هل القراءة للكتب فقط 🖼️🎨

القراءة قد تنتهي في النص المكتوب، لكنها تبدأ في مناطق أخرى بعيدة عنه، أو متفاعلة معه بفضل التأثير والتأثر.

من افتتاح معرض كاميل بيسارو / Getty Images
من افتتاح معرض كاميل بيسارو / Getty Images

هل القراءة للكتب فقط

إيمان العزوزي

قبل عدة أشهر، ألقى المصور البحريني حسين المحروس محاضرة ضمن ملتقى إثراء القرائي بعنوان «سرد الفوتوقراف»، تناول المحروس في محاضرته كيفية قراءة الصور الفوتوقرافية وأهمية هذه القراءة، مشجعًا الحضور على تخيل سرديات متنوعة تجود بها الصور التي عرضها أو الصور الشخصية التي نحتفظ بها. انتهت الجلسة وقد تخيل معظمنا قصصًا تتراوح بين الذاتية والموضوعية، مما أثار فضولنا لاستكشاف قراءات أخرى ممكنة للصورة.

هذه التجربة الماتعة أثبتت ما كنت أُومِن به من كون القراءة فعل يتجاوز المكتوب إلى مختلف الوسائط الأخرى، فهي تفاعلية مع ما يحيط بنا، تبدأ منذ اللحظة التي نستيقظ فيها مثقلين بأحلام نحاول استجلاء قصصها العجائبية، مقتفين أثر شخصياتها وأوصافها وحواراتها. ولا تنتهي لحظات القراءة بالعودة ليلًا إلى أسرتنا، حيث نقرأ يومنا، ونقع بين جالد لذاته أو مادح إياها، كل بحسب مسار يومه. وبين اللحظتين تتعد القراءات، قراءة وجوهٍ نصادفها أو أفلام نشاهدها أو لوحات تثير مخيلاتنا.

القراءة إذن قد تنتهي في النص المكتوب، لكنها تبدأ في مناطق أخرى بعيدة عنه، أو متفاعلة معه بفضل التأثير والتأثر. ولعل أبرز مثال على هذا التأثير والتأثر العلاقة المتبادلة التي تجمع الأدب والرسم، وهي فنون تتنافس فيما بينها في فهم النفس البشرية وقراءتها.

من يقرأ قصيدة «فن الشعر» للشاعر والناقد اللاتيني هوراس سيتوقف عند جملته الشهيرة «القصيدة تشبه الصورة» (Ut Pictura Poesis)، يقارن هوراس في معالجته لحرية الإبداع بين الفنون، ليؤكد حقيقة أن قراءة الشعر لا تختلف عن قراءة الصور «اللوحات الفنية»، وبالطريقة نفسها التي نستطيع بها تقييم جودة لوحة ما، يمكننا تقييم جودة القصيدة. ولم يقتصر هوراس على فن التصوير فقط، بل تحدث أيضًا عن فن النحت والموسيقى ليثبت وجهة نظره حول تفاعل الفنون وتجاذب قراءاتها.

اقتبس هوراس حكمته البليغة من الشاعر الغنائي سيمونيديس الذي أنشد: «إن القصيدة هي صورة ناطقة، بينما الصورة هي قصيدة صامتة»، ويتفق ليوناردو دافنشي الرسام الإيطالي مع بلاغة التوصيف، مؤكدًا على البعد الذهني للرسم حين قال: «الرسم هو قصيدة تُرى ولا تُسمع، والشعر هو رسم يُسمع ولا يُرى». هكذا يصبح المتلقي حرًّا في اكتشاف مختلف القراءات باختلاف الفنون، يقرأ ما يُكتب و ما يُنشد من الفنون، ويستنطق الصامت منها. وسأقف عند تجربتين عظيمتين في الأدب والرسم تؤكد على مدى التفاعل بين القراءات في إحداث أثرها العظيم وهو الإبداع.

دستويفسكي قارئًا هانس هولباين

بين أروقة متحف الفن في بازل السويسرية، تستقر واحدة من أشهر لوحات الفنان الألماني هانس هولباين، «المسيح ميّتًا في قبره»، لوحة صادمة أثارت ردود أفعال قوية لدى كل من شاهدها، ومن بينهم فيودور دستويفسكي. زار الكاتب الروسي المتحف صيف 1867 برفقة زوجته آنا جريجوريقنا، متحمسًا لرؤية اللوحة التي سمع عنها الكثير من أحد أصدقائه، في مذكراتها، تصف آنا التأثير العميق الذي أحدثته اللوحة في نفس زوجها. لم تستطع آنا، التي تعاني تبعات الحمل، تحمل ثقل وكآبة اللوحة فانصرفت عنها، بينما بقي فيودور متسمّرًا أمامها ما يقارب الربع ساعة، يقترب منها حينًا، ويعتلي كرسيًّا ويتـأمل تفاصيلها عن قرب، ويبتعد عنها حينًا آخر، فيأخذه جلال المنظر في شرود طويل. لم يخرجه من حاله هذا سوى زوجته، التي أبعدته عن القاعة مسرعة وقد هالها منظر وجهه المضطرب، حيث كاد أن يدخل في إحدى نوبات الصرع التي اشتهر بها.

لقد نزعت اللوحة عن المسيح قداسته التي يؤمن بها المسيحي، وجعلته إنسانًا عاديًّا شأنه شأن الآلاف ممن قُتِّلوا وصُلِّبوا. لم يكن وجهه جميلا كما تُصَّوره مختلف اللوحات الدينية، بل كان وجهًا شاخصًا يواجه الموت كما يواجهه أي إنسان. هذه الحقيقة الصادمة أثرت بعمق في دستويفسكي، وأثارت لديه تساؤلات عبرت عنها شخصياته وأعماله.

خلال زيارته هذه لسويسرا كان دستويفسكي منشغلًا بكتابة رواية «الأبله»، ومن يتأمل شخصية الأمير «ميشكين» سيلاحظ اقترابه من أمثولة المسيح، فهو يتحمل بوداعة أعباء الإنسانية، ويقبل عن طيب خاطر التضحية بنفسه من أجل الآخرين. ومع ذلك نرى في شخصيته ازدواجًا ينحو به نحو الإنسان العادي الذي يرتكب حماقاته المتفردة. 

أشار دستويفسكي صراحة إلى اللوحة في الأبله، وصفها مرة قائلًا: «في هذه اللوحة، الجسد ليس سوى عظم وجلد، والعينان مفتوحتان بصورة رهيبة، لا تريان ولا تعبّران عن شيء. والشعر أشعث، والفم فاغر في جهدٍ أخير للتنفس. على ذراعيه وفخذيه جروح عميقة متورمة، على وجهه آثار تعذيب رهيب، كل هذا يبدو موتًا لا رجعة فيه.» وفي موضع آخر، ذكر ما سبق وأخبر به زوجته آنا حين أكّد بأنّ من شأن هذه اللوحة أن تفقد المرء إيمانه.

حين نتأمل قراءة دستويفسكي للوحة في الأبله نرى أنها تبتعد عن كونها وصفًا دقيقًا للوحة، بل قراءة يظهر أثرها على الشخصيات، ومن ثم تبرّر مواقفها المتشكّكة لدى بعضهم، والعدمية لدى بعضهم الآخر. ولم يشفَ دستويفسكي من أثر هذه اللوحة أبدًا، بل لاحقه تأثيرها إلى آخر أعماله، حيث جسد دستويفسكي قراءته للوحة هولباين كتابةً وهو يصف موت الناسك «زوسيما» إحدى شخصيات «الإخوة كارامازوف».

مونك قارئًا دستويفسكي

في أبريل 2019، أقيم في روسيا معرض لأعمال النرويجي إدفارت مونك، وتهافت الروس على رؤية أعماله التي تُعرض عن قرب لأول مرة. وقد أشار مدير معرض تريتياكوف إلى أن مونك كان يرسم بالطريقة ذاتها التي كان يكتب بها دستويفسكي قائلا: «لقد قلب الروح الإنسانية رأسًا على عقب، وكشف أعماق العواطف التي تمزق الإنسان، فضلًا عن طبيعته المعقّدة». هذه الثيمات هي نفسها التي تميز أعمال دستويفسكي. وقد نشرت صحيفة «Russia Beyond» دراسة تؤكد فيها أن مونك تعرّف على الكاتب الروسي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث كان ينتمي إلى جماعة نرويجية بوهيمية تتبنى الفوضوية، مما جعله يميل إلى أفكار دستويفسكي المترجمة حديثًا -في وقتها- إلى النرويجية.

تأثر مونك بشدة بإحدى قصص دستويفسكي المغمورة -بعنوان «العذبة»- تحكي عن رجل كهل انتحرت زوجته الشابة، تاركة إياه في حالة من الصدمة، فاغر الفاه، يضم خديه بكلتا يديه. هذا الرجل ضيّق الأفق، متواضع الفكر، لم يكن قادرًا على التعامل مع وضعيته الوجودية، وكان قلقه بين فعل الخير والشر، وتردّده سببًا كافيًا لدفع زوجته إلى الانتحار. ربما قرأ مونك في هذا الرجل وجه لوحته الأشهر «الصرخة»، التي تعبّر عن الانفعال المفاجئ في وسطٍ قد شهد للتوّ حدثًا فظيعًا. ومتى قرأنا «العذبة» ووقفنا على مأساة الزوج، خاصة في آخر فصولها، فإننا سنستحضر لوحة «بين الساعة والسرير»، وهي لوحة ذاتية يصور فيها مونك مشهدًا منزليًّا نقرأ من خلاله مأساةً زوجية.

مثل دستويفسكي، يميل مونك إلى التعاطف مع معاناة البشر في مواجهة الجوع والعنف والآلام، وينتصر في لوحاته للأطفال والنساء والفئات المحرومة من حقوقها الطبيعية. على سبيل المثال، لوحته «الطفل المريض»، التي يعيبها بعض نقاد الفن بسبب ما يرونه فيها من نقص فني، ليست سوى ترجمة لمشاعر الفنان تجاه وفاة أخته بسبب مرض السل. ويؤكد كاتب سيرته -رولف ستينرسن- أن مونك كان يعامل لوحاته كما يعامل دستويفسكي شخصياته، حيث يتركها في العراء مدّة ثم يعيدها إلى مرسمه ملطخة بغبار الريح وروث البهائم.

وحسب «Russia Beyond» قد سمى مونك فعلته هذه بـ «علاج الأحصنة»، وهو ما يراه النقاد مستلهمًا من حلم «راسكيلنوف» في «الجريمة والعقاب»، حيث رأى فيه مزارعًا يضرب حصانًا هرمًا، مبررًا همجيته بامتلاكه إياه. ومع ذلك كان الجميع يصفقون له ساخرين، ويشجعونه على الاستمرار. وهي سادية تقترب مما يفعله دستويفسكي بشخصياته الغارقة في مآسيها، فلا يهمه ما يصيبها من ألم أو معاناة ما دامت تقدم وجهة نظره نحو العالم، وهذا ما يشرحه ميخائيل باختين في عمله الرزين «شعرية دستويفسكي».

وقد ذهب مونك بعيدًا في تأثره بالكاتب الروسي، ورسم لنفسه لوحة ذاتية مستوحاة من الطريقة التي رسم بها فيليكس فالوتون لوحة دستويفسكي الشهيرة، كما ظلّ قارئًا مخلصًا لأعمال دستويفسكي إلى آخر أيامه، حيث وُجد بقرب سريره يوم وفاته عمل دستويفسكي الخالد «الشياطين».

هذا النوع من التفاعل المثمر بين الأدب و الفن يعزّز فهمنا للأعمال الفنية والأدبية على حد سواء، حيث يمكننا أثناء قراءة هذه الأعمال أن نكتشف أبعادًا جديدة، ومعانيَ أعمق. القراءة التفاعلية التي أقصدها هي قراءة تراكمية، تمنح صاحبها القدرة على التجوّل عبر مختلف الفنون وقراءتها بما يملك من خبرات سابقة، وهذا في رأيي جوهر القراءة، أن تطوّر ذاتها أمام ما يعترضها من مختلف وسائط المعرفة قديمها وحديثها.


  1. أعلنت جائزة نوبل للآداب عن فوز الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانق بالجائزة عن عام 2024، وذلك لنثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية. تُرجم للكاتبة رواية «النباتية» عن دار التنوير، وهي رواية تحكي عن امرأة تتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى نباتية بسبب حلم رأته دفعها للاشمئزاز من اللحوم.

  2. توّج مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء» القرّاء الفائزين في جوائز مسابقة أقرأ في نسختها التاسعة. حيث حازت العراقية حراء الكرخي على جائزة نص العام، فيما ظفرت القارئة المغربية رغد الكتاني بجائزة القارئ الواعد، وحصدت السعودية صفية الغباري جائزة قارئ الجمهور، وتُوّجت المغربية مريم بوعود بجائزة قارئ العام للعالم العربي.

  3. بدعم من مبادرة «ترجم» التابعة لهيئة الأدب والنشر والترجمة، وبالتعاون مع وكالة كلمات الأدبية السعودية، صدرت عن دار وصحيفة تيرانا تايمز في جمهورية ألبانيا الترجمة الألبانية لرواية «رحلة الفتى النجدي» للأديب يوسف المحيميد، وذلك في سبيل تقديم الأعمال الأدبية السعودية للقراء الألبان، وتقديم الأعمال الألبانية للقراء السعوديين.

  4. توفي المؤرّخ والمفكر اللبناني الدكتور مصطفى حجازي عن عمر يناهز الثامنة والثمانين عامًا. أثرى الراحل المكتبة العربية بعدد من الكتب والدراسات القيّمة في علم النفس الاجتماعي ومن أبرزها: «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، و«الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية».


توصيات النشرة من أمينة الدجران:

  1. توتوتشن: الفتاة الصغيرة عند الشباك، تيتسوكو كورويا ناقي

قودريدز

يرصد الكتاب حياة المؤلفة منذ أن نظر لها الآخرون بنظرة الشفقة، ويعبر بنا إلى خوضها الطويل الذي يصل بها أخيرًا إلى مركز مرموق تنال بسببه الاعتراف والاحترام في الحياة العامة. في هذا الكتاب نتعرف ننظر بعين بريئة وطفولية إلى شكل الحياة في اليابان، ولنهج التربية التي تنتهجه العوائل اليابانية، ودور أسلوبهم التربوي في صقل شخصية أبنائهم وتنمية قدرتهم على مواجهة الحياة.

فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

نشرة إلخ
نشرة إلخ
منثمانيةثمانية

لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.

+110 متابع في آخر 7 أيام