هل استورد العرب مفاهيمهم النفسية من الغرب؟

هل يحق للعرب إنتاج أطرهم المعرفية الخاصة لتفسير ظواهر المعاناة النفسية؟ أم أن هذه المعاناة نتيجة اعتلالات لا تعترف بتأثير الثقافة ويجب تركها للطب والأطباء؟

معاذ العميرين

كانت ظهيرة أيام الخميس في عام 2013 تتميز بالرائحة الحادة للفورمالديهايد. إنه معمل التشريح في كلية الطب والجراحة، وكنا نقضي الساعة الأخيرة من الأسبوع بين الأعضاء البشرية للجثث المشرَّحة!

في تمام الساعة الواحدة ظهرًا، كنا ندخل إلى غرفة التشريح الواسعة بعد التوقيع على الحضور وارتداء الكمامة والقفازات. كانت هناك عدة نَقّالات معدنية مصفوفة بالطول. فوق كل نَقّالة نجد الجثة في حقيبة بيضاء مفتوحة جزئيًّا، وحولها بعض المجسَّمات البلاستيكية الملوّنة على هيئة أعضاء الجسم البشري. وبعد وصولنا، كنا ننقسم إلى مجموعتين عشوائيتين، حيث تلتف كل مجموعة حول إحدى النَقّالات لتتابع الدرس مع الدكتور المخصص لها.

بمرور الأسابيع في السنة الدراسية، بدأنا بملاحظة الفروقات بين معلميّ المادة: هناك دكتور سريع في شرحه؛ لا يسأل، لا يدقّق، وينهي الدرس في حدود النصف ساعة. يقابله دكتور متأنٍّ؛ يسأل كثيرًا، يدقق كثيرًا، ولا ينهي الدرس إلا بعد مضي الساعة كاملةً بدقائِقها الستين. كان للفرق بين أسلوبهما التعليمي أهمية خاصة بالنسبة لنا، حيث كنا نتسابق للوصول إلى مجموعة الدكتور العَجِل كي نتمكن من الخروج مبكرًا نهار الخميس.

وفي يومٍ من الأيام تأخرتُ عن وصولي إلى المعمل، ووجدت الدرس قد بدأ، وأن أغلبية زملائي قد تجمهروا حول دكتورنا المفضل، مما لم يترك لي خيارًا سوى الذهاب مع المجموعة الأخرى المحكوم عليـها بالبقاء طويلًا. انضممت إليـهم وأنا أتصَنَّع الاهتمام والتركيز لأخفي حَرَجي من الوصول متأخرًا. لمحت الدكتور المتأنّي وهو يتكلم عن التركيبة العضلية للذراع، فانحنيت فوق جثة التشريح لأتفحَّص ذراعها الأخرى عن قرب، وإذا بالرائحة الحادة تقتحم أنفي وتدفعني للتراجع إلى الخلف، خطوة وراء خطوة حتى أصبحت على مقربةٍ من المجموعة الثانية عند النَقّالة المجاورة لنا.

حينـها، سمعت الدكتور العَجِل يقول لمجموعته وهو خلفي مباشرةً: يمكننا من هذه الزاوية رؤية «العصب المتوسط» (Median Nerve) يعبر «النفق الرسغي» (Carpal Tunnel).

التقطت هذه المعلومة العشوائية، واحتفظت بها في ذهني دون رؤية ما كان يشير إليه الدكتور!

عدت إلى مكاني لاستكمال الدرس، وبعد ما يقارب العشر دقائق –تخللها العديد من الأسئلة المباغتة والصمت المخجل– رفع الدكتور المتأنّي يد جثة التشريح من معصمها ثم سأل: «ما اسم العصب الذي يعبر من النفق الرسغي؟» أجبته بلا تردد في تلك اللحظة: «العصب المتوسط». ابتسم الدكتور وقال: «هذا صحيح، أحسنت».

لنتوقف هنا قليلًا ولنتمعَّن في المشهد جيدًا. للوهلة الأولى، قد تبدو الحادثة بديهية ولا تستحق الخوض في تفاصيلها، فكل ما فعلته هو تكرار المعلومة ذاتها التي سمعتها من الدكتور الآخر أثناء شرحه الدرس أمام المجموعة الأخرى، لكن المثير للدهشة فعلًا هو تشابه الأجساد البشرية على الرغم من اختلافاتها الظاهرة لنا!

هذا هو الفرق ما بين جثث التشريح والمجسَّمات البلاستيكية الملوّنة، إنها ليست منتجات صناعية تتبع نموذج مُوَحَّد على خط الإنتاج، بل أجساد حقيقية لأشخاص حقيقين عاشوا حياة مختلفة، وخاضوا تجارب متنوعة. هناك الآلاف من الأجساد البشرية في معامل التشريح التابعة لكليات الطب حول العالم، وجميعها مُحمَّلة بذكرى أصحابها المنقوشة على سطح أبدانها: الندبات والحروق والوشوم والأطراف المبتورة.. وغيرها. كل أثر يحمل قصة، وفي كل قصة هناك تفاصيل ستبقى مجهولة بالنسبة لنا. نحن لا نعرف أي شيء عن حياة هؤلاء الموتى، لا نعرف أسماءهم ولا أعمارهم ولا وظائفهم، لكن ما نعرفه بكل دقة أننا لو نظرنا إلى العصب المتوسط لوجدناه يعبر النفق الرسغي عند الجميع!

الأمر ذاته ينطبق على بقية الأعصاب والشرايين والأوردة والعظام والعضلات… إلخ. هذا التشابه في خرائطنا الحيوية يخبرنا أمرًا مهمًا للغاية: نحن البشر نتشارك ذات التركيبة البيولوجية إلى حدٍ كبير، مما يجعل الطب المعني بصحة أجسادنا يتسم بصفة عالمية عابرة لحدود الثقافة.

فخلال السنوات السبع التي قضيتها في الكلية، كان تعليمنا يتمحور حول الإنسان بصفته كائنًا بيولوجيًّا أولًا. لم تكن هناك محاضرة بعنوان: «الدورة الدموية في الجسم العربي»، يليـها محاضرة مختلفة بعنوان: «الدورة الدموية في الجسم الأوربي» ثم «الأفريقي» ثم «الآسيوي»! جميع البشر –بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية– يمتلكون قلوبًا نابضة تعمل وفق الآلية ذاتها التي تضمن لهم عيش حياة طيبة؛ هذا يجعلنا نتحدث عن «الدورة الدموية في الجسم البشري» مع مراعاة عوامل الاختلاف المؤثرة عليـها.

من مقاعد الدراسة إلى أروقة المستشفيات، كانت مفاهيمنا الطبية راسخة برسوخ هذا التخصص العريق. فالمعرفة الإكلينيكية التي نملكها اليوم تقوم على أساس المنطق البيولوجي الذي تحتكم إليه أجساد البشر. لكن الأمور بدأت بالتعقّد حين زاد اهتمامي بالطب النفسي، وتعمَّقت في محاولة فهم طبيعة المعاناة النفسية.

هنا، لم يعد المنطق البيولوجي واضحًا في رسم حدوده، وأخذت العوامل الثقافية تفرض وجودها باستمرار على مفاهيم الصحة والمرض، مما خلق حالة ضبابية خيَّمت على مجال الطب النفسي ووضعته في مأزقٍ كبير!

من وسط هذا الارتباك، اعتلت أصوات عديدة تتهم المختصين بتهميش قِيَم الثقافة العربية في خطاباتهم النفسية. منهم مَن رفض هذا الخطاب بحجة استيراده لقضايا غربية لا علاقة لنا بها، ومنهم مَن طالب باستحداث فرع معرفي جديد يتمركز حول سيكولوجية قيمنا الثقافية.

إن هذا الموقف يستحق أن يؤخذ بجدية في الطرح والتحليل والنقد، لأن السبيل الوحيد لخروج مجال الطب النفسي من مأزقه الحالي هو فتحه للحوار المعرفي بين العلم والثقافة. لقد تجاوزنا مرحلة الانبهار الأعمى بالمؤسسات العلمية، وأصبحنا اليوم على قدر من المعرفة بتاريخ العلوم وفلسفاتها، تمكننا من استيعاب سخافة الاعتقاد بحيادها المطلق. نحن بحاجة إلى عقلية علمية تتسم بالشفافية، ومُتقبِّلة للنقد، بحيث تُمَكِّن ثقافات البشر المتنوعة من المساهمة في عملية الإنتاج المعرفي.

هذا يقودنا إلى سؤالنا الرئيس لهذه المقالة: هل يحق للعرب إنتاج أطرهم المعرفية الخاصة لتفسير ظواهر المعاناة النفسية؟ أم أن هذه المعاناة هي نتيجة اعتلالات صحية لا تعترف بقِيَم الثقافة ويجب تركها للطب والأطباء؟

لكي نجيب على هذه الأسئلة، علينا أولًا رسم حدود واضحة ما بين «العلة الجسدية» و«العلة النفسية»، ليتسنّى لنا فهم دور الثقافة بصورة سليمة لا تضعها في تعارض مع المنطق البيولوجي.

الماء والأرض والعصب المتوسط

أيمكننا التعمُّق في الفروقات بين أنواع العِلَل دون الحاجة للذهاب إلى كلية الطب؟ نعم، يمكننا ذلك بالتأكيد، لكن هذا يستلزم منا العودة إلى المدرسة لحضور ثلاث حصص ستساعدنا على فهم أحد أهم مبادئ العلوم الطبيعية.

لنتصور المشهد كالتالي: طاولات وكراسٍ متقاربة من بعضها، أمام سبورة بيضاء في قاعة شاسعة. الجميع على مقاعدهم بانتظار سماع صوت الجرس معلنًا لحظة انطلاق اليوم الدراسي.

  • الحصة الأولى: يبدأ معلم الكيمياء بشرح ما تعنيه تركيبة الماء «H2O»، قبل أن يعدّد لنا الخصائص الأساسية للمركب، مثل درجة غليانه ودرجة تجمده وانعدامه الرائحة والطعم واللون.

  • الحصة الثانية: يكمل معلم الفيزياء بنفس الحيوية التي بدأنا بـهـا، ويأخذنا في رحلة فلكية تتمحور حول الأرض وانتمائها للمجموعة الشمسية، ثم يسهب بحديثه عن شكلها الكروي وحركتها الدورانية.

  • الحصة الثالثة: يدخل معلم الأحياء حاملًا معه مُجسَّم على هيئة ذراع بشرية مُشرَّحة، ليضعه أمامنا ويسأل: «مَن منكم يعرف اسم النفق الذي يعبر من خلاله العصب المتوسط؟»

إن الكيمياء والفيزياء والأحياء من العلوم المعنيَّة بدراسة الظواهر المادية في الحياة، مما يجعلنا نعدّ نتائج دراساتها المختلفة حقائق طبيعية مُستقلة بوجودها عن الفكر الإنساني؛ فلا تؤثر مفاهيمنا المتنوعة على وجود هذه الظواهر، ولا تغير أفكارنا من خصائصها الجوهرية.

لو نظرنا بأنفسنا إلى التركيبة الكيميائية للماء، لوجدناها –كما أخبرنا المعلم في الحصة الأولى– «H2O». ولو عدنا بالزمن خمسة قرون إلى الوراء ثم نظرنا إليها مجددًا، لوجدناها أيضًا على التركيبة نفسها المكونة من ذرات الهيدروجين والأكسجين. هذه حقيقة طبيعية لا تتغير باختلاف الزمن أو اختلاف تصوراتنا عنها، فقد لا يستوعب الفرد قبل 500 سنة ما نقصده بمفهوم «الذرة»، لكن هذا لن يغير شيئًا في تركيبة الماء وخصائصه.

والأمر ذاته ينطبق على الظواهر المادية المتعلقة بآليات عمل الجسم البشري. فالدورة الدموية لا تعمل بصورة مختلفة بين البشر، فهي أشبه بتركيبة الماء وكروية الأرض في كونها تتسم بثبات خصائصها الجوهرية. أي أن التشابه الأساسي على المستوى الوظيفي للأعضاء، مع وجود هامش للاختلافات الجينية والمؤثرات البيئية. نحن لا ننكر هذا الاختلاف بين البشر.

لهذا السبب تحديدًا، نجد أن المواد التأسيسية في كلية الطب: «علم التشريح» (Anatomy) و«علم وظائف الأعضاء» (Physiology)، تتناول المواضيع بمعزل عن الثقافات والقِيَم، وهذا لا ينكر أهميتها بأي شكلٍ من الأشكال. لكن الحديث عن الثقافة ودورها في الصحة والمرض يأتي بعد وضع الأسس الجوهرية لفهم آليات عمل الجسم البشري.

الآن، دعونا نعود إلى مدرستنا المتخيَّلة مرة أخرى، لنرى نوعًا آخر من الظواهر التي تعكس تعقيدات الطبيعة البشرية.

الذكريات والخبرات والعواطف

بعد انتهاء الحصة الثالثة، خرجنا من القاعة الدراسية للتفسُّح قليلًا. وبعد مُضي خمس عشرة دقيقة، رنّ الجرس ليُعلن نهاية فترة الاستراحة. عدنا جميعًا إلى القاعة، ما عدا أحد الزملاء –لنسمّه سالم– قرّر التسكُّع في الفناء الخارجي لتضييع الوقت، لكن وكيل المدرسة بعد دقائق اكتشف مغامرته الصبيانية، ووبَّخه بصوتٍ مسموعٍ للجميع.

احمرّ وجه سالم وهو يمشي عائدًا أمامنا إلى كرسيه في القاعة. هيمَنت الحادثة على ذهنه بكل ما تحمله من مشاعرٍ سلبية، ولازمته طوال الأيام اللاحقة، حتى اعتقد الذين من حوله بأنه لن يتجاوز إحراج هذه الذكرى.

مضت السنوات، واجتمع سالم في يومٍ من الأيام مع مجموعة من زملاء الدراسة، ليتذكروا قصصهم ومغامراتهم ومشاغباتهم. نظر أحد الموجودين إليه ثم سأله: «أتذكر يوم يوبخك الوكيل لتسكُّعك في الفناء الخارجي؟» توجّس البعض من ردة فعل سالم، لِما يعرفونه من أثر هذه الحادثة عليه. لكن ردة فعله أتت مخالفة لتوقعاتهم! ضحك سالم بعفوية ثم أخذ يسرد لهم تفاصيل القصة منتقدًا نفسه على سذاجة تصرفه.

هذا المثال يوضح لنا أمرًا في غاية الأهمية: إن قدرة الذكريات على استثارة عواطف محددة كالحرج والسعادة والفخر والحزن وغيرها ليست متأصِّلة في طبيعتها، مما يجعل حمولتها العاطفية قابلة للتغيُّر والتخفُّف في أذهاننا.

هذا يعني أننا أمام ظاهرة تختلف جوهريًّا عن الظواهر المادية المتّسمة بالثبات. فكل شخص سبق له تفريغ ذكرياتٍ ما من حمولتها الأصلية المكتسبة لحظة حدوثها، وأكسبها حمولة أخرى بعد تفكيرٍ وتأمل، أو لمجرد مرور وقتٍ عليها.

من هذا المنظور، نجد أن ذكرياتنا ومشاعرنا ليست شبيهة بالدورة الدموية، لأن طبيعتها المعقدة ترفض الخضوع للمنطق البيولوجي البحت. والأمر ذاته ينطبق على خبراتنا الذاتية، فخبرتي اليوم قد لا تتطابق مع خبرتي غدًا، وخبرتك أنت قد لا تتطابق مع خبرتي أنا. هذا هو الوضع الطبيعي للظواهر العقلية عند الإنسان، فهي متنوعة بتنوع البشر، وتتأثر بعواملٍ كثيرة: بيولوجية ونفسية وبيئية.

هنا تأتي الثقافة لتفرض نفسها؛ نحن لم نعد نتكلم عن تركيبة الماء وكروية الأرض، بل عن الأفكار والمعتقدات التي تشكِّل إدراكنا للعالم وتصيغ وجودنا فيه.

وبعد هذا التمهيد المطوَّل، لنتعمَّق في المفهوم الطبي للعلة الجسدية واختلافاتها عن العلة النفسية.

معضلة التشابه و التنوّع البشري

لو نظرنا إلى مرض السكري المنتشر في مجتمعاتنا، لوجدنا سبب ارتفاع معدل السكر التراكمي في الدم يعود إلى اختلال في آليات إفراز وعمل الأنسولين، وهي من الآليات الخاضعة للمنطق البيولوجي البحت.

في المقابل، لو نظرنا إلى القلق المنتشر أيضًا في مجتمعاتنا، لوجدنا أسبابه متنوعة ومتداخلة ما بين عوامل التنشئة وضغوط الحياة، وغيرها من الأمور المستعصية على التفسير البيولوجي الاختزالي.

نحن لا ننكر دور العوامل الثقافية في انتشار مرض السكري –كتشجيع زواج الأقارب– ولا ننكر دور العوامل البيولوجية في ظهور أعراض القلق كاختلال التوازن الهرموني، لكن لو تمعَّنا في هذه العِلَل، لوجدناها مختلفة جوهريًّا في طبيعة تمظهراتها العَرَضية:

  • العلة الجسدية: الأصل في تمظهراتها الثبات؛ فهي تتبع المنطق البيولوجي مع وجود هامش للاختلافات بين البشر حسب تنوعاتهم الفردية والثقافية.

  • العلة النفسية: الأصل في تمظهراتها التنوع، فهي لا تتبع المنطق البيولوجي، وإنما تتأثر بعوامله كما تتأثر بالعوامل الثقافية للبيئة الحاضنة للإنسان.

ولنبسّط المسألة أكثر:

لو أعطيتك قائمة بجميع أعراض مرض السكري، ثم طلبت منك مقابلة مئات المرضى من مختلف بقاع العالم، ستكتشف وجود تفاوت في ظهور هذه الأعراض وشدتها، لكن جميع الأعراض التي سيشتكي منها مرضى السكري ستكون من ضمن القائمة التي بين يديك، لأن هذه الأعراض دُرِست وفق المنطق البيولوجي لآثار ارتفاع معدل السكر في الدم.

في المقابل، لو أعطيتك معايير تشخيص «اضطراب الكرب التالي للصدمة» (أو ما يُعرف بـ PTSD) الصادر من جمعية طب النفس الأمريكية، ثم طلبت منك مقابلة المئات من ضحايا الحروب والكوارث في المناطق المنكوبة حول العالم، ستكتشف حينها أن مفهوم الصدمة وآثارها ليست متطابقة عند كل البشر!

إن الاختلافات الثقافية والشخصية تلعب دورًا أساسيًّا في قولبة العَرَض النفسي، مما ينتج تمظهرات متنوعة تتجاوز قائمة المعايير التي لديك.

في هذه الحالات، نجد أن المعرفة الإكلينيكية حول اعتلالات الجسد قادرة على رسم صورة واضحة لطبيعة المرض وكيفية علاجه على مستوًى عابرٍ لحدود الثقافة. لكن هذا لا ينطبق على اعتلالات النفس، لأن فهم طبيعة المرض وتمظهراته وإمكانيات علاجه تتطلب عملًا مشتركًا ما بين العلم والثقافة في إنتاج معرفة متكاملة قادرة على استيعاب التنوع البشري.

وعلى هذا الأساس نقول، إنه ليس من الكفر بالعلم الدفاع عن أهمية الثقافة، والتشديد على دورها المحوري في صحتنا ومرضنا، بل هو من الدلالات على الفهم السليم لاحتياجات الإنسان المتجذرة في الانتماء الثقافي. فلا تصح المكابرة في إخضاع معاناتنا النفسية لمفاهيم المنطق البيولوجي، لأن هذا يُجرِّد خبراتنا من معانيها، وفي ذلك مضرة لنا، لأننا كائنات عاقلة تبحث عن المغزى خلف كل شيء.

منزلق النسبوية الثقافية

من الضروري في سياق حديثنا هنا الإشارة إلى الشكل الآخر من أشكال الاستبداد في معادلة العلم والثقافة، فماذا لو اختل الميزان من الناحية الأخرى، ودخلنا في متاهة النسبوية الثقافية، حيث لا وجود للأخطاء في سلوكيات المجتمع ومعتقداته؟ فهناك عادات وتقاليد مختلفة يجب علينا احترامها دون محاولة تحديد إيجابياتها وسلبياتها! ألا يُشكل هذا خطرًا يهدّد سلامة الإنسان؟

لنفترض أن هناك طائفة دينية في مكانٍ ما في هذا العالم تعتقد بنقاوة الجسم البشري، مما جعلها تتبنى موقفًا سلبيًّا تجاه اللقاحات. في هذه الحالة، هل ينبغي لنا التسليم بالاختلافات الثقافية، وتعريض أفراد هذه الجماعة للخطر؟ بالطبع لا! وماذا لو كان هناك مجتمع يتبنى أساليب تربوية تميل إلى الإساءة للأطفال بالامتناع عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، فهل ينبغي لنا التغاضي عن ذلك بحجة الاختلاف الثقافي، وحق المجتمعات بتوريث قِيَمها للجيل الناشئ؟ أيضًا لا!

لقد سبق وبيَّنا مدى تعقيد البنية النفسية لما فيها من تشابك بين الجانب البيولوجي والثقافي لدى الإنسان، لكن دعونا لا نغفل عن حقيقة أن مرحلة الرضاعة وبدايات الطفولة هي من المراحل المعتمدة على تلبية الاحتياجات الأساسية كالتغذية والرعاية والشعور بالأمان. في هذه المراحل المبكرة التي تسبق تعلم الطفل للغة وانفتاحه على ثقافة مجتمعه، نجده أقرب ما يكون إلى التركيبة البيولوجية الخام، حيث الجينات وردات الفعل الغريزية تتسيَّد المشهد.

فما الفرق بين بكاء الرضيع العربي والرضيع والأوربي؟ إنه نداء لتلبية احتياجٍ ما، وتجاهل هذا النداء بحجة الحزم في التربية يدل عن سوء فهم لطبيعة مرحلة الرضاعة واحتياجاتها. هنا نلاحظ اللخبطة المفاهيمية عند البعض، خصوصًا الفئة الناقدة لخطابات العلوم النفسية بقولها أن مفاهيم التنشئة السليمة تستورد أفكار التربية من الغرب وتحاول فرضها على ثقافتنا!

هذا غير صحيح لعدة أوجه: 

  • أولها: إن التغذية والرعاية والشعور بالأمان ليست مفاهيم المستوردة، بل هي احتياجات متأصِّلة عند كل البشر بمختلف ثقافاتهم، لارتباطها بتكويننا البيولوجي (حاجتنا للشعور بالأمان مرتبطة بغريزتنا للبقاء).

  • ثانيها: هناك دراسات علمية من مختلف ثقافات العالم تثبت أن تنشئة الطفل في بيئة لا تلبي احتياجاته الأساسية قد تؤثر على نموه الجسدي والعقلي (عوامل سوء التغذية والإهمال والشعور الدائم بالخوف مرتبطة بالعديد من المشاكل الصحية المؤثرة على حياة الطفل).

  • ثالثها: إن صِدام الاحتياجات الأساسية للطفل والقِيَم التربوية للمجتمعات ليس حتميًّا (فيمكن للأم الاتسام بالحزم دون خلق بيئة باعثة على الخوف في حياة ابنتها، ويمكن للأب إظهار مشاعر التقدير لابنه وفق تقاليد ثقافتنا العربية).

نحن لا نطالب العلم بتربية أبنائنا، فهذا شأن ثقافي خاص، لكن علينا ترويض النسبوية حتى لا نكون عُرضة لتكرار أخطاء الماضي المتجذّرة في معتقداتنا المغلوطة. هذا لا يتعارض مع قِيَم العرب ولا يقلّل من شأنها، فالموازنة بين الرأي العلمي والمعتقد الثقافي مطلب رئيس لتنشئة أجيال قوية وصحية تمثل ثقافاتها وتفتخر بهوياتها.

في هذه المرحلة من المقالة، وعند وصولنا إلى المنعطف الأخير، أصبح لزامًا علينا الإجابة على هذا السؤال المُلِح: كيف يمكننا الموازنة بين العلم والثقافة فيما يتعلق بممارستنا الطب النفسي في المجتمعات العربية؟

إطار العلم وألوان الثقافة

في ظهيرة كل خميس من عام 2013، كنا نتجه إلى غرفة التشريح في المعمل مرورًا بالمتحف الصغير الذي يحوي عشرات العينات في أوعيةٍ زجاجية مصفوفة على امتداد الجدران: دماغ وقلب ورئتان ومعدة وأمعاء وعضلات وشرايين وأوردة. كل شيء يبدو شاحبًا، كل شيء مُشبَّع بالفورمالديهايد الذي يصارع التحلل.

في معمل التشريح، كان الواقع أكثر تعقيدًا من الكتب، فلا الشرايين حمراء، ولا الأوردة زرقاء، ولا الأعصاب ذهبية مُصفرَّة، كما أن الأعضاء المجوفة ليست منفوخة وبارزة المعالم، ولا شيء يبدو واضحًا كما في الرسومات الملوّنة الراسخة في أذهاننا. إن واقع معمل التشريح كان مُتطلّبًا لمهارة عملية، تُمكِّن الطبيب من التعامل مع تعقيداته، وهذا ينطبق على جميع التخصصات الطبية بشكلٍ أو بآخر. ففي نهاية المطاف، فإنّ ممارسة الطب موغلة في تعقيدات البشر، تعقيداتهم البيولوجية والنفسية والثقافية.

وبالنظر إلى ما طرحناه في هذه المقالة، نجد أن تعقيدات الطب النفسي على أرض الواقع تكمن في تنوع خبرات البشر، واختلاف قِيَمهم الشخصية، مما يتطلب مهارة عملية توفّق ما بين «التطبيب المبني على القِيَم» و«التطبيب المبني على البراهين»، بحيث تكون الخطط العلاجية مرسومة وفق ما يرتضيه المريض وتبرهن على نجاعتها الدراسات العلمية.

هكذا تكون الموازنة بين العلم والثقافة، إنها الحوار المعرفي الذي يدفع الطب النفسي ليكون مرنًا في ممارساته، منفتحًا على قِيَم البشر، مستوعبًا لرؤى ثقافات الشعوب المختلفة.

فالبراهين وحدها لا تكفي، لأن إطارات العلم الثابتة تحتاج إلى ألوان الثقافة لترسم صورها التي تمثلنا وتشبهنا.


فاصل ⏸️


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

Claire Merchlinsky
Claire Merchlinsky

تنقد رويحة عبدالرب، في مقالتها «هل حوَّلنا الإنترنت إلى أخصائيين نفسيين؟»، هوس التشخيص بالمرض النفسي، باعتباره صفةً شخصية يحدد حضوره وجود سلوكٍ يومي اعتيادي من عدمه. والأسوأ، نشوء «سوق الإنترنت النفسي»، بسبب انتشار هذه الممارسات.


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+240 متابع في آخر 7 أيام