لماذا يؤثر فينا قدوم الشتاء 🧣❄️
غالبًا ما تراودنا هذه المشاعر مع تغير الفصول، حيث يترك الشتاء وسباته العميق أثرًا أعمق من غيره من الفصول.
لماذا يؤثر فينا قدوم الشتاء
مع اقتراب فصل الشتاء، يرافقنا شعور بالفقد يصعب علينا تحديد ماهيته، نفتقد شيئًا ما داخلنا أو فيما يحيط بنا. متى فكرت في الأمر، والتفت إلى الجو وتقلباته؛ أجده يؤثر بعمق في مزاجاتنا التي تفيض بمشاعر جياشة. غالبًا ما يتجلى هذا التأثير من خلال الطبيعة، وبالأخص أصواتها، وهذا يدفعني إلى التساؤل عن السر وراء قدرة الصوت في التأثير على حواسنا؛ أصوات الرياح الموسمية، وأصوات العواصف الرعدية، وزخات المطر، وحفيف الأشجار، وحركة تساقط الأوراق.
اعتدت طيلة أيام الخريف، ومنذ لحظات استيقاظي حتى المغيب، على الإصغاء إلى صوت الطبيعة الخلّاب والموحش في آن واحد. في هذه اللحظات، أستحضر ما كتبه الأديب الألماني هرمان هسه في كتابه «تجوال». يشعرنا الكتاب بنوعٍ من الألفة تجمعنا برسائل الطبيعة، خاصة وأن هسه وضع فيه رسوماته التي أبدعها أثناء تجواله، التي تؤكد أن علاقة الإنسان بالطبيعة والفصول لا تتغير بتغير السنين. لذا، فما كتبه هسه يقترب مما أشعر به، وهذا برأيي هو ما يخلّد بعض الأعمال الأدبية.
لطالما شعرت بحفيف الأشجار كأنه يدٌ حانية تمسح على رؤوسنا، تفهم صمتنا وما يختلج داخلنا خلال لحظات تأملها. في كتاب «تجوال»، يظل النص الأجمل هو ذاك الذي كتبه هسه عن الأشجار، يصف فيه لغتها التي عجز الإنسان عن فهمها، ويصف الصراعات التي تربط الأشجار بالطبيعة وتقلباتها، وقدرتها على الوقوف شامخة أمام كل هذه التغيرات منفردة ووحيدة، تناضل بكل عزم من أجل إعلان وجودها.
هذه القدرة الفريدة على الجمع بين الجمال والقوة هو ما جعلها مقدسة لدى العديد من الشعوب، بل منهم من أوجد للأشجار وظيفة علاجية -مثل «Shinrin-yoko» لدى اليابانيين- ومنها أخذت الدراسات الحديثة الغربية طرق علاج بديلة باستخدام الطبيعة والأشجار. ويعتمد هذا العلاج على ربط الحواس الخمسة بمجالها الطبيعي، خاصة وسط الغابة.
يصف هسه الأشجار بأنها بداية الحياة، ورمزٌ للصبر والثبات والأبدية. وفي ثباتها دعوة للإنسان إلى مواصلة الحياة مهما طال البلاء واشتدت الصعاب، فهي كما يقول هِسه: «الواعظ الأشد نفاذًا وتأثيرًا». وفي صمودها وبأسها تكمن حكمة الوجود. تعبّر الأشجار عبر حفيف أوراقها عن حنين مبهم نحو مجازات جديدة للحياة، وكل حركة منها هي خطوة نحو ولادة جديدة. يعلّمنا هسه كيف نصغي إلى الأشجار، لأنفاسها الطويلة والهادئة، لأن حكمتها وعمرها يفوقان -بالتأكيد- تجاربنا وأعمارنا.
في نص آخر يوجز هسه علاقتنا بالجبال، وكيف تستضيف بين فجاجها أفكار الناس وأحزانهم. ولعل هذا الغموض الذي تحمله الجبال هو ما يشعرنا بالحزن والخوف والرغبة في الترحال، والفضول المستمر لمعرفة ما يوجد خلفها. وقد تكون ممارسة رياضة «الهايكنق» فرصة لنعود عبرها إلى أنفسنا، وإلى ما تعرفه هذه الجبال عنّا. كل يوم أقضيه بين جدران المنزل أو العمل يشعرني بالضيق والكآبة، وكأني ببقائي في مكاني فوتُّ أمرًا عظيمًا لن يتكرر مرة أخرى، ودائمًا ما أشرد متأملة جبال العان في نجران، أغمض عينيّ فيتناهى إلى سمعي صخب أولئك الذين عبروها وبصموا تاريخهم على صخورها.
لعلّ ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو عن هواجسه خلال نزهته في جزيرة سان بيير، مثال آخر على توحد الإنسان بالطبيعة، فالأصوات التي تخلفها تمنح المرء فرصة الانفراد بنفسه وأفكاره. لذا، يُعدّ كتاب «هواجس المتَنَزَّه المُنْفَرِد بنفسه» أشد صدقًا من كتابه الأشهر «الاعترافات»، حيث عبّر فيه عن مشاعره وأفكاره بأسلوب بريء وغير مسبوق. كانت للوحدة التي رافقته وهو بين أحضان الطبيعة دورًا كبيرًا في فهم قلقه واضطرابه ومخاوفه، وقد أفادت البشرية من تأملاته حول الخير والشر.
بدأ روسو كتابة هذه الهواجس وهو هارب من اضطهاد متعمّد من مؤسسات بلاده ومثقفيها. فكان الكتاب بمثابة رثاء وتعزية له عندما تقدمت به السن. دائمًا ما كان يصرح روسو أنه كتب هواجسه من أجل العودة إلى قراءتها لاحقًا، لكي تمكّنه من العيش بزخمٍ مع نفسه. لكن الموت لم يمنحه الفرصة لفعل ذلك، وقد نُشرَت المخطوطة بعد وفاته.
قد وجد روسو في نزهاته التجلي الصعب للسعادة التي تتأصل فينا دون حنين إلى الماضي، ولا رغبة في المستقبل. وهو ما وصفه قائلًا: «حالٌ ليس الوقت لديها بشيء، إذ يدوم فيها الحاضر دون أن تقاس مدته»، فهي الحالة التي عاشها في هذه الجزيرة غارقًا بين هواجسه الشاردة، أو ممدَّدًا على المركب الذي تركه يسير «كما يطيب للهواء تسييره»، أو مستلقيًا على ضفاف البحيرة، أو مقتفيًا أثر منابع المياه العذبة. «بما يتلذذ المرء في حالٍ مماثلة؟» يتساءل روسو، فيجيب: «بلا شيء مما يكون خارج نفسه». هذا هو الشعور الذي تبعثه فينا الطبيعة «المجرد من كل مودة أخرى.»
في الشعر، يُعدّ الهايكو هدية بعثتها لنا الطبيعة، إذ تُعدّ النظرة اليابانية للطبيعة نظرةً فائقةً وفريدة، بحيث يدمج الياباني الطبيعة في حياته دمجًا عضويًّا يصعب فصله. يُلتقط شعر الهايكو بالحواس الخمس، وليس بالعقل أو القلب كما يفعل الشعراء عادة. يتحدث الهايكو بلسان الناس، وعن حياتهم اليومية، ويرصدها ببساطة ودقة. يصفه المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي في كتابه «النحت في الزمن» قائلًا: «كم هي الحياة مرصودة هنا بوضوح وبساطة ودقة، يا له من ذهن منضبط وخيال فخم ونبيل». في شعر الهايكو، يمكنك سماع خرير المياه، وحركة اليعسوب، وقفزات الضفدع، كل ذلك بهدوء ورصانة مهيبة. يعبّر هذا الشعر عن الحياة سريعة الزوال في أركان الطبيعة ومشاهدها، وهو ما يجعله مميَّزًا، إذ يربط الإنسان بالطبيعة في نَفَس وقول واحد.
أعتقد أننا عبر الأدب وجدنا الجواب عن تأثير أصوات الطبيعة فينا. فالزمن وزواله السريع يتركان في النفس أثرًا لا نستطيع القبض عليه، وما المشاعر التي تجتاحنا؛ الشجن والحزن الوقور الذي يشبه الحرير -كما وصفته فرنسواز ساقان- إلاَّ بقايا هذا الأثر وصداه المرتد، الناشئ عن عجزنا عن فهمه. غالبًا ما تراودنا هذه المشاعر مع تغير الفصول، حيث يترك الشتاء وسباته العميق أثرًا أعمق من غيره من الفصول. تمتلئ ذكرياتنا بأصوات المطر ونقراته على نوافذنا، وبنشيج المزاريب وأجيج النار وروائحها التي تؤنس أمسياتنا الطويلة، وبين كل هذا وذاك حكايات وطقوس عشناها بين بهجة وكآبة. وأيًّا كانت تلك المشاعر، يغلبنا الشوق إليها مع اقتراب الشتاء.
مع كل فصلٍ جديد، هناك شيء ما يتغير فينا. ولعل بيسوا الكاتب البرتغالي استطاع وصفه في إحدى رسائله إلى والدته قائلًا: «بالنسبة لي، التغيير -من حال إلى حال آخر- موت جزئي؛ شيء ما يموت فينا، وحزن موته وزواله ليس بوسعه سوى أن يلمس روحنا».
فاصل ⏸️
وَدِيارٌ كَانَت قَدِيمًا دِيارَا
سَتَرَانَا، كَمَا نَرَاهَا، قِفَارَا
أحبَّت أم كلثوم الشعر، قرأته محاولةً الاستئناس به ليحميها من الانسياق نحو سيادة الكلمة الضحلة والمسفة التي سادت بداية مشوارها. وقد استطاعت بفضل مخزونها الشعري، والاقتراب من أهم أعمدة الشعر الغنائي الفصيح، أن تطرب الآذان بأغانٍ ساهمت -بما لا يدع مجالاً للشك- في الارتقاء بالغناء. وقرّبت الشعر إلى أذن المواطن العادي، فتغنّى بأشعار الحمداني ومحمد إقبال والأمير عبد الله الفيصل وعمر الخيام وغيرهم.
لقد غنّت أم كلثوم لأكثر من خمسين شاعرًا، حيث يجد كل محب ضالته فيما يحب ويعشق من الكلمات. ولكني أجد أعذبها أغنية «هذه ليلتي»، وهي من كلمات الأديب اللبناني جورح جرداق، وألحان محمد عبد الوهاب. تمضي أبياتها قاصدةً الوجدان، تهزّه وتوقظ فيه شوقًا وحنينًا إلى حياة أخرى، ومواقف عشناها وكدنا أن ننساها. نعود إليها كما يعود المرتحل إلى دياره، ليجدها قفارًا. ولكن ما نتجاهله دائمًا أن تلك الأطلال التي نبكي عليها ليست إلاَّ تعبيرًا عن تلك المشاعر التي تعترينا ونحن نقف قبالتها. تلك الديار وذاك الماضي الذي نسائله، يمنحه جرداق أيضًا الحق في محاسبتنا، ليغدو اللقاء بيننا وبين الماضي حوارًا بين زمنين، بين الزمن الذي كنا عليه، والزمن الذي صرنا إليه.
وفقًا لذلك يؤكد الشاعر أن في هذه الليلة «ليلتي وحلم حياتي، بين ماضٍ من الزمان وآتِ»، وهذا اللقاء الذي أتى مصادفة وأثمر حبًّا أشعل قلبين، يوجد معه شيء من الخوف؛ الخوف من الغد، من أن تكون هذه البهجة مؤقتة، فيخيب الظن ويهجرنا الحب غدًا، كما يفعل دائمًا. يذكرنا جرداق بالنهايات وبالحسرة التي تعقبها، والقفار التي تسكننا بسبب ما عشناه سابقًا، فهو يعتقد أن أي ليلة يحضر فيها الحب؛ فعلينا أن نعيشها دون توقعات ودون انتظارات. ألّا نحسب الكلمات، وألّا نخشى الاعتراف. أن نقتنص لحظات الفرح وما يجود به الزمن فـ«هذه ليلتي، فقف يا زماني» تشدو أم كلثوم.
يسرد المؤرخ صلاح عيسى في كتابه «رجال ريا وسكينة» سيرة أشهر قاتلتين في تاريخ مصر والبلاد العربية، ويوضح الالتباس الذي رافق أرشفة تاريخهما. ومن أبرز المفاهيم التي تناولها عيسى في هذا الكتاب، مفهوم المؤرخ الفلكلوري أو الشعبي، الذي يختار من سِيَر الشخصيات ما يبرّر تقديسها أو أسطرتها أو التقليل من بطولاتها. في إحدى فصول الكتاب نقرأ شهادة الروائية لطيفة الزيات عن هذا النوع من التأريخ، وتأثيره على وعيها وهي لا تزال طفلة لم تشهد الأحداث ووقائع المحاكمة والإعدام. حيث تعرّفَت عليهما انطلاقًا من مخيال والدتها، الذي بُنيَ على تواتر الحكايات من فم إلى آخر، مع ثراء في الإضافات والتوابل. لأن الإنسان غُزِل من الحكايات، لهذا يحب دائمًا أن يزيد سطرًا آخر للرواية. وهكذا تتحول صور بعض الشخصيات إلى أفكار مرعبة تراود أحلامنا صغارًا وكبارًا.
ولعلّ هذا المؤرخ الفلكلوري هو من يقف خلف العديد من الأساطير الشعبية، التي ألبست شخصيات سلبية لباس البطولة، أو نزعت عن أخرى بطولاتها -وأحيانًا إنسانيتها- وحولتها إلى وحوش تنتمي إلى عوالم لا ندركها. ومن الأمثلة الشائعة عن هذه الشخصيات «عيشة قنديشة» في المغرب، التي أثارت فضول العديد من الباحثين لمعرفة حقيقتها، وهل هي فعلا جنية تشتهي أكل لحوم الرجال؟ أم مجاهدة ناضلت الاستعمار البرتغالي، انتقامًا لأهلها في الأندلس؟ بل ذهب البعض إلى أنها ولية صالحة وقديسة، كما ذكر العباس بن إبراهيم السملالي في كتابه «الإعلام بمن حلّ بمراكش وأغمات من الأعلام». كما أنها ألهمت الروائيين مثل مصطفى لغتيري لكتابة روايته «عيشة القديسة»، أو غازي القصيبي في روايته «الجنية».
بغض النظر عن حقيقة «قنديشة» فهي تتشابه في الموروث الشعبي مع نظيراتها في باقي العالم، مثل «النداهة» في مصر، و«تريترا» في شمال نجد التي تغنى بها الشعراء، وألهمت مبرمجي الألعاب، أو «دجيرة» بالحجاز، وغيرهن. كلهنّ نتاج المؤرخ الفلكلوري الذي نجح في إقناعنا بوجودهنّ وزرع في وجداننا الخوف منهن.
من الطريف أن نجد أكاديميين تأثروا بهذا التأريخ الفلكلوري، مثل أستاذ الفلسفة الذي حكى عنه عالم الاجتماع بول باسكون في دراسته القيمة «الأساطير والمعتقدات بالمغرب»، حيث حرق ما جمعه عن «عائشة قنديشة» من وثائق، ولاذ بالفرار بعد أن لاحقته حوادث غامضة لم يجد لها تفسيرًا.
فقرة حصريّة
اشترك الآن
سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.