هل فكرت في مصير مكتبتك بعد رحيلك 🪦
السؤال الذي يؤرّق كل قارئ: ما المصير الذي ينتظر مكتباتنا التي بُنيت بتأنٍّ وصبرٍ على مر السنين؟
القارئ الذي يحدثني من قبره
في إحدى ليالي يوليو الحارة عام 2016، تعطلت سيارتي بحي قريب من بيتي، فاضطررت أن أكمل طريقي سيرًا على الأقدام. بالصدفة، دخلت بقالة صغيرة لاقتناء بعض الحاجيات الضرورية للمطبخ، ولدى دخولي، لاحظت كومة من المجلات الثقافية، كانت داخل صندوق كبير تائه بين السلع الغذائية وأدوات التنظيف، شعرت بضيق طفيف يعبر صدري، لرؤية تلك المجلات مهملة وسط هذه الفوضى.
أثار منظرها استغرابي وقلقي، كنت أخشى أن تُستخدم صفحاتها في تغليف السلع، كما يحدث مع المجلات التجارية التي نجدها عادة لدى باعة الفواكه الجافة. استفسرت من البائع عنها، فتمتم بعبارات مبهمة، مؤكدًا أن الصندوق بما فيه معروض للبيع، وحين سألته عن مصدر تلك المجلات، أصر على غموضه.
بادرت إلى فحص محتويات الصندوق، وأدركت على الفور قيمتها الثقافية، واكتشفت بينها كتبًا نادرة صادرة عن دور نشر شرقية ومغربية، بعضها توقف عن النشر منذ فترة طويلة. لم يحاول البائع مساومتي على سعر الصندوق، فدفعت له ما كان بحوزتي، متجاهلة الغرض الأصلي من دخولي المتجر. وعندما سألته إن كان في حوزته المزيد من الصناديق، أجاب بتحفظ بالغ: «ربما». ألححت عليه أن يحضر منها ما يمكن إحضاره، واعدة إياه بصفقة مغرية، وبدا لي أن الأمر يتعلق بمكتبة شخصية توفي صاحبها، وبدأت أواصرها تتفكّك شيئًا فشيئًا.
تكررت زياراتي إلى المتجر كل يوم جمعة؛ آملةً في العثور على صندوق آخر من تلك المكتبة المجهولة. وبعد مرور أسابيع، نجحت في الحصول على صناديق مليئة بالمجلات الثقافية، والكتب العربية القيمة، منها نسخ من مجلة «فصول» المتخصصة في النقد الأدبي، وإصدارات من مجلة «الكرمل»، والأعداد الأولى من مجلة «الدوحة الثقافية»، إضافة إلى سلسلة من المجلات المغربية الفلسفية، وأخرى مصرية تُعنى بالمسرح، ومجلات ثقافية من ليبيا وتونس والأردن وغيرها من البلاد العربية، كما وجدت كتب نقد مسرحي، وأعدادًا من سلسلة عالم المعرفة، وأعدادًا من المسرح العالمي، وبعض الروايات.
تدريجيًّا، وبعد تفحص الكتب والمجلات، بدأت أرسم ملامح هوية مالكها السابق، وذلك بفضل العلامات الكثيرة التي خلّفها على صفحاتها، وتوصّلت إلى معرفة صاحبها. وكانت المفاجأة مذهلة عندما اكتشفت أنه كان يقطن في حيٍّ قريب أعرف معظم سكانه، ولكني لم أسمع باسمه قط، ولولا المصادفة لما عثرت على بقايا مكتبته. وبعد تحرٍّ بسيط حول سبب التخلي عن كل تلك الصناديق، عرفت أن الرجل كان مثقفًا حقيقيًّا، وقارئًا متعطشًا، مَلَك مكتبة ضخمة زحفت إلى الجدران، وشغلت معظم مرافق منزله. وبعد وفاته ارتأت أسرته الاحتفاظ بما عدّته ذا قيمة من المكتبة، أما بقيتها فأودعَتها في المستودع، وبطريقة ما، وصلت صناديق المستودع إلى البقالة، ومن ثم إليَّ. وبمجرد أن بلغت هذه الحقيقة اختفت الصناديق، وأنكر صاحب البقالة معرفته بي.
أروي هذه القصة ليس فقط رغبةً في مشاركة تجربة فريدة في الحصول على الكتب المستعملة، بل لأخفف عن نفسي وطأة هاجس يرافق كل إضافة جديدة إلى مكتبتي، هذا الهاجس هو السؤال ذاته الذي يؤرّق كل قارئ: ما المصير الذي ينتظر مكتباتنا التي بُنيت بتأنٍّ وصبرٍ على مر السنين؟ ماذا سيحل بالذكريات المرتبطة بكل كتاب اقتنيناه، وبكل تلك العلامات التي تركناها بين السطور والهوامش والصفحات، وبتلك السلاسل التي كنا نحرص على أعدادها الشهرية، وبكل هذه الأموال التي اخترنا أن نصرفها بين أروقة معارض الكتب، بدل إنفاقها على ترف الكماليات، بل الأولويات أحيانًا؟ وهو سؤال يتعاظم إلحاحه عندما نعيش في بيئة لا تقدّر قيمة القراءة؛ لذا لا تستطيع أن تستوعب علاقتنا الحميمة بمكتباتنا.
وجدت نفسي متصلة بشخص رحل عن عالمنا بصفته قارئًا، أرى في مكتبته انعكاسًا لمكتبتي. وحين أفكر في الأمر أخشى أن تلقى ذات المصير: أن يقرر الآخرون ما يحتفظون به وما يتخلصون منه، دون اعتبار لرغباتي الحقيقية أو مشاعري تجاه كل كتاب وكل رف وكل جزء وزاوية في المكتبة. أن تُجرّد المكتبة من روحها هو الكابوس الأكبر، وأسوأ ما قد يحدث لأيّ قارئ، وقد نختبر هذا الشعور ونحن أحياء نرزق، متى اضطررنا إلى هجر مكتباتنا لدواعي السفر أو دواعي الحرب، أو لأسباب أبسط من ذلك حين لا تستوعب منازلنا شغفنا باقتناء الكتب.
ما نخشاه حقًّا ليس فقدان الكتب ومحتويات مكتباتنا فحسب، بل أن تقع في أيدي من لا نعرفهم، يعيدون ترتيبها وتنظيمها بطرق لا تتوافق مع تلك التي اعتدناها وصممناها بأنفسنا، مع ما يناسب أذواقنا وتاريخنا مع القراءة والكتب.
غرقت في مكتبة القارئ وروحه تحيطني بظلالها، أعيد ترتيب كتبه وشعور بالذنب يغمرني لأني أمسك بتركة لا تخصّني، بدا الأمر وكأن قراءاتي تحاكي -بنوعٍ من الوعي- قراءات شخص رحل عن دنيانا، وكأنني بفضل هذه التركة أمارس طقس عبور غريب من عالمي إلى عالمه المفترض، عالم مجهول ثريّ بالعلامات والاستفسارات والأحلام والتوقعات والخيبات.
أسعى إلى استدعاء ذكراه انطلاقًا من أوراقه الشخصية، وبعضًا مما كتبه. أجمع ملاحظاته المتناثرة على الصفحات، وقد تمكنت من إحياء جزء من تلك الذكريات، مانحةً إياها مكانًا بين رفوف مكتبتي. تبدو هذه الرفوف مثل نصب تذكاري لقارئ مجهول يؤثّث قلب المكتبة، أزوره بين الحين والآخر، أتحاور معه، ويجيب بخط عربي أنيق مكتوب بقلم الرصاص الذي يغلب على خربشاته، عندما أتساءل: «متى اقتنيت هذا الكتاب؟» تلوح لي التواريخ مكتوبة. وعندما أسأل: «من أعارك هذه المجلة؟» تبرز أسماء المعيرين. وحين يعتريني الفضول حول مُهدِي الكتاب، تظهر أسماء المُهدين وعباراتهم العذبة. وإذا تساءلت: «هل أعجبك هذا الكتاب؟» أعثر على تقييماته في آخر الصفحات. هذه اللمسات العاطفية الدقيقة التي يحرص عليها القراء ويعتزّون بها، هي ما تجعل من المكتبات الشخصية تراثًا غير مادي، تُغفَل أهميته أحيانًا.
دفعتني هذه التجربة إلى تدبر فعل القراءة، بأنها ممارسة فردية حميمية، واكتشفت أن معظم قراءاتنا، غالبًا ما تكون حوارًا ومحادثةً بين القرّاء، وأحيانًا بين القراء والكُتَّاب، وهو الأمر الذي وصفه مارسيل بروست في كتابه الممتع «عن القراءة» -أو كما تُرجم عربيًّا «أيام القراءة»- بـ«معجزة التواصل الخصبة». الكاتب قبل أن يكتب أعماله، فهو قارئ يمرّر خبراته إلينا. وأغلب من نقرأ لهم هم كتّاب قد رحلوا عنّا، وظلت مؤلفاتهم وأعمالهم شاهدة عليهم، تعيش بيننا، ترشدنا إلى ما نسعى إليه، وتحاورنا وتناقشنا. وأحيانًا تكون المناقشة صريحة وواضحة، خاصة عندما ينادي الكاتب القارئ مباشرة بـ«أيها القارئ»، كما فعل دستويفسكي في مستهل عمله الخالد «الإخوة كارامازوف»، وهي محادثات قد تكون مليئة بالود والحب، أو بالحدة والتوتر. وتظهر هذه المشاعر أثناء تفاعلنا مع الكِتاب الذي يجسد علاقتنا المادية بكاتبه، متى اتفقنا مع أفكاره؛ تجدنا نتحدث عنه في كل وقت وفي كل مكان، مقتبسين كلماته ومستشهدين بفقرات من كتبه، ومتى عارضناه نميل إلى إهماله ونضع كتبه جانبًا.
فالقارئ أو الكاتب الراحل يسري عليه ما ذكره فيكتور هوقو واصفًا من فقدناهم قائلًا : «لم يرحل الموتى، لكننا لا نراهم وحسب، لأنهم غير مرئيين.»
فاصل ⏸️
تحت رعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد -حفظه الله-، كرّمت وزارة الثقافة الفائزين بمبادرة «الجوائز الثقافية الوطنية» في دورتها الرابعة. تهدف المبادرة إلى تشجيع المحتوى والإنتاج الثقافي المتميز، لخدمة جميع المسارات ضمن القطاعات الثقافية الستة عشر، إلى جانب تقديمها الدعم المادي والمعنوي للفائزين، والمتمثل في احتواء الإنتاج الثقافي للفائز، والاحتفاء به إعلاميًّا ومجتمعيًّا، ومنحه التمثيل الشرفي للقطاع الثقافي الذي نال جائزته في الفعاليات والمناسبات داخل المملكة وخارجها.
أعلنت «الهيئة العامة للترفيه» مراحل «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا»، التي تسعى إلى تكريم الإبداع الأدبي الأكثر تأثيرًا في الوطن العربي، ودعم الكتّاب الذين يثرون الأدب العربي بأعمالهم الفريدة. وتهدف الجائزة إلى تعزيز الثقافة الأدبية، وتشجيع التميز والإبداع في عالم الكتابة.
أعلنت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» انطلاق مبادرة «الشريك الأدبي» في نسختها الرابعة، بمشاركة ثمانين شريكًا أدبيًّا. تسعى مبادرة الشريك الأدبي إلى عقد شراكات أدبية مع المقاهي، التي تعمل على ترويج الأعمال الأدبية بشكل مبتكر وأقرب للمجتمع، مما يسهم في رفع الوعي الثقافي بشكل مباشر.
ودّعت الساحة الفنية الفنان التشكيلي حلمي التوني، عن عمر يناهز التسعين عامًا. زيّنت ريشة التوني عددًا كبيرًا من أغلفة الكتب والروايات العربية الشهيرة، أبرزها روايات نجيب محفوظ، الصادرة عن دار الشروق المصرية. حصل الراحل على جائزة معرض بولونيا للأطفال 2002، وفاز بميدالية معرض ليبرج الدولي لفن الكتاب، الذي يُقام مرة كل ست سنوات.
توصيات النشرة من مها صالح:
بانتظار النهار، نوال السويلم
الكتاب عبارة عن مجموعة قصصية خفيفة، تستطيع قراءتها بجلسة واحدة دونما ملل. أكثر ما أحببته: قصة الراوي العليم، التي يتجنّب بطلها الناس وأحاديثهم متعمّدًا، ويفضّل عزل ذاته عن الاندماج مع أفراد المجتمع من حوله. «في الحافلة أتفرّس أفواه الركاب بحثًا عن فم مغلق، رأيته مجاورًا النافذة منهمكًا يقرأ في الجريدة، ويعضّ شفته السفلى بثناياه، فاطمأننت له، قلت: هذا الرجل مشغول، لن يزعجني بالثرثرة، فلأكن جليسه.»
رحلة حول غرفتي، قزافيي دوميستر
بطل الرواية محكوم بالبقاء في غرفته اثنين وأربعين يومًا، ومن هذا المُعتَزل الإجباري، تنطلق رحلة البطل حول غرفته وتفاصيلها، التي تقوده لتعليقات اجتماعية، وتأملات ذاتية وآراء فلسفية فريدة. يدعونا الكتاب -بطريقة ما- إلى الاستسلام لخيالنا بمرح، وصناعة واقع أخف وطأة.
كتب غيرت العالم، روبرت ب. داونز
يعرض الكتاب أمثلةً لأبرز الكتب التي أحدثت تغييرات وتحولات كبيرة في تاريخ العالم الإنساني. مثل كتاب «كفاحي» لهتلر، الذي تنبأ بالدمار الذي أخلفته الحرب العالمية الثانية. وكتاب «كوخ العم توم»، الذي يُعدّ واحدًا من أبرز أسباب الحرب الأهلية الأمريكية. تكثر الأمثلة في الكتاب، ولكنها تتحد في تأكيد أهمية الكلمة ومدى تأثيرها.
اليابان وجهة نظر شخصية، ميسرة عفيفي
مؤلف الكتاب ميسرة عفيفي، مترجم مصري، يُعد من أبرز مترجمي اللغة اليابانية إلى اللغة العربية. عاش في اليابان فترة تتجاوز العشرين عامًا، وتعرّف بشكل كافٍ على الثقافة اليابانية، وخصوصية مجتمعها؛ مما دفعه لتوثيق صورة شبه كاملة عن ثقافة هذا المجتمع، وسرد بعض عيوبه، ومحاولة الإجابة عن أهم التساؤلات التي تراوده عن اليابان مثل: لماذا الانتحار منتشر في اليابان؟ لما لا يضحك اليابانيون؟ لماذا يحترم اليابانيون قانون السير؟ وغيرها من الأسئلة.
لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.