسلسل «بارنتهود» (Parenthood) الذي يتناول قصة جدّين وعائلتهما الممتدة، وصراعات كل أسرة وأفرادها. ارتبطت شخصيًّا بالابنة الكبرى «سارة»: امرأة في نهاية عقدها الثلاثينيّ ومستقرة في زواجها ومهنتها، إلا أنها تعود إلى العيش مع أسرتها بعد انفصالها. تتخبّط «سارة» في البحث عن عملٍ يُرضيها فتعمل نادلة في مقهى، ثم تبدأ رحلة الكتابة المسرحية وتتعثّر، وفجأة تصبح مُشرفة عمارة تصلّح أعطال الشقق، ثم مصوّرة بلا دراسة أو خبرة. 

هذه التخبطّات «ملح» الحياة ولو بدت كأنها مبالغات درامية. نعم تُعَد التخبطات رفاهية، فالغالبية لا تملك ترف البحث عن الشغف الذي يتغنّى به الجميع وترك ما لا يتناسب مع رغباتهم. مع ذلك نحن جميعًا عُرضةٌ للتخبُّط وللشعور بالضياع في مرحلة ما.

في كتاب «الحيوان الاجتماعي» (The Social Animal) يضيف المؤلف ديفيد بروكس إلى حياتنا مرحلتين لهما أهميتهما. فرحلة حياتنا تُعرَف بأربع مراحل عمرية ثابتة، غير أنَّ بروكس يعيد ترتيبها لتصبح: الطفولة، المراهقة، ثم أوديسة، فالتقاعد النشط، وأخيرًا الشيخوخة. المرحلة الإضافية التي تهمنا وتحمل نوعًا من الغموض هي مرحلة الأوديسة. فما إن يدخلها المرء لن يجد نفسه ولن يجده أحد، فهي متاهة تعجيزية.

استلهم بروكس اسم المرحلة من الملحمة اليونانية الشهيرة «الأوديسة» التي تسرد ضياع «عولس» عشر سنوات لاقى فيها الأهوال والمِحَن، وفقد خلالها جميع رفاقه قبل تمكنه من العودة إلى الوطن.

وفقًا لبروكس، تبدأ سنوات ضياعنا في العشرينات من العمر حتى منتصف الثلاثينات. فنحن نختار تخصصًا جامعيًا قبل أن نتجاوز الثامنة عشر وعلى الأغلب سيبقى مرافقًا لنا طيلة حياتنا. ولدى تخرجنا من الجامعة نكون قد قضينا عقدين ونيِّف من النظام الثابت والواضح، خضعنا فيها إلى ما يُمليه علينا الأهل والمدارس، وفجأة نجد أنفسنا في فضاء الحريّة الشاسع فلا ندري إلى أين نتجّه. وقبل أن نستوعب ما نريد، نبدأ فورًا مسيرة مهنيّة نتعلم سياساتها، و(نشقلب) في الوقت نفسه قرارات حياتنا الاجتماعية.

وبقدر ما تعزّيني الاستعارات الملحميّة وشخصيات المسلسلات الدافئة، أظلُّ بحاجة إلى مثال واقعي قريب منا ومن ثقافتنا، وقد وجدت هذا المثال في ليلى البسام، وذلك في أثناء استماعي إلى حلقة «تخصصي الذي رفضته غيَّر حياتي» في بودكاست «امشِ مع». ورغم معرفتي بأعمالها ومؤلفاتها، لم أكن أعلم أنها ابتُعِثت إلى باكستان لتدرس الطب قبل أن ترفض إكمال دراستها وتعود إلى السعودية لتتخصص في الأدب الإنقليزي. من ثم تركت الجامعة سنتين بسبب زواجها، لتلتحق بها مجددًا وتختار مجال الاقتصاد المنزلي وتستمر فيه.

قصتها نوّرت في عقلي «لمبات» كثيرة، ففيها تصالحٌ مع ضرورة التريّث الذي لا نحظى به اليوم. فلا أحد يريد تغيير تخصصه أو التوقف عن الدراسة ولو فصلًا واحدًا لاحتراف هواية مثلًا. بل قد يشعر البعض بحاجة إلى الدراسة الصيفية ليتخرج في أسرع وقت ممكن، وكأن الاستراحة والتفكير والخبرات التي تتراكم من هذه التجربة، وذاك الفشل، وتلك العثرة ليست جميعها جزءًا من حياتنا. 

أما اللمبة الأخرى الأشدَّ إنارةً، هي أننا منذ طفولتنا نشعر بأن تغيير الرأي دلالةٌ على ضعفٍ ما، وأنَّ التراجع عن أي قرار، مهما كان كبيرًا ومؤثرًا على بقية حياتنا، سيفتح باب التشكيك فينا وفي جدّيتنا. ولكن شجاعة الدكتورة ليلى في تراجعها عن قراراتها مرارًا إلى أن وجدت غايتها يبعث فيّ أملًا ظننته انطفأ. 

صحيح أن بروكس وضع مرحلة «الأوديسة» في بدايات النضج، إلا أنني أظنّها مرحلة لا تُحدَّد بعمر. لكلٍّ منا ضياعه الذي ربما يمتدُّ عقدًا كاملًا من العمر، أو سنوات متفرقة نشعر فيها بضياعٍ له أسبابه ودوافعه. وقد تطول الأوديسة أو تقصر قبل أن نعيد اكتشاف ذواتنا الحقيقية، ورغباتنا الأصيلة، واستقرارنا في أنفسنا كوطنٍ نحمله ونسكن إليه. 

مع اقترابي من نهاية المسلسل تجد «سارة» نفسها أخيرًا وتعود إلى ذاتها، وأجدني أعزم خلف الشاشة على إيجاد نفسي والعودة إليها في أوديسة لا أعرف متى تبدأ وتنتهي. 


شبَّاك منوِّر🖼️

لأحمد أمين سلسلة كتب بعنوان «فيض الخاطر». كتب فيها مقالات كثيرة، سمح فيها لنفسه بأن يسهب في شتى المواضيع ويناقشها، كأنه يفكر بصوت عال ويُشرك القارئ في هذا التفكير. وأوقفني لدى قراءة الجزء الثاني هذا الاقتباس: ✍🏼

«لعل من أهم أسباب الحزن ضيق الأفق وكثرة تفكير الإنسان في نفسه، حتى كأنها مركز العالم، وكأن الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والأمة والحكومة والميزانية والسعادة والرخاء، كلها خلقت لشخصه، فهو يقيس كل المسائل بمقياس نفسه، ويديم التفكير في نفسه وعلاقة العالم بها، وهذا — من غير ريب — يوجب البؤس والحزن. فمحال أن يجري العالم وفق نفسه؛ لأن نفسه ليست المركز، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم، فإن هو وسع أفقه، ونظر إلى العالم الفسيح، ونسي نفسه أحيانًا، ونسي نفسه كثيرًا، شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه، والقيود الثقيلة التي تثقل بها نفسه، قد خفت شيئًا فشيئًا وتحللت شيئًا فشيئًا. وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغًا أشدهم ضيقًا بنفسه؛ لأنه يجد من زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجة أن يجن بنفسه؛ فإن هو استغرق في عمله وفكر في أمته وفكر في عالمه، كان له من ذلك لذة مزدوجة، لذة الفكر والعمل، ولذة نسيان النفس.» 🌌😔

  • قد يبدو النص لأول وهلة غريبًا. فنحن بطبيعتنا البشرية متمركزون حول أنفسنا ونعيش فيها، فكيف لا نفكر بها وننظر من خلالها لكل شيء؟ هنا يشير أحمد أمين إلى ضرورة الابتعاد بأي سبيل عن الهوس بالذات، وهو ما يرزح معظمنا تحته؛ فنحن نبحث عن عيوبنا خارجيًا وداخليًا، حدّ أننا نخترعها في بعض الأحيان ولا يراها الناس حولنا. ويمتد الأمر إلى التفكر بكل خطوة وهفوة تبدر منا، والندم على ما مضى والتخوف من الآتي والتقلب بين الهواجس حتى لا يطيق المرء نفسه ويود الهرب منها بأي طريقة. 🌬️🌾

  • عزلتي وخلواتي عزيزة على نفسي، ولطالما قلت إن علينا محبة رفقة أنفسنا أولًا والاعتياد على الوحدة. وهنا الموازنة الصعبة بين الخلوات التي تعود على الروح بالمتعة والراحة والرضا، وتلك التي تنقلب إلى جلسات انتقاد وتمحيص لا تنتهي. فإن وجدت نفسك تميل إلى الثانية، ابحث عما هو أبعد منك، ومدّ فكرك إلى المحيط حولك من أشخاص وأحداث وستتفاجأ بتخففك.💓🌏

إعداد🧶

شهد راشد


اقتباس اليوم 💬

« ما همّني إن احتقرني أحدهم. ما يهمّني ألا أرتكب فعلًا يستحق الاحتقار.» ماركوس أوريليوس


قفزة إلى ماضي نشرة أها! 🚀

  • حين تتحوّل الحياة إلى مهام مؤجلة، وتصبح اللحظات مجرّد نقاط في قائمة لا تنتهي بين التخطيط والتنفيذ

  • من فنجان الصباح إلى وقود الإنتاجية: كيف تحوّلت القهوة من مشروب للاستمتاع إلى وسيلة للبقاء في سباق العمل؟

نشرة بريديةالحياةمهام
نشرة أها!
نشرة أها!
يومية، من الأحد إلى الخميس منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+120 متابع في آخر 7 أيام