كرهت كاتبي المفضل! 😓🫷

زائد: كيف نقرأ في زمن «Me_too»؟

جانب من مكتب الكاتب نيل قايمان / Getty Images
جانب من مكتب الكاتب نيل قايمان / Getty Images

كرهت كاتبي المفضل!

هشام فهمي

أذكرُ فرحتي الغامرة قبل عشرة أعوامٍ أو نحوها، حين بعث إليَّ الكاتب الإنقليزي نيل قايمن (غايمان، أو غيمان، حسب منهج الناشر) برسالةٍ يشكرني فيها على ترجمتي عملًا كاملًا من تأليفه. آنذاك كانت ترجمة روايته «المحيط في نهاية الدرب» قد صدرت لتوّها، وهي أول كتابٍ نُشر لقايمن بالعربية. كتاب أحبّه قرّاء كثيرون، واستمتعوا بأجوائه الخرافية الساحرة، ومنهم من تكرّم بالثناء على الترجمة أيضًا.

بطبيعة الحال، تعود علاقتي بقايمن إلى كوني من قرّائه أولًا، منذ رشّحه لي الراحل أحمد خالد توفيق بصفته أحد أفضل من يكتبون أدب الفانتازيا في عصرنا الحالي، ولتمتّعه بلغةٍ ثريّة جذّابة، وقدرته على كتابة العجب العُجاب بأسلوبٍ شائق يغوص معه القارئ في أعماق حكاياته الغرائبيّة.

قرأتُ معظم ما كتبه، عملًا تلو عمل، وتصادف أني شاهدتُ في الفترة نفسها الفِلم الرائع المقتبس عن روايته «كورالاين»، وكتبتُ عنه مراجعةً في جريدة. وسرعان ما أصبح قايمن مؤلفي المفضل بالإنقليزية، ورغبت بشدة أن أترجمه إلى العربية. 

قبل «المحيط»، ترجمتُ لقايمن عددًا كبيرًا من القصص القصيرة والقصائد والمقالات، وبعدها ترجمتُ -بدرجاتٍ متفاوتة من الجودة، بالنظر إلى تطوّري الشخصي في المهنة على مرّ السنين- ثلاث رواياتٍ أخرى، ورواية مصوَّرة ونوفلا قصيرة مصوّرة (عندي طبعتها الإنقليزية بتوقيعه) وهي إجمالًا أعماله المفضَّلة عندي. أي إنني، ولا مبالغة في قولي، حقَّقتُ حُلمًا بترجمة رواياتي المفضّلة لمؤلّفي المفضّل بالإنقليزية.

لم تقتصر علاقتي بقايمن على مجرّد قراءة أعماله وترجمتها، بل لجأتُ إليه مرّاتٍ عدّة لتوضيح مواضع استغلقت عليّ في ترجمة أعماله، وأحيانًا في أعمال غيره في الفانتازيا. وهو في كل مرة يرد عليّ ويوضح المطلوب، أو يقترح تغييرًا بسيطًا يناسب القارئ العربي، أو حتى أبدى أسفه لأنه يجهل الجواب. بل وسمّيتُ إحدى قططي على اسم القطة في «المحيط»! الخُلاصة: سواء أكنتُ قارئًا أم مترجمًا أم باحثًا، لم يحدث قط أن أعطاني نيل قايمن سببًا إلَّا لأحبه وأحب كتاباته.

في يوليو الماضي وجّهتْ نساء عدّة إلى نيل قايمن اتّهامات بالاعتداء الجنسي. في ذلك الحين كنتُ أعمل على المراجعة الأخيرة لترجمة روايته «غبار النجوم»، وقبلها بأسابيع قليلة كنت أتبادل معه ومع وكيله رسائل عن احتمال دعوته إلى مهرجان أدبي في القاهرة.

مرّت عليّ أخبار تلك الاتهامات بطبيعة الحال، لكنني لم أقرأ في ذلك الحين إلا العناوين دون الاطلاع على التفاصيل، ربما خوفًا مما قد أكتشفه. الرجل كاتب مرموق له وجاهته في مجتمع الأدب، يكتب قصصًا جميلة للأطفال كما للكبار، معروف بأنشطته الخيرية ودفاعه عن البيئة وحقوق المرأة والأقليات والمهاجرين والحيوانات، محبوب من قرّائه ولا يترفّع -وهو المليونير المشغول- عن التفاعل معهم والرد عليهم، ويفاجئهم بترك نُسخ موقّعة من كتبه في المكتبات، ويشهد له من يتعاملون معه بالتهذيب والدماثة والخجل. وقايمن نفسه مستمر في نشاطه المعتاد على تويتر ومدوّنته على تمبلر.

مؤكّد أن في المسألة تفاصيل خفيّة. فلأنتظر بعض الوقت حتى تتّضح الأمور. «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، قاعدة ممتازة، أليس كذلك؟

ومرّت شهور، ثم ظهرت التفاصيل الخفيّة، وهذه المرّة قرأتها، وبرعبٍ فاق ما سبّبته بعض حكاياته المكتوبة. لن أخوض فيها هنا، لكنها مذكورة في التحقيق المطوّل الذي نشرته ليلا شابيرو في منتصف يناير الحالي، وأقلّ ما يُقال عنها أنها مريعة ومقزّزة!

صحيحٌ أن شيئًا لم يثبت عليه بعد، وأن حُكمًا قضائيًّا لم يدنه بعد، لكن البيان العجيب الذي أصدره ممثّلوه، وردّه المائع على مدوّنته، الشبيه للغاية بالردود المعلّبة في خط إنتاج واحد في مثل هذه الحالات، والتشابه الذي بلغ أحيانًا حدّ التماثل في شهادات المتّهِمات اللاتي لم تَعرف أيّهن الأخرى قبلًا، وبعضهن من دول مختلفة، وأنه دفع لبعضهن مبالغ كبيرة لقاء صمتهن، كلها أمور تثير الشبهات.

أضِف إلى هذا كلّه أن المرء لم يعد يُصدم من أناسٍ اعتاد أن يقدّرهم ويحترمهم، بعد صدماتٍ عديدة أثبتت أن الأبطال الذين نرتبط بهم يحسن أن يبقوا في الأعمال الخياليّة فقط، حيث لا يمكن أن يمسّهم شيء أو يشوّه صورهم... ما أريد قوله، لو لم تؤدِّ هذه الاتهامات إلى أيّ شيءٍ، فإن في حلقي الآن غصّة لا أقدر على ابتلاعها.

هل يمكن الفصل بين الفنان وفنّه، وإن كان الفنان إنسانًا بغيضًا؟
هل الفصل ممكن بعد سنين وسنين من المحبّة والاحترام؟

لن أخوض هنا في موت المؤلف أو الفنان عمومًا. كلّ ما لديّ تساؤلات: هل ينمحي كلّ ما سبق من استمتاعٍ بالقراءة والانغماس في عوالم خياليّةٍ ساحرة، مكتوبة بلغةٍ رائعة تُصوّر شخصيّاتٍ كثيرٌ منها لا يُنسى؟ هل تنمحي جدوى المعلومات الغزيرة التي اكتسبتُها في مجالاتٍ شتّى بسبب تلك القراءة، لمجرّد أنها بلغتني عن طريق الشخص الخطأ؟ هل أخطأتُ بأثرٍ رجعي في حقّ نفسي وفي حقّ القارئ عندما قرّرت أن أقدّم له مؤلِّفًا جديدًا لم تسبق ترجمته إلى العربية، وإن أحببتُ عمليّة الترجمة وما انطوت عليه من تحدياتٍ وبحثٍ واكتساب مزيدٍ من الخبرة في الترجمة واللغة العربية، وإن أحبَّ القارئ العمل؟ هل ينمحي ما فعلَه مترجمون آخرون بتقديم أعمال قايمن بمختلف اللغات، ومنهم خمسة مترجمين عرب غيري؟

أنا من جيلٍ عرف أفلام «Star Wars» منذ الصغر، وشخصية «لوك سكايووكر» التي لعبها مارك هامل من أبرز الشخصيات السينمائية المحبوبة، وسابقًا لم أحترم هامل ممثلًا فحسب، بل إنسانًا أيضًا. لكن هامل أيّد الإبادة في غزة، ولم أعد قادرًا على مشاهدة تلك الأفلام ثانيةً، ولا أطيق مجرّد رؤية صورة لهامل أو سماع اسمه. رومن بولانسكي أخرج بعضًا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، لكن بولانسكي مُدان باغتصاب طفلة. هـ. ب. لفكرافت كتب أعمالًا بديعة في أدب الرعب الكوني، لكن لفكرافت كان عنصريًّا صريحًا. جورج أورويل أبلغ الاستخبارات الأمريكية عن زملائه الكتّاب الذين أيّدوا الشيوعية. قرترود شتاين دعت إلى فوز هتلر بنوبل للسلام. تشارلز دكنز لوّث سمعة زوجته التي أراد تطليقها في الصحف. وليم قولدنق حاول اغتصاب فتاة في الخامسة عشرة. جاك لندن أيضًا كان عنصريًّا. فكتور هوقو أدمن معاشرة العاهرات.

كيف نفرّق بين الأعمال العظيمة التي قدّمها هؤلاء وغيرهم وبين البشاعات التي ارتكبوها في حياتهم الشخصيّة؟ هل نحسبها تبعًا لعظمة العمل وجسامة البشاعة؟ هل يوجد مقياس أصلًا؟ أم أن ما يسري على المعتدي جنسيًّا يجب أن يسري على العنصري؟ أسئلة لا بد من طرحها، ولو أن الأجوبة قد تختلف صعوبتها من فردٍ إلى آخر.

قد يستطيع بعضنا التغاضي عن إجرام مؤلِّفٍ ما في حقّ أحدٍ ما لمجرّد أن يستمتع بروايةٍ له، وقد يستطيع بعضنا أن يحتفظ بشعوره بالاشمئزاز من ذلك المؤلِّف لكنه يفصل بين شخصيّته ورواياته، وقد لا يستطيع بعضنا أن يقرأ له ولو كلمةً أخرى.

عن نفسي، لا أظن أنني سأقرأ لنيل قايمن مرة أخرى ما لم تثبت براءته ثبوتًا قاطعًا. لقد قرأتُ معظم ما كتبه بالفعل، وأحببتُ معظم ما قرأته، وترجمتُ معظم ما أحببته، وحتى قبل كلّ ما ظهر على السطح قلتُ علنًا إنني اكتفيت منه وحان الوقت للالتفات إلى مؤلفين آخرين إلى أن يكتب عملًا عظيمًا آخر. لكن الأكيد أن اسمه لن يمرّ عليّ ثانيةً دون أن أشعر بالمرارة.


لافتة تُظهر شعار حركة «#Me_Too»
لافتة تُظهر شعار حركة «#Me_Too»

كيف نقرأ في زمن «Me_too»؟

إيمان العزوزي

ظهرت حركة «Me_Too#» سنة 2017، وأحدثت، منذ ظهورها، زلزالًا هزَّ عالم الفن والأدب، وما زالت هزاته الارتدادية تضع، بين الفينة والأخرى، اسمًا جديدًا في قفص الاتهام. أثارت هذه الحركة مشكلات عدة، وما يهمّنا هنا هو تأثيرها في كيفية تلقي القارئ للأعمال الأدبية.

قبل أيام، صادفت رسالة لنيكولاي ستراخوف، كاتبِ أول سيرة ذاتية لدستويفسكي، أرسلها في الثامن والعشرين من نوفمبر 1883 إلى ليون تولستوي، يشتكي فيها قائلًا: «أحاول وأنا أكتب أن أقاوم شعورًا بالاشمئزاز يتصاعد داخلي، أحاول كتم مشاعري السيئة. ساعدني في التخلص منها، لا أستطيع أن أرى دستويفسكي رجلًا طيّبًا وراضيًا، لقد ابتُليَ طوال حياته بأهواء كادت أن تجعله سخيفًا وبائسًا، لو لم يكن ذكيًّا ولئيمًا كي ينقذ نفسه… لقد كان منجذبًا إلى النذالة ويفتخر بها».

يشير ستراخوف في رسالته أيضًا إلى الأذية التي ألحقها دستويفسكي بطفلة، ويؤكد أنها مثال بسيط لسوء شخصيته. بالفعل، لاحقت دستويفسكي  اتّهامات يدّعي بعضها أنه كان مشاركًا في اغتصاب طفلة، أو على الأقل كان شاهدًا على الحدث.

تثبت أعمال دستويفسكي أنه عانى من عقدة الذنب تجاه هذه الحادثة، وقد مثّلها في روايتين من أهم رواياته؛ «الشياطين» و«الجريمة والعقاب». وحاول من خلال أدبه معالجة اضطرابه والتهرّب من المسؤولية، وألبسها أبطاله، فسمح لنفسه أن يكون الجلاَّد والقاضي، مما أتاح له تبرير الضعف الإنساني كما رآه.

هذه المعلومات كانت موجودة ومُعلنة منذ أكثر من قرن، لكنها لم تغيّر شيئًا في نظرتنا إلى دستويفسكي، الذي كان يُعد -ولا يزال- بطلًا قوميًّا تُزيّن صوره الطوابع ومحطات المترو. ولا يزال دستويفسكي من أكثر الكتّاب اقتباسًا لدى مختلف الشعوب. وعلى غراره نجد العشرات من الكتاب، أمثال ميشيل فوكو وسارتر وسيمون دي بوفوار وإيميل سيوران وغيرهم، ممن ارتكبوا أو دعموا أشخاصًا ثبتت عليهم جرائم «أخلاقية» ولم يُحاسَبوا عليها. مما يطرح السؤال الآني: كيف نقرأ أعمال هؤلاء الروائيين والمفكرين؟

تتراوح مطالب حركة «Me_Too#» بين الدعوة إلى مقاطعة جذريّة لكل الكتّاب المتهمين، سواءً الأحياء أو الأموات، وبين ضرورة إعادة قراءة الأعمال الأدبية والفكرية السابقة قراءةً نقدية، تتبع تأثير الأدب في تطبيع الاعتداءات الممنهجة ضد النساء، ونفي أي شبهة جنائية عنها، على اعتبار أنها متسقة مع سياقها الاجتماعي آنذاك، ومن ثم لا تتنافى والآداب العامة والأخلاق.

تُميّز جيزيل سابيرو، عالمة الاجتماع، في كتابها «هل نستطيع فصل العمل عن مؤلفه؟» بين موقفين أساسيين تجاه الأعمال (الأدبية تحديدًا). الموقف الأول يدعم قراءة النص أو العمل الفني بعيدًا عن مبدعه، ويفصل بين أخلاقية العمل وأخلاقية المؤلف. يُعرَف هذا الموقف بـ«الموقف الجمالي»، أو كما أطلق عليه أوسكار وايلد «الفن من أجل الفن»، حيث يتقيّد النقد بدواخل العمل دون تجاوزه.

أما الموقف الثاني، فيرفض التمييز بين أخلاقية العمل وأخلاقية مؤلفه، ومن ثم يتوسَّع النقد ليصبح مرجعيًّا، بمعنى أنه يربط بين ما يقوله العمل وما يوجد خارجه. وهو الموقف الذي تدعمه حركة «Me_Too#» حاليًّا، أو الحركات المنادية بالصوابية السياسية وسياسة الـ«Woke»، التي تنادي بالكياسة في اللغة، تجنبًّا للإساءة إلى فئة معينة من المجتمع، مثل الأقليات. أدى ذلك إلى ظهور أنماط جديدة من القراءة مثل «القراءة الحساسة» (Sensitivity reader)، التي يلجأ إليها الكُتّاب قبل نشر أعمالهم لتنقيحها من كل ما من شأنه أن يفتح النيران على الكاتب. 

أشارت جيزيل سابيرو في إحدى حواراتها إلى أن بعض الكتّاب والفنانين يتحايلون على هذه القراءات بخلق قراءة مزدوجة تتيح لهم تبرير أعمالهم، كما حدث مع دوستويفسكي أو المخرج رومان بولانسكي المتهم بالاغتصاب. إذ استَغل رومان بولانسكي فِلمه «أنا أتهم» للربط بين قضية دريفوس -وهي إحدى أهم الدعاوى القضائية في تاريخ فرنسا، اتُّهم فيها دريفوس بالباطل- وبين تهمته الشخصية، بهدف كسب تعاطف الجمهور. نبّهت جيزيل القرّاء والمشاهدين إلى هذا النوع من الابتزاز في تلقي الأدب والفن.

أعتقد أن التعامل مع الوقائع فور حدوثها، وأطراف النزاع ما زالوا أحياء، يسمح للمتلقي بتكوين رأي تجاه الكاتب وأعماله. هذا ما حدث مع الكاتب الفرنسي قبريال ماتزنيف بعد صدور كتاب «الموافقة» لصاحبته فانيسا سبرينقورا. إذ ادّعت فانيسا في الكتاب أن قبريال استغلّها عندما كانت طفلة لم تتجاوز الرابعة عشرة. تسببت هذه الضجة في مقاطعة الدُّور والقراء للكاتب، ولكن أي متتبع للحالة الثقافية في فرنسا سيدرك أن ماتزنيف لم يعد مشهورًا ومربحًا كما كان في السابق، ومن ثم قرار مقاطعة دور النشر والإعلام كان سهلًا.

يصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما تطفو الأحداث وتُكشف الأسرار بعد وفاة الكاتب، كما حدث مع الكاتبة الكندية أليس مونرو، الحاصلة على نوبل للآداب سنة 2013. حيث كشفت ابنتها الصغرى أندريا روبن سكينر، عن تعرضها لعنف جنسي على يد زوج أمها منذ خمسين سنة، وفضّلت أليس البقاء مع زوجها والتكتم على الموضوع، آخذة الأمر على أنه مجرد خيانة زوجية تستطيع التغاضي عنها وغفرانها.

انقسمت آراء القرّاء حول الموضوع؛ بعضهم أكّد مقاطعته التامة لأعمال أليس، بالرغم من جماليتها التي أهّلت مونرو للفوز بنوبل للآداب. بينما دعم آخرون القراءة المزدوجة الكفيلة بالجمع بين قراءة العمل بما يحمله من جماليات، دون تجاهل حقيقة المرأة التي كتبته وبشاعة ما قامت به تجاه ابنتها.

في النهاية، يتمتع القرّاء بحرية التعامل مع الأعمال الفنية والأدبية بالطريقة التي يرونها مناسبة. مع ذلك، أرى أن تغيير الأعمال الأدبية السابقة لتناسب أفكارنا المعاصرة يضر بالفكرة أكثر مما يدعمها، ويلغي ما وثّقه الأدب من مظالم واعتداءات وقراءات ثقافية للمرحلة التي كُتب فيها. من بين هذه الاجتهادات ما حدث لأوبرا «كارمن» للكاتب جورج بيزيه، حيث قرّر المخرج الإيطالي ليو موسكاتو تغيير النهاية، فجعل «كارمن» هي من تقتل «دون جوزيه» بالمسدس بدلًا من أن يقتلها هو بالخنجر. برر ليو موسكاتو ذلك بقوله: «من غير المناسب أن نصفّق لمقتل امرأة»!


طرح الأسئلة / Giphy
طرح الأسئلة / Giphy

إن كنت لا تفهم، اطرح الأسئلة. وإن كنت متضايقًا من طرح الأسئلة، فقل إنك كذلك، ثم اسأل على أية حال. من السهل معرفة إن كان السؤال ينبع من نية حسنة. ثم استمع أكثر؛ يرغب الناس أحيانًا لأن يُصغى إليهم فحسب، وهذا لاحتمالات الصداقة والترابط والتفهم.

كتبت تشيماماندا نجوزي أديتشي، الكاتبة النيجيرية، هذه العبارة في روايتها «أمريكانا». تزيح الكاتبة الستار عن العذابات الإنسانية، وتغوص في عمق الآلام من أجل استجلاء الأسئلة التي من شأنها تفكيك معضلة الإنسان.

تناقش تشيماماندا في «أمريكانا» أزمة الهوية التي تحمل خطر الانحلال، خاصة وحامل الهوية يعاني من التشتت الذي يمنعه من إدراك قيمه الذاتية الأصيلة، ويتشبث بقشور ثقافات لا تشبهه.

تبيّن أزمة الهوية حاجة الإنسان إلى التفكير في كل ما يحيطه، ومواجهة عدم الفهم بطرح الأسئلة حول علاقته بأصوله وبنفسه وبالآخرين. تلك الأسئلة تستجلي نظرة الآخر نحونا، ونحو موقعنا، وتؤكد الرغبة في المبادرة والذهاب إلى أبعد من الحدود التي يرسمها المجتمع.

تمس هذه الأسئلة البشرية جمعاء، ولا تخصّ عرقًا أو مجتمعًا دون سواه، لأن القضايا الكبرى، مثل العنصرية والتمييز والاعتداءات، هي في قلب النقاشات المعاصرة ولن يفيد إنكارها.

وقبل أن نسأل، علينا أن نصغي جيّدًا لما يحدث حولنا. لعلّ الإصغاء وحده يكون الجواب لبعض الأسئلة المرتبطة بالصداقة والتعاطف.


الموت على كنبة مريحة

صدر حديثًا عن دار الساقي الترجمة العربية لكتاب «Death by Comfort: How modern life is killing us and what we can do about it»، لمؤلفه بول تايلور، وهو اختصاصي فسيولوجي وخبير تغذية وعالم أعصاب، كما يشرف على ورشٍ حول المرونة والقيادة والأداء التنفيذي لشركات عدّة. يطرح تايلور في مؤلفه «الموت على كنبة مريحة» نقدًا لحياة الفرد المعاصر، ويحاجج أن الإنسان لم يُخلق ليعيش حياة مرفهة، حيث كان أسلافنا يواجهون التحديات التي سمحت لهم بالتقدم والتطور.

وبرغم الراحة التي يوفرها التطور، فقد تفاقمت مشاكل الفرد النفسية والصحية بسبب الأغذية المصنّعة، ورقمنة علاقاتنا التي فصلت أجسادنا عن الآخرين. يوضح تايلور مختلف الثغرات في الحياة المعاصرة، ويقدم في الوقت نفسه نصائح عملية لتغيير أنظمتنا الغذائية والرياضية وممارساتنا اليومية، من أجل الحفاظ على توازننا النفسي والجسدي في عالم متغيّر.


  1. ?Peut-on dissocier l’œuvre de l'auteur

تأليف: جيزيل سابيرو / الناشر: «Seuil» / عدد الصفحات: 240

تحاول جيزيل الإجابة على أسئلة ملحّة، أهمها: هل يجب حظر الأعمال الأدبية والفنية عندما يكون المبدع مخطئًا، مثل حالة الكاتب بيتر هاندكه المنكر لمذبحة البوسنة والمؤيّد للصرب؟ هل يجب محاسبة الكاتب على طيش الشباب، كما حدث مع الكاتب الألماني قونتر قراس؟ هل يجب محاسبة الكاتب على أسرار حياته الخاصّة، كحالة أليس مونرو؟ والسؤال الأهم: هل علينا أن نتقبل حصول المبدع المخطئ على جوائز؟

تسعى سابيرو في كتابها القصير إلى نقل هذه الأسئلة من مساحات النقاش العامة إلى النقاش من منظور تاريخي وفلسفي واجتماعي، وتحليل المواقف المُتّخذة في هذه الحالات بناءً على الخلاصات التي تبنتها تلك النقاشات.

بهذا، تمنح سابيرو القارئ فرصة التعرف على مختلف الطرق الممكنة لقراءة الأعمال، ومن ثم القدرة على تكوين رأي ذاتي حولها، والإجابة على السؤال المحوري الذي فضّلت أن تعنون به كتابها: هل نستطيع أن نفصل العمل عن مؤلفه؟

  1. تنفّس

تأليف: جيمس نيستور / الناشر: «Riverhead» / عدد الصفحات: 280

«بغض النظر عمّا تأكله، أو مقدار التمارين الرياضية التي تمارسها، أو مدى نحافتك أو شبابك أو حكمتك، لا شيء من ذلك يهم إذا كنت لا تتنفس بشكل صحيح».

كتاب علمي أحدث ضجّة واسعة منذ إصداره قبل أربعة أعوام، وأصبح في مدة قصيرة من أكثر الكتب مبيعًا في نيويورك تايمز. نصح مؤخرًا طبيب الأعصاب «أندرو هوبرمان» بقراءته.

أحيانًا، في خضم إيقاع الحياة السريع، ننسى أن نتنفس. ظهر في دراسات حديثة أن التنفس الصحيح يقي الإنسان من أمراض عديدة، مثل الحساسية والربو وأمراض المناعة الداخلية، كما أنه يساعد في تقويم العمود الفقري، وتوقف الشخير، ويعزّز الأداء الرياضي، ويجدد الأعضاء الداخلية.

وجد الصحفي نيستور، في أبحاث ورحلات قام بها حول العالم، وبالاستعانة بالنصوص الطبية الحديثة في طب الرئة وعلم النفس والكيمياء، أن هناك علمًا خفيًّا يعتمد على ممارسات التنفس القديمة.

سخر بعض القرّاء من المؤلف، واتهموه بانعدام المسؤولية، والمبالغة في قدرة التنفس على علاج بعض الأمراض، مثل السكتات الدماغية وبكتيريا الدم، وغيرها من الأمراض المستعصية. بالرغم من جدية هذه الاتهامات، فالكتاب، على الأقل، يدعونا إلى التريث قليلًا بين جولات الركض التي لا تنتهي، أن نتنفس ونتقن تقنيات التنفس، لأننا غالبًا ما نتعرض، أطفال كنا أم بالغين، لإغماءات وحوادث في بعض المواقف الحرجة وحالات القلق المستعصية، التي نحتاج فيها فقط أن نتنفس بالشكل الصحيح.

  1. لماذا لا تزرع شجرة؟

المؤلف: أحمد شافعي / الناشر: الكتب خان للنشر / عدد الصفحات: 92

نوفلا من فصلين، تحمل الكثير من المعاني العميقة، يستحضر فيها الراوي ذاكرة الماضي والحاضر، ويستكشف عوالم وتداعيات عدة في ذاته المظلمة. يروي العمل حكاية موظف اختُطف على يد مجهول. في صفحات قليلة، استدرك الراوي، ببراعة، وهو يعيش مع المختطِف المجهول، غوايات النفس وغربتها التي عاشها خلال أربعين سنة.

يطرح الخاطف على المُختطَف، معصوب العينين، سؤالًا وجوديًّا يعجز عن إجابته. يجيد الكاتب اللعب برمزية العمى وعلاقته بدواخل الإنسان، فعندما أُجبر الراوي على عصب عينيه أصبح معزولًا تمامًا عن رؤية العالم الخارجي وما حوله، وصار عاريًا أمام نفسه وذاته.

يذكّرنا المشهد بحوارات سبق وقرأناها في رواية «العمى» للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماقو، حيث تصبح بصيرة المرء وشجاعته هي دليله وتواصله الوحيد مع العالم حوله. حبكة متّزنة شاعرية يقدّم فيها أحمد شافعي صوت إنسان مسالم ينشد الحرية من قيود الماضي البعيد.

يوجّه الخاطف سؤالًا واحدًا لـ«كامل»، الراوي والبطل في العمل، لماذا لم تزرع شجرة يا «كامل»؟ يتكرّر السؤال الذي يبدو سخيفًا وغير منطقي، مجلجلًا في صدر «كامل»، الذي يُقيِّم حياته بناء عليه، حياة رجل وزوج وأبٍ عادي. يسبب السؤال فتوقًا تتسرّب منها أسئلة أخرى لتصبح الشجرة رمزًا لكل ما حاولنا فعله وحاربنا من أجله. 

صحيح أيها القارئ، هل سبق وزرعتَ شجرة؟

نشرة إلخ
نشرة إلخ
أسبوعية، الأربعاء منثمانيةثمانية

سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.

+90 متابع في آخر 7 أيام