لن يصل الذكاء الاصطناعي لذكاء الإنسان

الناس عمدوا إلى التعقل فحصروه في الذكاء، ثم عمدوا إلى الذكاء فحصروه في الإنتاج؛ لذلك وصلنا لهذه الحالة من القول بإمكانية تعقّل الآلة وغلبتها البشر.

عبدالله بن حمدان

إن من البلايا في عصرنا انتشار القول بغلبة الذكاء الاصطناعي البشرَ. حتى خرج أقوامٌ يحذرون الناس من مغبّة الاشتغال ببرمجته، وأنهم إن فعلوا فقد فتحوا شر شرور الدنيا كلها. وأن الآلة العاقلة إن خرجت للناس فهم إما لها خاضعون وإما منها هالكون، سيّدهم يومئذ ذليل وأبيّهم قتيل. 

وتلقّف هذا القول جمعٌ خوّفوا الناس من مستقبل أمرهم فصاحوا فيهم أن لا ضامن لكم اليوم؛ فإن الآلة مستبدلة كل أمركم غدًا. فتاه الناس يتحسسون خبر الآلة ليبتعدوا عنها، فكم جاءني من رجل يسألني عن آخر شيء ستدخله الآلة حتى يتخصص فيه ثم لا يُستبدل.

أما حجج هؤلاء القوم في هذه الغلبة فهذا تسلسلها:

  1. ستغلب الآلة البشر ذكاءً.

  2. تختلف غايات الآلة عن البشر.

  3. ستنجز الآلة وعدها ولو بإفناء البشر.

أحسن القوم طريقة ينازِع في الثانية، فيسعون لمواءمة الذكاء الاصطناعي ليكون هواها تبعًا لهوانا. وأكثرهم يجادلون في الثالثة، فيتخيلون كيف يكون هلاكنا على أيديها. أما العقلاء فلا يسلمون بالمقدمة الأولى رأسًا، بل يقولون بالاستحالة المطلقة لتعقّل الآلة. وفي مقالتي هذه جمعت أقوالهم وما آتاني الله من عِلم؛ لترى فساد المزاعم.

والحجج المبسوطة في المقالة ليست سواءً، فمنها القاطع بالاستحالة، ومنها ما يُظن به الاستحالة، ومنها عقبات وصعوبات قد يُتغلّب عليها اليوم أو غدًا.

1. تأنيس الآلة

تأنيس الأشياء طبع أصيل في البشر من أول يوم خُلقوا فيه إلى يوم الناس هذا. والتأنيس هو إضفاء الصبغة الإنسية على شيء لاشتراكه مع الإنس في صفات، كالكلام مع الجمادات أو معاملتها كما يُعامل البشر؛ فتجد رجلًا يكلم جهازه ويترجاه أن يعمل بعد إذ فشل مرارًا، وآخر يسبه إذا عمل غير الذي يريد. ومنها أن السيارة إذا نُظر إليها من أمامها تخيل أحدنا مقدمتها وجه إنسان، فيَنسب إليها الفرح والغضب. 

وقد يشتد أمر التأنيس فيُظن أن الشيء ما فعل هذا إلا لقصد، كتطيُّر العرب بالغراب إذا أرادوا السفر. وكثيرٌ ممن يظن الذكاء الاصطناعي يشابه عقل البشر إنما حمَله التأنيس على هذا.

وإن أول تأنيس أعطيناه إياه هو تسميتنا إياه ذكاءً، وخوارزمياته تعلُّمًا، وأخطاءه هلوسةً، وإصابة المطلوب فهمًا، وإنتاج الصور إبداعًا، وغيرها مما لو عددتها لما حصرتها. ولا أقول إن هذا خطأ محض، بل اللغات محدودة ولا طاقة لنا بأن نأتي بكلمات جديدة لكل شيء. ولكن أن يصل هذا التأنيس إلى الزعم بغلبته البشر فهذا الذي لا ينبغي. 

وعلى أن مصطلح الذكاء الاصطناعي بدأ عام 1956م إلا أن من العلماء من جاء بمصطلحات غيره، مثل: «معالجة المعلومات المعقّدة» (Complex Information Processing)، وأيضا «دراسات الآلات الذاتية» (Automata Studies). وفي هذه المصطلحات تأنٍّ في تأنيس الآلة، عكس الذكاء الاصطناعي. ثم إن وصف عمل الآلة بالذكاء خطأ؛ فإن عكس الذكاء الغباء وما عند هذه الآلات ليس ذكاءً ولا حتى غباءً، إنما هو خوارزميات رياضية تأخذ بياناتٍ وتعطي نتائج.

بل إني أزعم أن التعقّل صفة حيوية يستحيل خروجها من الجنس الآدمي والحيواني؛ فهي مستحيلة على الجمادات أبدًا، وأن دعواها كدعوى من يقول إن الآلات تعطش وتجوع أو تحيا وتموت. ويظهر هذا أكثر ما يظهر في المشاعر؛ فهل سألت نفسك يومًا عن الحزن الاصطناعي؟ عن الحب الاصطناعي؟ عن الاشتهاء الاصطناعي؟ هذه أشياء يستحيل وجودها في الآلات إلا محاكاةً، ولن يكون يومًا لها اختبارٌ. 

ومما يُتداول اليوم اختباراتٌ لتقييم الذكاء الاصطناعي، وإن كل اختبارات الذكاء المطبقة على الآلة يظهر فيها التأنيس؛ فهم لم يعطوا الآلة شيئًا إلا وقد استخلصوه من البشر. لكن كيف سيكون اختبار الحب الاصطناعي؟ كيف نقول إن الآلة غلبت البشر في الحب؟ أو إن هذه الآلة أحزن من البشر؟ أو إن آلةً أشد فرحًا من آلة. 

أو أن نصنع خوارزميات نعطيها الآلة لتجرب شعور شرب الماء البارد على الظمأ، أو فراق حبيب، أو مناجاة الله ليلًا. ويمتد هذا من المشاعر إلى متفرداتنا عن الجماد، كالإرادة والفاعلية والوعي والقصدية، وغيرها.

أرأيت استغرابك كيف لآلة أن يكون لها شيء من هذا؟ فإن هذا ما يجب في التعقّل كله، ولكن لأن الناس عمدوا إلى التعقل فحصروه في الذكاء ثم عمدوا إلى الذكاء فحصروه في الإنتاج، لذلك وصلنا لهذه الحالة من القول بإمكانية تعقّل الآلة وغلبتها البشر. 

إن الذكاء من الأشياء التي يستحيل تعريفها، وإن أي تعريف له لا بد من أن يكون الذكاء نفسه داخلًا بخفاء في مفرداته؛ فيكون عندها الدَّور. والذكاء كالحب والحزن وغيرهما: لا تعريف جامعًا له، ولكن البشر يعرفونه من أنفسهم إذا رأوه وشعروا به. 

وقد أحسن إييقر في بحثه إذ سمّى الذكاء الاصطناعي «التقليد الخوارزمي» (Algorithmic Mimicry)، ويعني أن هذه البرامج لا تعدو كونها خوارزميات تحاول تقليد البشر ومحاكاتهم في شيء مما اختصوا به. 

واستحالة التعقل للجمادات لا يدخل فيه بداهة ما كان من غيب أو معجزة، كما كان من الجذع عندما حن لرسول الله، وتسبيح الجمادات، وغيرهما.

ومن التأنيس ما كان أصله في الإنسان خطأ، ثم أنسنّا الآلة بهذا الخطأ. وأكبر مثاله حصر التعقل في الدماغ، وهذا قول موجودة أصوله في فلسفات اليونان الأوائل، حتى قيل إن الجسد عائق للدماغ أن يصل أقصى ما عنده من قدرات التعقل. فأخذ هذا الخطأ علماء الذكاء الاصطناعي فقالوا بأن محاكاة الدماغ كفيلة بإخراج آلة كالبشر عقلًا. 

يهمل هذا القول ثلاثة عوامل لولاها لما وُجد إدراك ولا عقل: الجسد والبيئة والمجتمع، ثم تفاعل بعضها ببعض؛ فالجسد عندهم مقصور على إدخال المعلومات وإخراجها، والبيئة إنما هي مكان تعقّل الدماغ، والمجتمع شيء زائد لا حاجة لإدخاله في المعادلة.

أما الجسد فبجزئيه الداخلي والخارجي خرج الذكاء، وأقصد بالخارجي كل جزء متحرك وفاعل في شيء من خارجه، فأفعال هذه الأجزاء، كتعبيرات الوجه وحركة العيون والعضلات واستقبال المستقبلات، تؤثر في الإدراك وتعطي العقل صبغة فعلية غير ذهنية تمكنه من تمييز أشياء ما كان ليدركها لولاها.

تخيّل عقولنا لو ما خلق الله لنا أنوفًا، ما كنا لندرك روائح الأشياء، ولما ارتبطت عندنا الروائح بذكرياتٍ، ولما فُتن أحد بأحدٍ من عطره، ولما علمنا خطورة شيء من رائحته، ولما استمتعنا بالطعام والشراب. كيف إذن لو خُلقنا بلا أعين؟ بلا ألسن؟ بوجوه لا رسم فيها؟ بأصابع لا مفصل فيها؟ بقدر نقصان الجسد ينقص العقل، حتى إذا اختفى الجسد كله اختفى العقل كله. 

أما الجزء الداخلي، فكل جزء يؤثر في الإنسان من داخله، كالخلايا والبكتيريا والأمعاء والغدد والأجهزة وأمثالها. فمما جدّ في علوم الأحياء والإدراك أن من الهرمونات ما يعمل للإدراك والمشاعر، وأن جهاز المناعة له في معرفة الأخطار والثقة بالناس والقرب منهم، وأن القلب والأوعية يتعدى عملها دورة الدم إلى التعقل والتنبه والتحسس، وأن بكتيريا المعدة تؤثر في كل عمل الإدراك حتى الذاكرة والمشاعر. فهل بعد هذا من مقال لقائل يحصر التعقل في الدماغ وحده؟

أهل علوم الإدراك يُدخلون البيئة والمجتمع والسياق فيسمونها «العقل المُكتنَف» (Embedded Mind)؛ فالعقل ليس شيئًا مجردًا، بل هو تبع لكل شيء عاش في كَنَفه أو استعمله ليتعقل ويزداد ذكاءً. فالبيئة تُخضع الحيَّ لأمور ثم تحده بحدود وترمي إليه باختيارات، فيخرج إدراكه وهو يعمل بمقتضى ما جُبل عليه من محددات. ويدخل في البيئة كل شيء، حتى قوانين الفيزياء وما حدّه الله للبشر من سبل العلم والمعرفة. 

بل إن غايات العقل وأهدافه ورغباته ونزواته وشهواته كلها محدودة بحدود بيئته، إلا ما فطره الله عليه من النظر في السماء وطلب القرب منه وخروجه من قيود ما حوله. والعقل المجرد ليس عنده معنًى لأي شيء إلا إذا ظهر في بيئة تحيطه، فالبيئة هي التي تضفي على الأشياء معانيها. وعليه فالبيئة هي مشكِّلة العقل، وبقدر تغييرها يتغير العقل. 

والمجتمع أخرج أشياءً ما كان للعقل أن يدركها لولاه، وأولها اللغة، فلولا وجود غيرك من البشر ما كنت لتعرف شيئًا اسمه اللغة. وإن كانت مبتدئات اللغة شيئًا فطريًا كما يقول نعوم تشومسكي إلا أنها لن تخرج لو كنت وحدك في هذه الدنيا، لكن الحاجة للتواصل أخرجتها منك. ومن مخرجات تجمعات البشر: الحضارة والقوانين والفنون والآداب الاجتماعية، والتجارة وما فيها من مقايضة ومساومة، حتى الرجولة والأمومة والأخوّة والصداقة وغيرها من المتطلبات لطرف ثانٍ، وحتى المعارف والاكتشافات والمخترعات ما كانت لتصل لولا انتشار البشر؛ فكثرة البشر ترفع ذكاء أفرادهم حتى إن قلّوا قلّ ذكاؤهم. وهذا عالم الإدراك قاري لُبيان (Gary Lupyan) معنونٌ ورقة له بقوله: لا ذكاء إلا في سياق المجتمع. 

2. نقد البيانات

لو شئنا أن نجمع أسباب تعاظم الذكاء الاصطناعي في عصرنا لكانت البيانات قطعًا أهمّها وأولها. ولو نظرت إلى بيانات كبار تطبيقات الذكاء الاصطناعي لهالتك الأرقام؛ فشركة «OpenAI» قال باحثوها إن نظام «GPT-3» تعلّم على ما يعادل عشرة ملايين كتاب، ويُقال إن «GPT-4» تعلّم على ضعف هذا العدد 25 مرة! ولو قرأ الإنسان هذا لاحتاج مليون سنة ملازمًا كتابه لا ينام عنه ولا يسرح. وطبيعة الذكاء الحالي حاجته كمية بيانات هائلة للتدرّب، لهذا كان نقد البيانات هو نقدًا للذكاء الاصطناعي في عصرنا، وأي ذكاءٍ لا يقوم إلا بها.

إن كان عندك مطلوبٌ تريد تعليم الآلة عليه فأول شيء ترومه جمع البيانات المعينة للآلة على التدرّب. تريد برنامجًا للتعرف على الوجوه؟ جمّع صور وجوه. برنامجًا لتحديد الأمراض؟ جمّع بيانات أمراض. لكن ماذا تفعل لو كان المطلوب ليس له بيانات محددة معروفة؟ أو جمعها محالًا حتى لو عُرفت؟

من المطلوبات التي لن تجد بيانات جامعة لها: الجمال. هل عندنا بيانات (أو حتى يُقدر على جمعها) لمن جمُل من البشر؟ لجمال الطبيعة؟ لجمال الفنون والرسوم؟ فكيف بالأشياء التي جمالها في تفردها وندرتها، فإن كثُرت أو قُلّدت قبُحت؟ والندرة ضد ما تريده الآلة من كثرة البيانات ووفرتها.

ومن هذا جمال الآداب والأمثال، فهذا الحارث بن عُباد عندما طُلب منه القتال في حرب البسوس التي نشبت بسبب ناقة، قال: «هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل». وقوله صار يُقال في صغار الأمور قبل كبارها وفي أشياء لا نوق فيها ولا جِمال، بل يقال حتى في عصرنا هذا الذي حروبنا فيه بالبنادق والدبابات. ولو قال قائل: «هذه حرب لا بندقية لي فيها ولا دبابة» لكان قوله أقرب للطُّرفة منه إلى الحكمة، فانظر كيف أدرك العرب جمال عبارة واحدة متفردة دون طلب آلاف الأمثلة. 

أما الآلات الحالية فتعرف الجمال من كثرة ذكر الناس له بالخير أو ارتباطه ببيانات متعلقة بمفهوم الجمال، أو تترك الجمال كله وتنظر في شيء يُمكن قياسه. ومن هذا أنظمة التوصيات في مواقع الفيديوهات والأفلام، فهي عندما توصيك بمشاهدة شيء إنما تنظر في ماضيك في المشاهدات وتقارن بينك وبين من كان ماضيه كماضيك، فتقترح لك شيئًا أعجبه لعله يعجبك.

والبيانات ليست صبغة واحدة مطلقة الفهم والوضوح؛ فما كل البيانات كالأرقام الواضحات يعلمها البشر وتعلمها الآلة بلا تمييز أو تفريق، ولا هي كمجردات الفيزياء لا تتغير ولا تتبدل إن انتقلت إلى مكان غير الذي هي فيه، بل من البيانات ما هو شديد الخفاء، وإن تراكبت وتشابكت ازدادت خفاء وتضمينًا. ومثال ذلك السياق، فالحُمرة جميلة في الورود قبيحة في الجروح، والدماء مطلب في الحروب مَغرم في العهود، وصفرة البقر تسر الناظرين وصفرة النظر تغم الأقربين. 

وإن من تضمينات البيانات ما يحوّل المعنى حسب ذكاء السامع؛ فكلمة «لا حكم إلا لله» حق لا مرية فيه، لكنها لمّا قيلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فهم مراد الخوارج وقال: «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بهَا بَاطِلٌ».

وجميع أقوال البشر من غير الوحي لا بد خاضعة لمشاعرهم وما يخفون في صدورهم، بل لا أحد يتكلم ولا يسكت إلا وقد سبقت ذلك الفعل حالة في مزاجه مازجَت ظنه وفعاله. بل قد يطول هذا أبعد من اللغة إلى الصور والأصوات وغيرها مما تتعلم عليه الآلة اليوم؛ فأنا، إن صورتُ شيئًا، ما صوّرته إلا لحاجة في نفسي أو لطبعٍ تطبعت عليه أو لحالتي عنده من فرح وسرور وحزن وفخر وغيرها. 

كل شيء يخرجه ابن آدم لا بد من أن يترك أثرًا من نفسه فيه، وهذا يطال كل شيء حتى ما يُظن فيه التجرد كالعلوم، وإن من العلوم اليوم ما قد تشبّع بثقافة مخرجها، ومن يتعلم على أفراد هذه الأشياء كالآلة فقطعًا سيأخذ من هذا الأثر. أما البشر فإن هذا الأثر هو من صميم أنفسهم وطباعهم، وأمّا الآلة فما حاجتها لشيء من هذا؟ ما حاجتها للفرح إن تعلمت على نصوصٍ كاتبُها قد انتشى فرحًا وهو يكتبها؟ كيف بالنشوة والخوف والغضب والحب وغيرها من صفات البشر الحيوية الصرفة؟ نتيجة هذا آلة بطباع تشبه البشر، ولكنها لا تؤثر فيها كما تؤثر في البشر. فلأن جسد الآلة غير حيوي ولا عقلها، فهي تتعلم حالاتهم الحيوية الظاهرة دون التأثيرات الباطنة للجسد الحيوي. 

والعلم والمعرفة لا يتلقاهما الإنسان من مطالعة الكتب وسماع المحاضرات ومشاهدة الناس، وكل هذا أعمال خاملة نفعها قليل. بل إن أحدنا إذا أراد تعلّم شيء طالع المصادر وهو يمارس ويحاول، أما الآلة المتدربة على البيانات فأقصى علمها ما كتبه البشر، لا سبيل لها أن تجرب بنفسها ما تريد تعلّمه. 

هب أن أحدًا أراد تعلّم النجارة فراح واشترى كل كتب النجارة وسمع كل محاضرات النجارين وخرج إلى المصانع وشاهدهم يصنعون كل شيء، واكتفى بهذا ولم يمسك بمنشار واحد في حياته ولا دق مسمارًا، هل يستوي هو ومن نزل بنفسه إلى السوق وأخذ الخشب ونشَره وقطعه وصنع منه أثاثًا من أنواعٍ شتى؟ فهذا مثَل الآلة والإنسان.

والبيانات أقصى ما تعطيك إياه هو الترابط بين الأحداث، أما العلاقة السببية فلا سبيل للبيانات إلى أن تخرجها لك؛ لأن السببية لا بد فيها من التتبع العقلي والمشاهدة والتجربة وقابلية العقل للفهم السببي. أما الترابط فيكفيه رصد البيانات لكلا الحالتين لنقول إن هذه الحالة ارتبط حدوثها بتلك الحالة، وهذا غير الجزم بأن الحالة هذه هي سبب الحالة تلك، وهذا معدوم في البيانات ما لم تكن مكتوبة صراحةً. ولا بد هنا من استحضار قاعدة: الارتباط لا يقتضي التسبب. فارتباط حدثين لا يعني أن أحدهما سبب الآخر. 

لذلك هذا النوع من الآلات لا يُضمن؛ لأنه رهين البيانات وتوزيعها وترتيبها، فقد يغيب عنك شيء في البيانات تظنه هيّنًا لا نفع فيه، لكن الآلة جعلته من السمات التي تقرر عليها، وهذا من الاختصارات التي قد تتخذها الآلة ونحن عنها غافلون. 

مثلًا: درّب باحثون آلة لتمييز صور أمراض جلدية، فتحكم الآلة إن كانت الصورة تُظهر ورمًا خبيثًا أم حميدًا، ووجدوا أن الآلة تحكم على أي صورة فيها مسطرة بأن الورم فيها خبيث. ما السبب؟ لأن بيانات التدريب كانت على الأورام الخبيثة فيها مسطرة قياس (وهذا يفعله الأطباء لقياس أطوال الأورام)، فالآلة هنا لم تتعلم تفاصيل الأورام أو أحجامها أو أشكالها، بل تعلمت أن وجود مسطرة في الصورة مؤشرٌ أن المرض خبيث. 

ومثال آخر أن علماءَ صنعوا برنامجًا ليحدد إن كان في الصورة دبابات أم لا، ولمّا جربوه وجدوه قد نجح فيما أرادوا، ولكن لمّا تفحصوه لاحظوه لم يتعلم على مدافع الدبابات ولا أشكالها ولا أي شيء فيها، بل صدف أنه في بيانات التعلم كانت كل الصور التي فيها دبابات كانت السماء غائمة، فتعلمت الآلة أن المراد أثر الضوء والظل على الصورة، لا وجود جسم الدبابة أو عدمه!

ومن المسائل التي خاض فيها الناس مسألة أصل علم الإنسان وإدراكه هل هو فطري أم مكتسب. والحق وجود ضروريات أولية وقابليات قبلية وفطرة إلهية خلق الله الناس عليها، بها يحسون ويعقلون، ومنها ينطلقون ويحيون، وهي التي أعطتهم الصفة الآدمية والهيئة الخلقية التي جعلت الدماء تجري في عروقهم والنبضات تسري في أدمغتهم، ولو ما وُجدت لكانوا جمادات صماء لا تحس ولا تعقل ولا تتكاثر ولا تتفاعل. فالبشر وُجدت عقولُهم ثم ازدادوا علمًا بالبيانات والمشاهدات، أما الآلة فلا «تعقل» حتى تُغذّى بالبيانات كمًّا كبيرًا. فشتان بين من كانت البيانات له زيادة في العلم وبين من كانت له صناعة للعقل. 

ثم ما البيانات التي نحتاجها لصناعة «عقل» كعقل البشر؟ لا نعلم، فكل ما نفعله هو جمع كل البيانات التي بين أيدينا ثم نرميها على الخوارزميات، فنقول لها: تعلّمي وائتينا عقلًا مصطنعًا. وشتان بين من يأخذ بياناته بنفسه وبين من بياناته لا تأتي إلا من أمر غيره: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}.

3. نقد الخوارزميات

أتمتة الخوارزميات سِحرُنا أهلَ هذا الزمن. فبها طار البشر وصعدوا القمر، وبها تحرك الجماد ونطق الحجر. والذي أطلق العنان للخوارزميات هو الحواسيب؛ إذ إنها جعلتها تعمل من تلقاء نفسها دون تدخل البشر.

وإن ألان تورنق (Alan Turing) أولَ ما أسس علم الحاسب كان يتخيل الآلة بشرًا عنده تعليمات كُتبت في ورقة، وعمَلُه أن يحسب أول ما فيها إلى أن يصل آخرها فيكتب النتيجة، مستعملًا ورقة وقلمًا فقط، بل واشترط أن لا يُعمِل «البشَري» خيالَه وإبداعه وفكره.

فالخوارزميات في أصلها ما هي إلا سلسلة خطوات رياضية تُتّبع، فمن المسائل التي لا تستطيعها الآلات تلك التي تستحيل كتابتها بصيغة خوارزمية تستقبلها الآلة. وسأذكر لك بعضها:

متى يقول البشر عن شيء إنه جميل أو قبيح؟ هل عندهم نظام يُتّبع وخطوات مفصلات بها يصدرون الأحكام فيحكمون بالقبح والجمال؟ قطعًا لا. إنما حكمنا على شيء بالجمال لأن يكون قد بعث في أنفسنا شيئًا سرّنا بلا وعي منّا وتقصّد. 

ما من معيار وُضع للجمال إلا قد كُسر في أشياء أجمع البشر على جمالها. والجمال ليس مجردًا عن حامله، فكل الفنون داخلٌ فيها طلَب الجمال. فمتى نقول عن قصيدة إنها بارعة الجمال؟ هل نتبع نظامًا ذا خطوات وقائمةً بها المعايير، فما دخل فيها أجزناه وما خرج منها قبّحناه؟ 

أضرب لك مثلًا على استحالة جمع المعايير: لو كانت الخطوات ثابتة مفصلة لكان أهم شرطٍ فيها خلوها من التناقض وإلا فقد فسد الجرد وبعُد القصد. فكيف نصنع بوصف امرئ القيس لفرسه إذ قال: «مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا – كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ». فانظر كيف جمع الكر بضده الفر، والإقبال بضده الإدبار، ثم أكّد فقال «معًا».

ليس حديث الأخلاق ببعيد عن حديث الجمال؛ فأحسن الأخلاق لا نعرفها بموافقتها ترتيبًا خوارزميًا، بل هي شيء مفطورة عليه نفوسنا، وبرأ الله فينا حبها ومعرفتها، فلو أردت الإتيان بآلة يكون مُدْخَلها خلُق ما وبرنامجها يقرر إن كان الخلق حسنًا أو سيئًا لاستحال ذلك الفعل؛ لاستحالة الإتيان بخوارزمية رياضية تفرّق بين الأخلاق، هذا إن استطعت تعريف الأخلاق تعريفًا رياضيًا (وقل مثل هذا عما سبق وما سيأتي). 

ثم أرأيت حزنك على ما يضر وفرحك بما يسر؟ وتركك إذا سخطت وأخذك إذا رضيت؟ وعصمك إذا أُطعت وعزمك إذا عُصيت؟ أشيء من هذه الطباع والمشاعر تقدر على كتابة وصولك إياه في خطوات رياضية؟ فما بالك إذن بالذلة والإباء والضحك والبكاء والنعيم والشقاء؟ أشيء من هذا أمكَن لو كنت حجرًا أصمَّ متبعًا لخطوات؟ 

حتى وصف الحق من الباطل ومعرفتهما وإثباتهما ليس للآلة سبيل إلى علمه ما لم نُعلّمها، والرياضيات والنمذجة ليس لها القطع والفصل بين الحق والباطل، فبالرياضيات تُنمذج هيئة الأرض المسطحة وبها تُوصف كروية الأرض، أما القول الفصل فشيء من خارجها. وتأمّل قوله ﷺ في صحيح مسلم عندما سُئل عن الإثم: «الإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهْتَ أنْ يَطّلِعَ عليه الناسُ»؛ فلم يخبره عليه السلام بخطوات خوارزمية تُتّبع ليفسّر الإثم، بل تركه لفطرته النقية ولقلبه السليم.

لو أردنا الإتيان بشيء جامع يجمع كل ما سبق لقلنا: إن ما عرفه البشر فطرة في نفوسهم وتمحيصًا بوجدانهم يستحيل تحويله لخطوات خوارزمية، وعليه يستحيل على الآلة فعله. 

ولا ينفي نقصانَ الخوارزميات قدرتُها على الإتيان بشيء من خصائص البشر كالمشاعر مطلقًا، بل قد يكون منها ما يشبه ذلك إن برمجناها هكذا. لكن هي ناقصة أبدًا من جهتين: أنها تبعٌ لما عُلمت عليه. وأنها إن فعلت فلم تفعله لطبيعة منها وحاجة كما نفعل نحن، بل لأنه في خطواتها المُتضمَّنة أن هذا إن صار فهذا جوابه. وفعلها هذا يوحي للناس أنها عاقلة متطبعة بطباع كالبشر، والحقيقة أنها متَّبِعة لخطوات وافقت ما صار أمامها، ليس تطبعًا طبيعيًا بوعيٍ وإدراك كما يفعل البشر.

وعليه فالآلة لن تخرج بإرادتها عن أمرين: الخوارزمية المشغلة لها والبيانات المدخَلة فيها. وهذا يمنعها من عمل ما تريده هي من تلقاء نفسها أو أن تنوي شيئًا ليس مكتوبًا عليها وبُرمِجَت عليه؛ فالآلة ليست بمشتهية شيئًا إلا ما قد برمجت عليه، ولا طامعة في حاجة إلا ما أُجبرت عليه، ولا متطلعة لغاية إلا غاية ما أُدخل فيها، جهِله الذي برمجها أو علِمه.

4. نقد الذكاء الاصطناعي الحالي

معظم المشتغلين بالذكاء الاصطناعي في عصرنا هم أهل تعليم الآلة بالبيانات، وأي ذكاء اصطناعي تسمع به اليوم فإنما اتبع طريقتهم في تعليم الآلة، وأهمها «التعلّم العميق». وهو باختصار مخل: عملية إحصائية تعطيها بيانات للتدريب ضخمةً فتخرج لك نموذجًا بعوامل جمّة، ومعايرة هذه العوامل لتوافق البيانات المدخلة هي ما يسمونه التعلّم. 

وفي العموم تزداد قدرة الآلة بزيادة عدد العوامل، وقد تصل إلى الترليونات في النماذج الحديثة. ونقد التعلّم العميق كثير جدًا، وتجد فصولًا في كتب تعليمه مبوّبة بقصور الطريقة. من ذلك مثلًا أن فرنسواه شوليه نقده في كتابه فقال: «وكل ما لا يتم إلا بإعمال العقل، كالبرمجة والطبيعيات، وبُعد التدبير وتقليب البيانات، ليس للتعلم العميق سبيل إليه ولو أعطيته ما أعطيته من بيانات».

من الافتراضات عندهم أن كل ما يقدر البشر على بسط أيديهم عليه من بيانات يعبّر عن أي ظاهرة يراد تعليمها للآلة، أهمها التعقل والذكاء. وهذا الافتراض خاطئ من أوجه كثيرة. أولها ما ذكرته في فصل نقد البيانات وبسطت القول فيه. وثانيها أن من الحالات ما هو شديد الندرة ولكن أصنافه كثيرة، وأن بعضها منتشر معروف ولكن أصنافه قليلة، وهو الذي يُقال عنه «توزيع الذيل الطويل». 

ولهذا أمثلة كثيرة لا تُحصر، منها قيادة السيارة، فمعظم قيادتك شيء تلقائي لا تفكر فيه، ولكن تمر عليك حالات كثيرة تستفزك فتجعل كل تركيزك فيها، كأن يقترب طفل من حدود الطريق، أو حادثة أغلقت نصف المسار، أو مطر شديد أغرق المكان، أو رجل مرورٍ يشير بيديه أن ارجعوا، أو جهة انتهى منها الطريق المعبّد ولا تملك إلا أن تقود فوق الحصى. كل هذه الحالات نادرة، لكنها معقولة وأصنافها كثيرة لا يجمعها جامع، فالآلة المحتاجة لآلاف الأمثلة لن تجد شيئًا من ضالتها هنا.

ومن الوجوه أن معظم الظواهر ليست «مسرانية» (non-ergodic)، بمعنى أن إحصاءها بأدوات الإحصاء في أي زمان ومكان لن يكون إلا بتفريطك في معلومات عنها. والكون كله وما فيه من آحاد الأحداث ليس بمسرانيّ؛ فكل لحظة في الزمان تُخرج لك شيئًا ما وُجد لا في زمان قبله ولا مكان، بل البشر بأفعالهم يحدثون أمورًا يستحيل تتبُّعها لو جُرِّد كل فعل من أول يوم خلق الله فيه الكون إلى يومنا هذا. 

إن أخذك المتوسطات الحسابية من لحظة الوجود المادي الأول إلى قبل خلق البشر لن ينفعك لو أردت توقّع وحساب أثر البشر على الكون. وشاهد هنا قصة خلق آدم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}؛ فقالت الملائكة متنبئة بما سيكون عليه أمر هذا المخلوق بما عندها من علم سابق: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. فقال الله تعالى العالم بكل شيء: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. فانتفاء المسرانية عن الكون لا ينفي دقة شيء من التوقعات، فما قالته الملائكة وقَع حقًا، ولكنها عمِيَت عن أمورٍ كتبها الله وعلِمها كإرسال الرسل، ومنهم محمد ﷺ خير خلق الله كلهم جميعًا المنزل عليه القرآنُ هدًى للناس وفرقانًا. فمن كانت عنده بيانات الكون كلها ما كان ليعلم أن ستأتي لحظة في الزمان يُولد فيها الهدى فتشع الكائنات ضياءً ويتبسّم فم الزمان ثناءً، صلى الله على من أرسله الله للناس بشيرًا ونذيرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ومن افتراضاتهم أن النموذج الرياضي المخرج من تعليم الآلة (وهو معادلة طويلة بعوامل قد تصل للمليارات) كافٍ لنمذجة أي ظاهرة في هذه الدنيا، ولو كانت عقول البشر. وهذا الافتراض هو الذي حمل يوبست لاندقريبي وباري سمث على كتابة كتابهما «لمَ لن تحكم الالآت العالم». وحجتهما ما يأتي:

  1. لمضاهاة عقل البشر لا بُد من تقنية ذكية كذكائهم أو أشد.

  2. لصنع التقنية المطلوبة ما عندنا إلا محاكاة عقول البشر.

  3. محاكاة البشر لن تكون إلا بنموذج رياضي يقبل مدخلات ويُخرِج إدراكًا.

  4. تستحيل صياغة الأنظمة المتراكبة بالرياضيات.

  5. عقل البشر نظام متراكب.

  6. عليه، يستحيل الإتيان بتقنية تضاهي البشر عقلًا وذكاءً.

5. النقد الشرعي

مذاهب الناس في أصل مادة العقل كثيرة ومختلفة طرائقها، وهم على فئتين ثم ينقسمون: الواحديون والثنائيون. الواحديون يقولون إن العقل شيء مادي لا غيب فيه. والثنائيون يقولون بوجود شيء زائد على مادة الجسد، وهذا الشيء له أسامٍ كثيرة منها الروح والنفس والنسمة، وقد يفرق بعضهم بينها، ومنهم من يقول بأن الزائد عرَض مادي. 

وتفصيل هذه المذاهب شيء يطول جدًا، بل إنك ترى في كل نوع مذاهب ولكل مذهبٍ مذاهب أُخَر، كيف لا يكون هذا والعقل أعقد شيء في الوجود كله، فلو لم يختلف الناس فيه لما اختلفوا في شيء بعده أبدًا. إلا أن المقطوع به دينًا والنازل به قرآن وسنة والمعلوم في نفوس الناس ضرورةً أن في جسد الإنسان شيئًا زائدًا على مادته.

فالإنسان بلا هذه الروح جمادٌ لا حياة فيه ولا شعور ولا إرادة، فالميت لا يُعذّب في قبره أو يُنعّم إلا بعد أن ترجع الروح إلى جسده بعد أن أخذتها الملائكة منه وصعدت بها إلى السماء، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (... فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك، فيقول...)؛ فلو كان الشعور بالألم والنعيم يكفيه الجسد أو أن الكلام يكون بلا روحٍ لما رُدَّت روحه. وآدم أولُ حركة له أولَ ما خُلق كانت عطسة بعد أن دخلت الروح من رأسه «لمّا نُفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله» كما في صحيح ابن حبان. ورسول الله ﷺ يرد على من سلّم عليه من المسلمين، ولا يكون ذلك إلا بردّ روحه إلى جسده كما في سنن أبي داود «ما من أحد يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام»؛ فلو كانت الروح شيئًا زائدًا لما رُدَّت. حتى تعارُف الناس وتآلفُهم وتناكرُهم للأرواح فيه أثر: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» رواه مسلم.

والحق أن تفاصيل عمل الروح نقلًا في الجسد قليلة، وإن تنزّلنا وقلنا إنّ عمل الروح هو فقط ما ذكرنا وأن الباقي عمل الدماغ والجسد، فهذا كافٍ بأن يكون الجسد ناقصٌ دون الروح. 

وعليه فحتى لو قلنا بإمكانية صناعة جسدٍ مطابق لجسد الإنسان وذكاءً اصطناعيًا يشابه كل ذكائه، فلا تزال الاستحالة باقية لأن تكون هذه الآلة مطابقة للإنسان؛ لأنه يزيد عليها بهذه الروح، فيستحيل عليها إذن أن تكون حيةً وتشعر بالنعيم والعذاب كما يشعر الإنسان، وأن تأتلئف وتختلف، وغير ذلك من الصفات المذكورة شرعًا. ولا يعني هذا استحالة المحاكاة (كما هو عمل الآلة اليوم)، بل استحالة المطابقة.

ومن عجيب نقد الذكاء الاصطناعي أن تورنق قبل 70 سنة، في أشهر أوراقه في تعقّل الآلات، ذكر نقودات للناس في زمانه. وكان أول شيء ذكره حجة الروح. ولا تكاد تجد أحدًا في زماننا هذا يستشهد بالروح إلا بقية من أهل الكتاب وقليلٌ من المسلمين. وما هذا إلا لانتشار الفكر المادي وعلمنة العلوم عند كثير من المتدينين، فيؤوّلون ما لا يقبله مجتمع العلماء أو ينكرونه.

الخاتمة

لا أنفي تغلّب الآلة في أشياء هي من خصائصها، كغلبتها في الحساب والشطرنج وغيرها من المهمات الرياضية. والقول الفصل لشيء إن كانت ستستطيعه الآلة: أن يكون قابلًا أنْ يُحوَّل إلى خطوات خوارزمية. فأي شيء في تعقّلنا ننتجه باتّباعنا لخطوات خوارزمية فالآلة قادرة عليه، وقد تغلب البشر فيه. أما أن تغلبه في شيء من خصائص البشر فهذا عين المحال، كما بسطتُ في هذه المقالة.


في هذه المقابلة، يحلل عالم اللغويات نعوم تشومسكي قدرات الذكاء الاصطناعي ونماذجه مثل «تشات جي بي تي»، الذي يقول أنه ببساطة «ذكاء ضعيف» لا يجاري العقل البشري وقدراته الذهنية المعقدة، ويفتقر للوعي والفهم الحقيقي، ولا يمكنه إدراك قواعد لغوية يكتسبها الإنسان بالفطرة لا التعلّم!


في حلقة «دراما قضاء الآلة على وظائفنا» من بودكاست جادي، يناقش محمد آل جابر وهادي فقيهي ويزيد الرويلي قدرة الروبوت والذكاء الاصطناعي على استبدال الإنسان في الوظائف، وأنواع الوظائف الأكثر تأثرًا، والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي ستنجم عن التوسّع في الاعتماد على الروبوتات والذكاء الاصطناعي بدلًا عن البشر.


أشارك في هذه الفقرة رسائل القراء وآرائهم حول أي رأي طرحه العدد السابق، سواءً وافقوه وأضافوا عليه أو نقدوه.

شاركنا رأيك بالرد على هذه الرسالة، أو عبر بريد النشرة safha@thmanyah.com، على ألا يتجاوز مئتي كلمة.

متطلّع لأفكارك!


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
منثمانيةثمانية

نشرة أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات تحليلية لكتّاب بمجالات عدّة. يمنحونك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+490 مشترك في آخر 7 أيام