لماذا لا نسمّي محلاتنا بلغتنا؟
إن استخدام الأسماء الأجنبية للمحلات التجارية يشكّل خطرًا حقيقيًا على هويتنا السعودية وثقافتنا العربية.
نواف البيضاني
شهدنا في السنوات الأخيرة ظاهرة انتشرت انتشار النار في الهشيم، فكثير من أسماء المحلات والعلامات التجارية أصبحت أعجمية بحتة. وأنا هنا لا أتكلم عن محلات أجنبية قد تفرض علينا أسماءها الأجنبية تحت ذريعة حقوق الملكية الفكرية، بل عن محلات أسسها رجال ورواد أعمال من أبناء جلدتنا.
ستجد بيننا من يرى في ذلك انفتاحًا على الثقافات الأخرى وجذبًا للسياح، وقد يكون هذا التوجه بريئًا، إلا أنه يحمل في طياته خطرًا حقيقيًّا يهدد هويتنا السعودية وثقافتنا العربية.
فاستخدام الأسماء الأجنبية في تسمية المحلات والعلامات التجارية يسهم في تراجع استخدام اللغة العربية، لغة الضاد التي نفخر بها، والتي كُتبت بها أمجادنا، ودُوّن بحروفها تاريخنا، وجسدت بكلماتها آمالنا وآلامنا، ونعبّر بمترادفاتها عن مكنونات أنفسنا، ودقائق مشاعرنا.
فبدلًا من أن نرى أسماءً مثل «مُدام» أو «كَيف» أو «غانية» أو «بهاء» أو «إمداد»؛ نجد أنفسنا أمام أسماء مثل «La Boutique» أو «The Corner» أو «Ratio» أو غيرها من أسماء أعجمية استُجلبت من شتى بقاع الأرض، ومن كافة لغات البشر، وكأننا قلب حانٍ لا يفرق بين قريب وغريب. وهي أسماء لا يربطنا بها رابط ثقافي محلي، ولا تقع دلالتها موقعًا في النفس يفوق مواقع كلمات عربية شُحنت دلالة يمكن أن تحل محلها، فتزيد المحل التجاري أو العلامة التجارية رونقًا وبهاءً وقربًا من أنفسنا.
هذا التراجع في استخدام اللغة العربية يضعف ارتباط الأجيال الجديدة بلغتهم الأم، ويؤثر سلبًا على هويتهم الثقافية. والمقلق حقًّا أن استخدام هذه الأسماء الأجنبية يعزز الشعور بالغربة والاغتراب عن ثقافتنا وتراثنا. فالمحلات التجارية بأسمائها الأجنبية تبدو كجزر منعزلة عن محيطها الثقافي، وكأنها تنتمي إلى عالم آخر. وهذا الشعور بالغربة يضعف الانتماء الوطني، ويجعلنا أكثر عرضة لتأثير الثقافات الأخرى.
وهذه الأجيال المغلوبة على أمرها التي ستنشأ معتادة على هذه العجمة، وهذه الغربة في الأسماء، لن تلبث أن تتعايش مع هذا البؤس اللغوي، وهذه المأساة في الهُوّيّة. وكفى بهذا الاحتمال من خطر داهمٍ لا بد أن نستعد لتبعاته إن لم نتخذ قرارات حاسمة تحمي هويتنا الوطنية، وهُوّيّتنا اللغوية، وخصوصيتنا الثقافية المتميزة.
ومما هو معلوم بالضرورة أن الأسماء والعلامات التجارية تمثل جزءًا لا يتجزأ من هوية أي مجتمع، فهي تعكس تاريخه وتراثه وقيمه وعاداته. فعندما يذكر اسم «ڤرساتشي» (Versace)؛ تتبادر إلى الذهن الفخامة الإيطالية، والأجواء الميلانية، وكل ما يحتمل هذا الاسم من حمولات ثقافية وسياسية واقتصادية.
وإن طَرَق أسماعنا اسم «مون بلان» (Mont Blanc) -والنون في هاتين الكلمتين نون غنة لا تكاد تُسمع- تمرّ في خواطرنا الأجواء الفرنسية و«الشياكة» الباريسية، مع كل حمولاتها.
وهذا إن دل، دلّ على أن للأسماء سطوة، ولبناء العلامات التجارية تأثير ثقافي واجتماعي وسياسي واقتصادي يجب ألا نغفل عنه. ونحن حين نستبدل أسماءنا العربية الأصيلة بأسماء أجنبية، فإننا نفقد جزءًا من هويتنا ونصبح أكثر عرضة للذوبان في الثقافات الأخرى.
بل عندما يرى المستهلك أسماءً أعجمية في كل مكان، فإنك لا شعوريًّا تربط هذه الأسماء بالحداثة والتطور واللذة وجودة الحياة، فيتسلل إلى روعك ولبك أن في أسمائنا العربية علة ما؛ فهي قديمة ومتخلفة ومستهلكة، ولا علاقة لها بالرقي والرفاهية.
وعندما تناقش بعض ملّاك المحلات والعلامات التجارية المحلية التي تحمل أسماءً أجنبية، فستجد أن تبريراتهم لا تخرج عن خمسة أسباب كما ورد في دراسة قيّمة للدكتورة ريما الجرف، أستاذة اللغة الإنقليزية ودراسات الترجمة، بعنوان: «هيمنة الأسماء الأجنبية على الأسماء العربية في أسماء المحلات في المملكة العربية السعودية: مسائل ترويجية اجتماعية ثقافية وعولمية».
وقبل أن أذكر هذه المبررات الخمسة، لعلّي أشير إلى حجم المأساة التي تعيشها لغتنا. فهذه دراسة قيّمة عن خطر هذا التوجه على لغتنا وهويتنا، ولكنه نُشر بلغة أجنبية. والدكتورة معذورة من حيث أن تخصصها في هذه اللغة ولست هنا لائمًا لها، ولكن أود أن أبين وضعًا مقلقًا نعيشه.
وأما مبرراتهم فقسمتها الدكتورة إلى خمسة مبررات أو خمسة عوامل كما سمتها:
العامل الأول، وصفته بالعوامل الترويجية. فبعض من يتبنى الاسم الأجنبي يرى أنه أداة ترويجية ناجعة، وفيه دلالة على الرقي والتمدن والانفتاح، والانتماء إلى الطبقة الراقية، وأنها فوق ذلك، جاذبة للعربي وغير العربي. رغم أن أسماء الماركات الإيطالية والبرتغالية واليابانية قد اكتسبت هذه الانطباعات وهي لم تستخدم اسمًا أجنبيًّا!
أما العامل الثاني، فقد أشار إليه بعض المستجوَبين، وهو أنهم يعتقدون أن الاسم الإنقليزي يحمل صدى أكثر روعة. فثقافتنا -بحسب زعمهم- تنظر إلى الإنقليزية على أنها أكثر تطورًا وأناقة، وتهبُ العملاءَ صورة إيجابية ومكانة اجتماعية عالية. ويعدّ بعضهم استخدام اسم أجنبي من الإنقليزية و/أو الفرنسية يعطي طابعًا من الهيبة والجاذبية. ويشعر بعض المشاركين بأن الإنقليزية و/أو الفرنسية لها مكانة أعلى من العربية، حيث تُعدّ الإنقليزية لغة مشتركة وعالمية. وليس واصفًا لعقدة النقص أكثر من الاعتقاد بهذا العامل.
أما العامل الثالث، فقد أسمته الباحثة العامل اللغوي. إذ أشار المشاركون إلى أن بعض الأسماء الأجنبية تتميز بالاختصار والإيجاز، بينما يحتاج نظيرها في العربية إلى تفسير طويل، كما هو الحال في (Tele-Money) الذي يتطلب تعريبًا مكافئًا. كما أن ملّاك المحلات والعاملين ليس لهم كبير معرفة بإيجاد مرادف عربي مناسب، ولذا، فهم يعجزون عن ترجمة الاسم الأجنبي. وأشار بعض المشاركين أن ترجمة اسم المحل الأجنبي -خصوصًا المحلات ذات الامتيازات الدولية- إلى العربية ستشكل حاجزًا بين العملاء والشركة الأجنبية، حيث أن الاسم الأصلي إنقليزي.
وفي هذا المبرر بيان لوضع لغوي مقلق، وإن كانت الحلول متيسرة، وترجمة الأسماء ليست مشكلة لا حل لها، فلا مانع من أن نوجد اسمًا محليًّا ونقرنه بالاسم الأجنبي في الحالات العصية، على ألّا يعلو الاسمُ الأجنبي الاسمَ العربي أو يطغى عليه. وأما أسماء الامتياز فيمكن أن نعاملها معاملة أسماء العَلَم، فتخضع للذائقة الصوتية العربية قدر المستطاع.
وأما التبرير الرابع، فقد أسمته الدكتورة عامل العولمة. وفيه زعموا أن العولمة هي التي أجبرتهم على تفضيل الأسماء الأجنبية على العربية. ولم يُخفِ العديد من أصحاب المحلات حبهم لتقليد الغرب. فهم معجبون بالثقافة الغربية، ويعدون الإنقليزية لغة عالمية، وأن أسماء المحلات الإنقليزية شائعة في العديد من الدول حول العالم، خاصة العلامات التجارية الدولية ذات الامتياز.
والعولمة مبرر ضعيف، فالعولمة تغيرت واكتشف الجميع أنه لا يمكن فرض ثقافة واحدة أو توجه واحد، بل أصبحت الدول الصناعية تعترف أنها رغم سيطرتها صناعيًّا لا تزال تعتمد -على الأقل جزئيًّا- على الثقافات الأخرى في تحصيل الطعام. وأنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الآخرين في الطاقة والموارد المعدنية، ونحن أبرز هؤلاء الآخرين بطبيعة الحال. فلماذا نتحجج بمثل هذه الحجج؟
ولا مانع أن نحب ثقافة ما، ولكن المصيبة أن تطغى تلك الثقافة على ثقافتنا المحلية ولغتنا الوطنية. أليس لنا في الصين مثالًا ينقض هذه الحجج؟ فـ(Starbucks) عندهم اسمه (星巴克 xīng bā kè)، ونطقه قريب من «شن با كه»! واسم (McDonald’s) عندهم (麦当劳 – mài dāng láo)، ونطقه قريب من «ماي دان لاو»! فكيف قتلت لغتُهم العولمةَ، وكيف قتلت العولمةُ لغتَنا العريقة؟
وأما التبرير الخامس والأخير، فهو العامل الذي سمته الدكتورة غياب سياسة تنظيمية للغة الأسماء التجارية. والحقيقة أننا لدينا تنظيم ممتاز، ودعني أيها القارئ الحصيف أنقل لك مادته الثالثة:
يجب أن يتكوّن الاسم التجاري من ألفاظ عربية أو معربة، وألا يشتمل على كلمات أجنبية. ويُستثنى من هذا الحكم أسماء الشركات الأجنبية المسجلة في الخارج، والشركات ذات الأسماء العالمية المشهورة، والشركات ذات رأس المال المشترك (المختلطة) التي يصدر بتحديدها قرار من وزير التجارة.
وأظننا بحاجة لأن نفعّل هذا النظام، ونراجعه بطريقة تضمن هيمنة لغتنا على اللغات الأجنبية، بنحوٍ يضمن لهُوّيّتنا السعودية العربية أن تكون المتصدرة دومًا.
وجدير بالذكر أن هذه الدراسة شملت أسماء 500 محل تجاري في دليل أحد المجمعات التجارية في مدينة الرياض، وكانت النتائج كالتالي: 24% من أسماء هذه المحلات تحمل أسماءً عربية قحّة، و12% منها ذات أسماء هجينة (عربية أجنبية)، والصادم أن 64% منها ذات أسماء أجنبية، تشكل أسماء العلامات التجارية العالمية ذات الامتياز 25% فقط، بينما 39% منها علامات محلية أجنبية الاسم!
أخشى ما أخشاه أننا إن تهاونا في هذا الشأن، فسيؤثر ذلك سلبًا على الأجيال الصاعدة؛ إذ سينشأ الأطفال والشباب على قيم وثقافة غربية، ويتخلّون عن لغتهم العربية وهوياتهم العربية الأصيلة. كما أن استخدام الأسماء الأجنبية للمحلات التجارية يضعف من مكانة اللغة العربية، ويجعلها لغة ثانوية في بلادها.
ولا بد أن نعي جميعًا أن الحفاظ على هويتنا العربية وثقافتنا الأصيلة مسؤولية الجميع. كما يتعين على الجهات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني العمل معًا للحد من استخدام الأسماء الأجنبية للمحلات التجارية، وتشجيع استخدام الأسماء العربية الأصيلة.
وأعيد ذكر حقيقة لا بد أن نعيها، وهي إن استخدام الأسماء الأجنبية للمحلات التجارية يشكّل خطرًا حقيقيًّا على هُويتنا السعودية وثقافتنا العربية واقتصادنا. ولذلك، يجب علينا أن نتعاون جميعًا: مواطنين ورجال أعمال ورواد أعمال وجهات حكومية، وأن نعمل على تعزيز استخدام اللغة العربية في حياتنا اليومية، وأن ندعم المحلات التجارية التي تحمل أسماءً عربية أصيلة تعكس ثقافتنا وتراثنا. فاستخدام الأسماء العربية الأصيلة للمحلات التجارية ليس مجرد مسألة شكلية، بل واجب وطني وأخلاقي.
فاصل ⏸️
فقرة حصريّة
اشترك الآن
فاصل ⏸️
يناقش مازن العتيبي في مقالته «لا أفهمك: ضائع في الترجمة» تحديًا ثقافيًّا معاصرًا للغة العربية ومتحدثيها، وهو ببساطة، الترجمة. إذ لا تقف الترجمة عند نقل العبارات، بل تمتد إلى نقل الأفكار والمبادئ بين الثقافات، وتكوّن فارقًا في القيم والمبادئ بين أجيال الثقافة الواحدة. يُبرز مازن كذلك الفروقات بين التطوّر الطبيعي للغات، مقابل تطوّرها المتسارع بسبب العولمة.
التشهير قبل حكم القضاء فوضى وجريمة
في آخر حلقة من بودكاست الصفحة الأخيرة، ناقشت أحمد العطاس حول مقالته «التشهير قبل حكم القضاء فوضى وجريمة» في نشرة الصفحة الأخيرة.
استعرض أحمد موقفه أوّل ما قرأ في إكس عن الحالة المتداولة حديثًا، عندما شهّر طفل بمعلميْن، زاعمًا أنهما تحرشا به جنسيًّا، قبل أن تنفي التحقيقات الرسمية صحّة مزاعمه، حيث يؤكد أحمد على تجريم التشهير قبل إصدار حكم قضائي به، وإلا سيكون الأمر -كما يقول- أشبه بتوزيع أسلحة على الناس.
ناقشنا أيضًا رأيه القائل بعدم استحقاق التشهير «بالضرورة» لكل مدانٍ، وإن كان معتديًا جنسيًّا، ونقده لانجرار العموم نحو المطالبة بإيقاع هذه العقوبة على مختلف الجنايات، وإن صغرت.
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.