ماذا يقول لنا التغير المناخي عن أصوات الطبيعة؟

يتوسع أثر التغير المناخي على مختلف الظواهر الطبيعية، وتغير أصوات الطبيعة أو غيابها خطر لا نسمع تهديداته ولا نعي بها.

في أحد أيام عملها المملة التي اعتادتها، من داخل كشكها في مبنى الوزارة التي تعمل بها، تفحص پان تسجيلات صوتية من أرشيف مضى عليه عقود من الزمن، لتقرر ما إن كانت ستحتفظ به أو تتخلص منه. 

كان من بين التسجيلات خطبة لأوباما وأغنية لبيونسي وأولى كلمات نيل أرمسنتروق على وجه القمر. وبحركة أشبه بالتلقائية تضغط پان على زر المسح، لتحذف كل هذه الأصوات من ذاكرة البشرية إلى الأبد. لكنها سرعان ما توقفت عند تسجيل غريب، لتتردد بعدها في كبس الزر.

كان ملفًا يحمل أصوات لم تعهدها من قبل. ولم تستطع استبيان ماهيتها: أموسيقا أم ماذا؟ فإن كانت كذلك، فقد وافقت أسلافها أخيرًا في الذوق الموسيقي. لكن التسجيل كان صوت غابة مطيرة. فصار قرار احتفاظها بالتسجيل، بداية رحلة البحث عن أصله. 

كانت هذه بداية مستهلّ أحداث المسلسل الإذاعي «فوريست 404» (Forest 404) الذي أنتجته البي بي سي العام الفائت، فما الذي حدا بكاتب المسلسل أن يتخيل مستقبلًا موحشًا للإنسانية، لا يستطيع فيه أبناءه التعرّف على جزء من أصوات الطبيعة؟

على الرغم من ميل بعض العلماء لهذه النظرة السوداوية، يرى البعض الآخر أن هذا المسلسل الدرامي محض خيال أدبي. فحتى وإن اختلف تفاعلنا مع الطبيعة، ستظل باقية على كوكبنا. وإن توارت أصوات الطبيعة عنا وسكتت، فهذا لن يحدث في المستقبل القريب على الأقل. لكن ما يجمع عليه الكثير أن كوكبنا لم يعد يطلق الأصوات ذاتها التي كان البشر يسمعها قبل قرن من اليوم، فما هو شكل هذا التغير؟ 

الطبيعة والأصوات من حولنا

يُقسم العالم الصوتي على كوكبنا إلى ثلاث أقسام: الأصوات الطبيعية (geophony) الصادرة عن الطبيعة كسقوط مياه الشلالات وحركة المد والجزر ورجفان الأرض جراء الزلازل، تليها الأصوات الحيوية (biophony) التي تصدرها الكائنات الحية كنقيق الضفادع ورغاء الإبل.

وأخيرًا الأصوات البشرية (anthropophony) وهي الطاغية على كل النظم البيئية والتي تشمل كل صوت يمكن أن يطلقه الإنسان أو أيٍّ من اختراعاته.

ويقول الباحث البيولوجي، مايكل شيرَرْ لورنزن، أن من النادر جدًا تواجد بقعة لم تصلها تلك الأصوات على كوكبنا، وبأن «الأصوات [في الطبيعة] تختفي ببطء ودون أن نحس بها، مع التفكك المتزايد للمواطن الطبيعية، كما تنقرض فصائل من الكائنات الحية في مقابل توسع المشهد العمراني.» 

التغير المناخي وصخب الذوبان

يفضل الباحث من أكاديمية جوم ألميرا لعلوم الأرض، جوردي دياز، استخدام جهاز الاهتزازات الأرضية لغير الغرض الذي اخترع له. فمثلًا استخدم هذا الجهاز لقياس الضوضاء التي أصدرتها الجماهير، حين أحرز لينويل ميسي الهدف السادس في مرمى خصمه في مسقط رأس فريقه عام 2017، حيث تدلنا نتائج دياز بأن المدينة «اهتزت فعليًا». 

كانت بداية هذا الشغف قبل سنوات من هذا الحدث، حين قرر دياز الانتقال من رصد الأصوات الطبيعية من خلال جهاز الاهتزازات حتى قياس الأثر الأنثروبوفوني في البيئات البحرية. فبعد سماعه صوتًا غريبًا يصدره نهر آرغون، قرر دياز وزملاؤه «تعقب سيمفونية الثلج [حين] تتطابق بعض الأهزوجات الاهتزازية مع بعض فترات الذوبان.» و صارت هذه الطريقة شائعة خلال العقود القليلة الماضية لدراسة أثر التغير المناخي في المسطحات المائية. 

في عام 2015، أظهرت دراسة أن أعلى الأصوات إزعاجًا في المحيطات صادرةٌ عن ذوبان الثلج. وكان  أول استخدام لهذه التكنولوجيا (جهاز استراق السمع في المحيطات) -إبان الحرب الباردة عام 1958 من البحرية الأميركية- قد أظهر أن أصوات الحيتان هي أعلى الأصوات في المحيط

أما اليوم، فتشير الدراسات إلى أن الحيتان قرب القطب الجنوبي صارت تغني بنبرات أعمق، حتى تتمكن من إيصال صوتها عبر ضوضاء ذوبان الجليد. 

ليس هذا فحسب، بل إن صخب الذوبان أغرق صوت فرقعات كلاَّبتي الروبيان، والتي كانت تعد من أعلى الأصوات المسموعة بعد الحيتان  وتستخدمها هذه الكائنات البحرية لتفاجئ فريستها أو لإخافة ضواري البحر. ويعني إغراق هذا الصوت إبطال فائدته التواصلية، وقد ارتأت دراسة حديثة بأن هذا سيؤدي إلى صمت الروبيان كليًّا. 

التغير المناخي يكسر حديث الأشجار

في عام 1988، حمل عالم البيئة الصوتية، بيرني كراوس، معداته ليسجل في مروج لينكلن بين جبال سييرا نيفادا في سان فرانسيسكو.

ثم عاد في العام الذي يليه بعد قدوم شركة متخصصة في قطع الأشجار وإقناع السكان المحليين ألا ضرر بيئي سيقع على الطبيعة هناك إن مارسوا نشاطهم فيها، فالطريقة الحديثة التي يستخدمونها -التقطيع الانتقائي- ستضمن سلامة البيئة في المنطقة. لكن كرواس لاحظ أن الصوت تغير كثيرًا، وذلك بسبب تبدل واضح في التنوع الحيوي هناك. 

إن ما حصل على المستوى الفيزيائي هو أن التغير الكبير الذي طرأ على الكثافة النباتية أدى إلى تغير في خصائص الارتداد الصوتي للمكان، والذي يخل بالتوازن ما بين السطوح الممتصة للصوت كأوراق الأشجار وتلك العاكسة للأصوات كالصخور.

جهاز قياس الأصوات / Tony Luong

قد يُصعب هذا الخلل من عملية انتقال نداءات الحيوانات بين بعضها، كما قد تجد الضواري صعوبة في وجود فرائسها. وهذا ما قد يدفع تلك الحيوانات إلى الهجرة من مساكنها الأصلية، حتى وإن كانت توفر الغذاء والمأوى لها، لأن الخصائص الصوتية مهمة لأي بيئة تسعى لنجاة ساكينها. 

ولكن ماذا لو قررت هذه الأشجار أن تخاطبنا؟ كيف سيكون صوتها؟ قد لا تكون لتلك الأشجار المقدرة على التواصل اللفظي فيما بينها وحتما ليس معنا، لكن منها من يأِنُ ليخبر عن عطشه خلال فترات الجفاف.

هذا ما حصل مع مجموعة علماء فرنسيين تنصتوا  من خلال أجهزتهم المتخصصة على الأشجار التي كانوا يعلمون مسبقًا أنها تصدر أصواتًا مختلفة.

فحين لا يبقى من الماء داخل جذعها إلا ما يغطي القاع، يزداد الضغط فتنكسر قنوات الماء، مدخلة الهواء الذي يكوّن فقاعات على سطح الماء في قنواته. وإذا كانت الأشجار تطلق هذه الأصوات حين ترزح تحت وطأة الجفاف، فإن غيرها قد لا يكون بنفس تلك المناعة.

النجاة بين الغابة الطبيعية والغابة العمرانية

ولأن الزحف العمراني يبعثر المساكن الطبيعية في طريقه، فإن كثيرًا من الحيوانات حولنا تحاول التأقلم مع هذه التغيرات. إذ لوحظ مثلاً في ملفات صوتية سجلت بين عامي 2002 و2003 أن طيور القرقف الكبير في مدن أوربية كبرى تميل إلى الزقزقة بصوت أعلى وبشكل أقصر وأسرع مقارنة بأصواتها في الغابة.

وحتى في تلك المساكن الطبيعية المتفرقة، وُجد أن ضوضاء الإنسان وصلت هناك. حيث تشترك بحيرة مونو بكاليفورنيا في أنها الوجهة المفضلة لمجموعتين من الكائنات الحية: الضفادع وطيارو البحرية الأميركية، فالأولى تقصدها للسكنى، والثانية لتدريب الطيارين.

حيث يطير المتدربون هناك على مسافات قريبة من حوض البحيرة وبسرعة تصل إلى 1100 كيلو متر في الساعة. وقبل أن تبلغ هذه الطائرات سطح البحيرة، يُسمع نقيق الضفادع بتزامن وانسجام تام، حتى إذا ما مرت طائرة أغرقت صوت جوقة الضفادع وبعثر انسجامها، فتحتاج بعدها نحو خمسٍ وأربعين دقيقة للَملمة صفوفها.

أوركيسترا الطبيعة الكبرى

اهتم جزء من عمل كراوس وزملاؤه في الميدان بتعريف الناس بأصوات الطبيعة من خلال تداولها بين الناس أو تمريرها لموسيقيين، صاروا يُعرفون بهذا النوع من الموسيقى المسماة موسيقى «العصر الجديد» (New Age).

ومن أصوات الطبيعة التي انتشرت في السوق الموسيقي العالمي صوت الحيتان، وهي أشهر أصوات الطبيعة التي يعرفها الناس اليوم بسبب موسيقاها التي تتسم بالتعقيد، حتى صارت «أنجح أغاني الطبيعة». كل هذا كان ضمن حملة لتوعية الناس بما يدور حولهم في عوالم الطبيعة التي لا نفقه أصواتها. 

يقول كراوس: «صورة واحدة تساوي ألف كلمة، لكن صوتًا طبيعيًا واحدًا يساوي ألف صورة». ويمكننا القول بأن جهود العلماء في هذا المجال لم تذهب كلها سدى، ففي دراسة ظهرت عام 2016، نجح علماء في مشروع إعادة إحياءٍ غابة مانقروف في فلوريدا في استعادة المشهد الصوتي الطبيعي خلال ثلاث أعوام

في نهاية رحلتها البحثية، تقرر پان أن تفعل ما كان كراوس يفعله منذ ستينيات القرن الماضي: أن تذيع هذا الصوت لعالمها الذي لا يعرف عنه شيء، لأنها -ككرواس تمامًا- أرادت إذاعة القصة الكاملة من خلال صوتها، فكل الأصوات تخبرنا قصة عن مكانها، وجزء من قصة تغير الأصوات في الطبيعة هو التغير المناخي، لذا يبدو أننا كبشر نتشارك في بطولة هذه القصة. 

الأرضالأشجارالتغيير المناخيالطبيعةالسلطةالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية