هل يكره دوستويفسكي آنا كارنينا؟ 🤨
يصوّر دوستويفسكي نساءه، جزء من مصير أكبر.
هل يكره دوستويفسكي آنا كارنينا؟
شبح دوستويفسكي
شاهدت مؤخرًا فِلمًا شعريًّا للمخرج الأمريكي ذو الأصول الآشورية، تيرنس ماليك، بعنوان «To The Wonder». أستخدم كلمة «شعري» بدقة، لأن الفلم ليس سوى قصيدة تتدفق بالعاطفة والشك والمحاولات في العلاقة. منذ المشاهد الأولى شعرت بألفة غريبة تجاه الفلم ومخرجه -وهو أيضًا كاتب القصة والسيناريو- وتجاهلت الحوار شبه الغائب في الفِلم، حيث منح المخرج أبطاله حرية التداعي في مونولوجات أشبه بقصائد الهايكو. هذه الألفة تقترب من القراءة، خاصة قراءاتي لأعمال دستويفسكي.
تحوم حول مشاهد الفِلم ظلال أبطال دستويفسكي، رجالاً و نساءً، مما دفعني للبحث عن خلفية تيرنس، لأجد وثائقيًّا يكشف كواليس صناعة فِلمه، ولم أفاجأ عندما علمت أن المخرج أوصى الممثلين بقراءة الأدب. تقول البطلة أولقا كوريلنكو أن ترينس اقترح عليها قراءة «آنا كارنينا» و«الإخوة كارامازوف»، لكنه أصرّ بشدة على قراءة رواية «الأبله»، والتركيز على شخصيتيّ «ناستاسيا فيليبوفنا» و«أقاليا إيفانوفا». وتوضح أولقا رغبته تلك قائلة: «أراد أن أجمع بين جانبيهما المتناقضين: الرومانسية والوقاحة، لسبب ما لن ترى هذا المزيج إلا في الملامح الروسية». وقد نجحت أولقا في تحقيق هذا المزيج المتناقض بمساعدة ملامحها الأوكرانية، وهذا ما أكّده بروست أيضًا على لسان بطله في «البحث عن الزمن المفقود» حين وصف «ناستاسيا»: «بوجهها الغامض الذي ينقلب جماله الجذاب فجأة».
وجدت الفِلم بفضل شعريته بمثابة استعارة مربكة لمعضلة الحب -بكل أنواعه- سواء الذي يجمع بين البشر، أو الذي يربط العبد بالإله. وما يثير اهتمامي هنا الإلهام الأنثوي لدى نساء دوستويفسكي في تفكيك معضلة الحب، أو بالأحرى معضلة الإنسان.
قد نعتقد أن روايات دوستويفسكي تدور في فلك الحب، لكننا نفاجأ بأن قصص الحب لديه غالبًا ما تكون مأساوية، ولا تفضي إلى الزواج. أو نجدها تصف شغفًا واضحًا يجمع روحان في ذات متسامية، الحب لدى دوستويفسكي يحمل غموضًا وتوتّرًا ودمارًا ذاتيًّا.
لم يكن الحب غاية في حد ذاته أو موضوعًا أصيلًا يسعى إلى التنظير حول أساسياته وبلوغ جوهره، بل كان جسرًا يعبره البطل نحو مصيره وقدره الحتمي. لن نرَ في رواياته شخصيات نسائية مستقلة، بل كلهنّ خاضعات لهذه الروح الذكورية التي تُجلد بسياط الغواية، وتسعى نحو الخلاص. لهذا، غالبًا تُجسَّد المرأة في علاقتها بالبطل في صورتين: الغواية والخلاص.
الغواية
تسيطر على فكر دوستويفسكي فكرة التعدد والازدواجية التي تتسم بالتناقض: الشر والخير، الشغف والشفقة، الضمير والجريمة، الجسد والروح. هذه الثنائيات تمزّق أبطاله وتدفعهم إلى صراعات جوانية، تتجلّى أحيانًا في الحب كمرآةٍ تعكس هذا التشظّي.
يُثقل البطل مشاعره بهذه الثنائيات إلى حد التطرف والمغالاة. وما يميّز دوستويفسكي عن غيره من الكتاب الذين تناولوا التناقض البشري -كما يوضح أندريه جيد في كتابه «دوستويفسكي»- هو تقديم الشخصية وهي في طور تكوين وعيها الذاتي. فنعاين تقلباتها ونشهد تطوراتها، ويكشف لنا الكاتب علانيةً هذه العملية من خلال مونولوج الأبطال أو وصف من يعاشرهم.
تراءى لـراسكولينكوف فجأة أنه يمقت سونيا، أذهله هذا الاكتشاف الغريب، فرفع رأسه وتفحّص الفتاة مليا، فتوارى البغض من حينه، لم يكن الأمر كذلك، لقد أخطأ في تقدير طبيعة شعوره.
يغمر ذاتي شعوران متضاربان، وذلك يتم تلقائيًّا دونما تكلّف.
فرسيلوف في «المراهق»
تنتابني رغبة في عمل الخير، فأجد في ذلك متعة، ثم أرغب في عمل الشر، فأشعر كذلك بالاكتفاء.
ستافروقين في «الشياطين»
نكاد نقول أن ذاته يتوزعها حقًّا مزاجان متناقضان، يتناوبان على الظهور.
دميتري رازوميخين صديق راسكولينكوف في «الجريمة والعقاب»
لهذا يأتي الحب ضربًا من العنف والجنون، حيث يبقى العاشقان منفصلان، يعذّب بعضهما بعضًا. يتورط الرجل في حبٍّ لا يستطيع السيطرة عليه، ولا يفهم المرأة المعشوقة، ويعجز عن بلوغ سرّها، فهي ليست سوى انعكاس لثورته الداخلية وتناقضاته المستمرة. لا توجد خارجه، هي ضلعه الأعوج الذي يكره ويحب، يرنو إليه و يدفعه عنه، وقد يحدث أن يغتاله كما اغتال «روقوجين» عشيقته «ناستاسيا» في «الأبله».
ينعكس على المرأة هذا التناقض وتتصرف وفقه، تنتابها حالات قلق مستمر، تدفعها في أحوال عدة إلى القيام بأفعال لا نستطيع تفسيرها. يزيد من تعقيد هذه الازدواجية أن دوستويفسكي لا يكتفي بامرأة واحدة، بل يخلق ثنائية متحركة من خلال تناحر امرأتين، «ناستاسيا فيليبوفنا» و«أقاليا» في «الأبله»، «قروشينكا» و«كاترين إيفانوفا» في «الإخوة كارامازوف» على سبيل المثال.
استلهم دوستويفسكي ملامح شخصياته النسائية من النساء اللواتي عاشرهنّ، وعاش معهن حياة مضطربة تتسم أحيانًا بالعنف وسوء الفهم. فزوجته الأولى مارينا، التي عانت من المرض والجنون، عذبته بشكوكها وغيرتها، أو بما وصفه في إحدى رسائله: «بطبعها المرضي العجيب». أما آنا كورفين كروكوفسكايا، فقد كانت ندًّا له، تمتهن الكتابة، وتناقشه في القضايا الثقافية، وآذته في مثاله الأسمى بوشكين، وهذا ما جرح كبرياءه، وما زاد الجرح غورًا رفضها الزواج به إيمانًا منها أن الزواج هو مقصلة حلمها بالإبداع. ولعلها أوجزت المأساة حين كتبت أن «السعادة في أوضح صورها، والحب في أعلى درجاته حميةً، ينتهيان بالموت».
ولو نظرنا إلى الهستيريا التي تميز شخصياته، فهي نابعة من ذات المحبوبة المثقفة سوسلوفا، الجامحة ذات الأحكام المتطرفة، التي يصفها دوستويفسكي بأنها كائن أتى من الجحيم يرتكب جريمة بدم بارد و يسعى دائمًا للانتقام.
الخلاص
إذا كانت المرأة لدى دوستويفسكي تمثل انعكاسًا لصراعاته الداخلية، فهي أيضًا تأتي لتخليصه من هذه الصراعات. يرسم الكاتب شخصياته المنقذة في صورة ملائكية مقدسة، لكنها لا تخلو بدورها من تناقض، مثل شخصية «سونيا» في «الجريمة والعقاب»، التي قدّمت تضحيات كبيرة لإنقاذ أسرتها، وهي من شجعت «راسكولينكوف» على الاعتراف بجريمته والمثول أمام القضاء، كما شجعته على العودة إلى الله وقراءة الكتاب المقدس، ورافقته إلى سيبيريا بعد اعتقاله، وهناك شهدت ولادته الجديدة.
في إحدى المشاهد المؤثرة، التي تذكرني بلوحة هانز أدولف بولر «العودة إلى الديار»، ينهار «راسكولينكوف» بين قدمي «سونيا» في سيبيريا الباردة، يبكي ويضم ركبتيها إلى صدره. في هذه اللحظة يظهر الخلاص في أبلغ تجلياته، بعد اللآلام التي كابدها، التي كانت في معظمها نتيجة عناده في الاعتراف بالخطيئة. ينهار وقد عاين تجلّي «سونيا» القديسة، وجميع المعتقلين ينادونها بإجلال: «"ماتيوشكا"، "سونيا سيميونوفنا"، أنتِ أمّنا الحنون الرؤوف.»
وجد «ديمتري كارامازوف» بدوره هذا الخلاص بين يدي «قروشينقا» التي هرعت إلى مساندته أثناء محاكمته بجريمة لم يرتكبها. وتتمتع الأخوات لدى دوستويفسكي بهذه المثالية، مثل شخصية «دونيا» شقيقة «راسكولينكوف»، الفتاة المتدينة المستعدة للتضحية بنفسها من أجل عائلتها. ونلمسها في شخصية «ليزا» التي تعاند الراوي في «مذكرات قبو»، وتقابل رفضه الدائم بسماحة، دون أن تخضع له، أو تكون ضحية معاناته المستمرة. يرى دوستويفسكي أن المرأة -الإنجيلية خاصة- تمتلك معايير الإنقاذ والطيبة والرحمة، مما يمنحها القدرة على تخليص البشرية من انحطاطها الآثم في عالم مادي بلا روح.
ولا يخفى على القارئ أن ملامح هذه المرأة المنقذة استلهمها دوستويفسكي -على عكس البقية ممن عرفهنّ في حياته- من زوجته الأخيرة آنا قريقوريفنا، التي نجحت في توفير بيئة آمنة للكاتب، بعيدةً عن الاضطرابات والانهيارات. وقد استوعبت مزاجيته المتقلبة، وساعدته على إتمام مشروعه الأدبي، وتحمّلت عيوبه الكثيرة، وعلى رأسها إدمانه القمار.
«آنا، لن تكوني بطلتي»
هكذا يصور دوستويفسكي نساءه، جزء من مصير أكبر، حيث تكون تصرفاتهنّ وأفكارهنّ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمصائر شخصياته الذكورية.
من ثم نستطيع التخمين أنّ «آنا كارنينا» بطلة تولستوي يستحيل أن تخضع لمعايير الشخصية الأنثوية الدوستويفسكية، لأنها تملك كيانها المستقل. فقد منحها تولستوي كل الفرصة كي تشرح نفسها، وهذا ما كان يمنعه دوستويفسكي عن بطلاته، وما يفسر تصرفاتهنّ التي تخلو من المنطق، فهن لسن سوى محطات فارقة في وجود البطل. بينما لدى تولستوي فقد خطت «آنا كارنينا» مصيرها بنفسها، غير عابئة بمصائر غيرها. والمفارقة أن نساء دوستويفسكي، بكل حمولتهن القدرية، تسري عليهن جملة تولستوي الشهيرة -مع قليل من التصرّف- التي استهل بها رواية «آنا كارنينا»:
كل النساء السعيدات تتشابهن، لكن لكل امرأة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة.
تنطلق في السادس من نوفمبر فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والأربعين، ويمتد من 6 نوفمبر 2024 إلى تاريخ 17 من الشهر نفسه. ويضم المعرض مشاركة واسعة من أكثر من 2,000 ناشر. وتحل المملكة المغربية ضيف شرف على المعرض، حيث يمثّل هذا التعاون ثمرة العلاقات الوطيدة والتقارب الثقافي بين البلدين.
تكريم الكاتبة والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي لتكون شخصية العام الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب؛ تقديرًا لجهودها ومنجزاتها في مجال الرواية العربية. تعدّ أحلام مستغانمي من أبرز روّاد الأدب العربي المعاصر، وتميزت رواياتها بالعمق الاجتماعي، والبعد القومي العربي.
يصدر قريبًا عن «Ballantine Books» في نيويورك رواية الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي «اسمي إميليا دِل فالي» (My Name is Emilia Del Valle). تقع أحداث الرواية في القرن التاسع عشر، حيث تسافر «إميليا» من سان فرانسيسكو إلى سانتياقو لتغطية أحداث الحرب الأهلية في تشيلي، فتلتقي بوالدها الأرسقراطي المنفي، فتتعمّق في المواجهة العنيفة في البلد الذي تكمن فيه جذورها.
صنفت هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» أفضل 100 رواية عالميّة حسب الترتيب الزمني، منذ صدور رواية «دون كيخوته» لثربانتس، لغاية رواية «حكاية أمريكية» لفليب روث.
توصيات النشرة من رغد العليان:
دودة الخشب، ليلى مارتينيث
استشهدت صديقتي في واحدة من اللقاءات الأدبية باقتباس من الكتاب، يقول هذا الاقتباس: «ما يورث في هذا البيت ليس المال، أو الخواتم الذهبية، أو الملاءات المطرّزة التي طُبعت عليها أحرف الأسماء الأولى. ما يتركه الموتى هنا هو الأفرشة والضغينة والسخط ومكان للنوم ليلًا». ومن هنا انطلقت رغبتي في اقتناء الكتاب وقراءته. اعتقدت أنه يتحدث عن العائلة حصرًا، ولكنه تحدث أيضًا عن الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يفقد متعته، بل كان سلسًا عذبًا.
فقرة حصريّة
اشترك الآن
لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.