تطبيع الأمراض النفسية لن يزيل وصمتها
ساعد المحتوى التوعوي في الأمراض النفسية أعدادًا كبيرة من الناس، لكنه خذل أضعافهم في الوقت نفسه.
معاذ العميرين
كانت قاعة الندوات ممتلئة بالحضور من مختلف الأجيال، حيث اجتمع الناس أمام أشهر نجوم إعلام الصحة النفسية، يستمعون إليهم وهم يتحدثون عن تجاربهم في صناعة المحتوى التوعوي، قبل تفوُّه أحدهم بما قد تكون أكبر كذبة في مجال الطب النفسي المعاصر! نظر ذلك الطبيب الشهير إلى جمهوره في القاعة، وإلى كاميرات هواتفهم الموَجَّهَة نحوه، ثم قال بنبرةٍ امتزجت فيها السعادة بالفخر: «لقد تمكنّا من القضاء على وصمة الاضطرابات النفسية في المجتمع».
في تلك اللحظة استطعت رؤية أثر هذه الكلمات على ملامح الحضور، غمرتهم السعادة حتى ارتسمت على مُحياهم وهم يتبادلون نظرات الفخر فيما بينهم. فهناك مَن يدَّعي تفهُّم معاناتهم الصامتة، ويعمل على توفير مساحاتٍ تمكنهم من الحديث عنها.
إن هؤلاء النجوم الذين اشتهروا بمحتواهم على مواقع التواصل يقولون إن الوصمة المؤثرة على طبيعة تفاعلاتنا مع الآخرين هي في حقيقتها آلية ذهنية قائمة على التنميط السلبي، حيث يدفعنا الجهل المصحوب بالقلق إلى تصنيفهم وفق خصائصٍ محددة، لنرسم بها صورًا نمطية قابلة لتعميم على جماعاتٍ بأكملها. فمن المنظور التوعوي تكمن الإشكالية في انتشار المعتقدات المُرَسِّخة للتصوُّرات السلبية عن طبيعة هذه الجماعات (كالاعتقاد بضعف مرضى الاكتئاب أو خطورة مرضى الفصام أو فساد مرضى الإدمان)، وأن السبيل الوحيد للتحرر من سَطوة الوصمة على أذهاننا هو نشر المعرفة المفندة لمعتقداتها الخاطئة.
وعلى هذا الأساس يتفنن صُنَّاع المحتوى في تقديم محتواهم بأشكالٍ تناسب الذائقة الاستهلاكية (كالمنشورات والتدوينات والمقاطع القصيرة)؛ لضمان وصولها إلى أكبر عددٍ من الجماهير على شبكات الإنترنت.
كل شيء في تلك القاعة كان يوحي بصدق ما قاله الطبيب، من إقبال الحضور على الندوة إلى تفاعلهم مع مواضيعها. لكن الوصمة أعقد مما يبدو لنا في الظاهر، وإتمام القضاء عليها ما زال بعيدًا عنا في الوقت الراهن. هذا يضعنا أمام مفارقة جَلية لا مناص منها: كيف قضينا على الوصمة وهي لا تزال بيننا اليوم؟ هل هذا يعني أننا قضينا على وصمة اضطراباتٍ معينة دون الأخرى؟ أم هناك خلل في المنظور العام الذي يتبناه إعلام الصحة النفسية حِيال المسألة؟ حملتُ معي هذه الأسئلة إلى خارج القاعة فور انتهاء الندوة، محاولًا البحث عن الإجابات التي ستمكننا من فهم الوصمة على الوجه الأمثل.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، ولم يتطلب مني بحثًا مُعَمَّقًا؛ لأن الوصمة في الواقع دائمًا تكون أمام أعيننا؛ فكل ما علينا فعله هو التمعُّن في طبيعة تفاعلاتنا مع الآخرين. إن «الآخر» في هذه القصة لم يكن غرائبيًا مُخيفًا يستوجب الحيطة، بل هو مجرد شابة في أحد مواقع التواصل على الإنترنت، توثق يومياتها خلف حساب شبه شخصي (لا نعرف سوى اسمها الأول)، وتشاركنا ما يعجبها من أنواع الفنون المختلفة. وكأي قصة تراجيدية كانت هناك «هُبوب» مُنذرة بقدوم عاصفةٍ ستقلب حياتها رأسًا على عقب، فحين كشفت الشابة اسمها الكامل وجزءًا من صورتها الشخصية على حسابها الخاص لم يتوقع أحد أنها ستتبع ذلك بسيلٍ من الكتابات المثيرة للسخط.
للوهلة الأولى شعرتُ بالحاجة إلى غض البصر عن الكتابات التي لم تتناسب مع شخصيتها كما نعرفها سابقًا، لكنها استمرت ساعاتٍ وساعات حتى أصبح من المستحيل التغاضي عن الموضوع. كان هناك خطب ما، فالكتابات أصبحت غير مترابطة وغير مفهومة، تتخللها صور وتسجيلات بلا مغزى، كما أن سيلها امتد أكثر من 72 ساعة. لا أعتقد بأن الشخص هنا بحاجة إلى درجةٍ علمية في الطب النفسي ليستوعب أننا أمام حالة تتطلب المساعدة، لكن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا!
في تلك القاعة، في تلك الليلة، حين صَرَّحَ الطبيب الإعلامي بأننا قضينا على وصمة الاضطرابات النفسية، من أي منظور كان يتحدث؟ حتمًا لم يكن من منظور واقعنا المعيش؛ لأني في هذا الواقع رأيت شخصًا صوّر كتابات الشابة ونشرها أمام مُتابعيه، وقد أرفق الصور بتعليقٍ ازدرائي ليقرأه الجميع ويشاركوه حفلة رجمها الافتراضية. فمع وجود اسمها كاملًا وظهور جزء من شكلها الشخصي لم يعد التراجع أو النسيان ممكنًا. إن ما كتبته في تلك الظروف الصحية الصعبة سيبقى في ذاكرة الإنترنت للأبد. أليس هذا هو المعنى الفعلي لأن يوصَم الإنسان؟
إن هذه الحادثة المؤسفة تكشف لنا الجانب الخفي من الوصمة، الجانب المسؤول عن استمرارية ممارساتها الاضطهادية أكثر من 250 عامًا، الجانب الذي يتحاشى نجوم إعلام الصحة النفسية الحديث عنه في ندواتهم. إنها الوصمة بوصفها أداةً سُلطَوية تُستَخدم لشيطنة «الآخر» وإحكام السيطرة عليه! هذا يغير كل شيء؛ فنحن لم نعد نتكلم عن آلية ذهنية قائمة على التنميط السلبي فقط، بل عن آلية ضبطٍ تعمل على تنظيم سلوكيات أفراد المجتمع.
إذن، لكي نجتث المشكلة من جذورها علينا إعادة تقييم إستراتيجياتنا بخصوص محاربة الوصمة؛ فقد ساعد المحتوى التوعوي أعدادًا كبيرة من الناس، لكنه خذل أضعافهم في الوقت نفسه. تحدث كل يوم قصص مُريعة، في الشوارع والبيوت والمدارس حتى الإنترنت، بسبب وصمة الاضطرابات النفسية، وهذا يجعلها بعيدة كل البعد عن لحظة زوالها.
إن ما تعرَّضت له الشابة في تلك الفترة العصيبة من حياتها قد يحدث لأي أحد في أي وقت؛ فلا أنا ولا أي قارئ لهذه المقالة مُحصَّنون من تَقلُّبات الحياة. نحن بحاجة إلى تحليلٍ تاريخي يكشف لنا الطبيعة الديناميكية التي مكَّنت الوصمة من البقاء، حتى يتسنى لنا استيعاب تمظهراتِها أوّلًا، ثم توفير الحماية المستحقة للجميع ثانيًا.
والآن دعونا نسأل: ما حقيقة الوصمة؟ وكيف تحوّل مفهومها عبر التاريخ؟
كلمات مُخادعة ومفاهيم منقوصة
حسنًا، لنبدأ من المفاهيم كما نعرفها اليوم؛ حين نفكّر بـ«الوصمة» تستحضر أذهاننا ممارسات الازدراء والتمييز المؤثرة في وجداننا لا أجسادنا (كالتعرُّض للإساءات اللفظية وما يتبعه من شعورٍ بالعار). لكن هذا المفهوم بتصوراته النفسانية عن طبيعة «الوصمة» وأثرها على الفرد لا يتوافق مع أصل الكلمة ولا تاريخها الطويل!
ففي لغتنا العربية نقول: «وَصَمَ العود»، أي شقه دون أن يتفتت. و«الوَصْم» هو الصَّدْع؛ فنقول: «سقفٌ به وَصْمة». وعليه نستشف أن للكلمة استخدامات ذات دلالة مادية (كالشَقّ و الصَّدْع)، إضافة إلى الاستخدام المجازي الدارج لدينا بمعنى العيب؛ فنقول: «وَصَمَ فلانًا»، أي عابَهُ وتنقَّصَ من قدره.
وفي اللغة الإنقليزية نجد كلمة «الوصمة» (Stigma) في معجم أكسفورد مُرتبطة بـ«العلامات» (Marks) المادية والمجازية أيضًا، فهي:
علامة أو سِمة مميزة على نحوٍ سلبي.
علامة خزي و عار.
علامة تُدمَغ على الجلد باستخدام الحديد الساخن كنوعٍ من الإذلال أو الإخضاع.
فجميع التعريفات العربية أو الإنقليزية تدل على ارتباط «الوصمة» بالقوى ذات الأثر المادي الذي تلاحظه العين؛ فتُمَيِّز الموصوم من غيره. وجميعها تنطلق من كون «الوصمة» علامة يحملها الجسد ليكون بمثابة الهدف المتحرك لممارسات الاضطهاد في مجتمعه. هذا يكشف لنا أمرًا في غاية الأهمية، وهو أن مفهومنا عن «الوصمة» لا يُرينا سِوى الجانب النفساني من المسألة؛ فهناك جوانب أخرى متعلِّقة ببنية المجتمع أصبحت مغيَّبة عنا تمامًا!
الكل يتحدث عن «وصمة العار» كما لو أن هذا كل ما يُعاني منه الموصوم. لا أحد يتحدث عن «وصمة المكانة» أو «وصمة الحقوق» أو أي من المشكلات الاجتماعية اللانفسانية المرتبطة بممارساتها! فما الدافع وراء هذا التغييب؟ وهل هو مُتعمَّد أم لا؟
لكي نجيب عن هذه الأسئلة علينا أولًا توضيح معالم التوجه التوعوي الذي يتبناه إعلام الصحة النفسية ونجومه.
التوجه الفرداني لخطابات التوعية
لنعد مجددًا إلى خطابات التوعية بالصحة النفسية، ونتفحَّص طرحها مشكلات الوصمة التي يعاني منها المرضى، وسنجدها في المجمل تتحدث عن الممارسات الفردية، خصوصًا من أولئِك الذين يجهلون طبيعة الاضطراب النفسي:
أب يُعنّف ابنه في البيت؛ لأنه يجهل أعراض اكتئابه.
معلمة تُخاصم طالبتها في الفصل؛ لأنها تجهل أعراض قلقها.
مراهق يتنمَّر على زميله في المدرسة؛ لأنه يجهل أعراض وسواسه القهري.
فمن المنظور التوعوي نجد أن التعنيف والمخاصمة والتنمر، وغيرها من ممارسات الوصمة، تُعد سلوكيات فردية ناتِجة من سوء فهم ما يُعاني منه المرضى. إنها إشكالية جهل في المقام الأول، وهذا يجعل حلولها الجذرية مرتبطة بنشر المعرفة عن طبيعة الاضطرابات النفسية، بتوظيف وسائل الإعلام المتنوعة لصناعة محتوى تثقيفي قادر على الوصول إلى الجميع. فبمجرد استيعاب الفرد لما له وما عليه (كالقدرة على ملاحظة الأعراض وتقييم الحاجة للذهاب إلى الطبيب النفسي)، سيُصبح عضوًا واعيًا في مجتمعه، وسيعمل على تصحيح المعتقدات المغلوطة، كما أنه سيُسهم في القضاء على ممارسات الوصمة الاضطهادية.
على هذا الأساس، لو رجعنا خطوة إلى الوراء ونظرنا إلى الصورة الفردانية التي يحاول الإعلام رسمها فسنرى أنه لا يوجد شيء خارج ثنائية «الجهل و المعرفة» التي فصَّلنا فيها، وهذا يجعل إشكاليات الوصمة تبدأ وتنتهي بالفرد. بمعنى أنها مسألة متجذرة في النفس البشرية، وكل ما نحتاجه هو المزيد من التثقيف الصحي، والمزيد من المنشورات، والمزيد من التدوينات، والمزيد من المقاطع التوعوية، حتى نُحكِم السيطرة على أثر جهل الإنسان بنفسه، فلا ينجرف إلى اضطهاد غيره، ولا يغرق في دوامة الشعور بالعار.
لكننا سبق أن حاججنا على أن الوصمة أشد تعقيدًا من ذلك؛ فهي مسألة متجاوزة لحدود سيكولوجية الفرد، وتمتد جذورها إلى أعماق بنية المجتمع، حيث المؤسسات البيروقراطية لا تعترف بثنائية «الجهل و المعرفة»، وهذا يضع إعلام الصحة النفسية في مأزق!
المؤسسات البيروقراطية لا تكترث بمعاناتك
الآن دعونا نرسم صورة مختلفة أقرب ما تكون إلى واقع حياتنا بكل تفاصيلها المعقدة، بعيدًا عن الاختزال النفساني لإشكاليات الوصمة:
مدير يقرر فصل موظفه غير المنتج من الشركة، لا لأنه يجهل أعراض اكتئابه المؤثرة على عمله؛ بل لرغبته في توظيف شخصٍ آخر قادر على تحقيق الأهداف الربحية قبل نهاية السنة.
طبيبة تتجاهل شكوى إحدى المراجِعَات في الطوارئ، لا لأنها تجهل أعراض قلقها المؤثرة على صحتها؛ بل لاعتقادها بأن الشكوى هي مجرد وهم لا يستحق الاهتمام الكامل من الفريق الطبي.
هنا نجد أن هذه الأمثلة تتعارض مع كل ما يصوره إعلام الصحة النفسية عن الوصمة وممارساتها؛ فهي:
ليست سلوكيات فردية في المجمل: إن صنيع المدير في الشركة، والطبيبة في الطوارئ، يكشف لنا دور المؤسسات في تمكين ممارسة الوصمة ضد مرضى الاضطرابات النفسية.
ليست ناتِجة بالضرورة من الجهل: إن قرار المدير بتسريح الموظف من الشركة، وتجاهل الطبيبة لشكوى المراجِعَة في الطوارئ، كان مَبنيًا على أساس معرفتهما بالاضطرابات التي يعانيان منها.
ليست محصورة على الأثر النفسي: إن ما قد يُعاني منه الموظف بعد فصله من العمل، وما قد تُعاني منه المراجِعَة بعد تجاهل شكواها، لا يمكن اختزاله في الجانب النفساني لشعور بالعار.
هذا يكشف لنا الوصمة في أبشع صورها؛ فالرجل المفصول من عمله أصبح الآن على حافة «منزلق السلم الاجتماعي» (Social Drift)، حيث ستؤدي البطالة إلى تفاقم حالته الاكتئابية، وهذا سيُقلل من فرص توظيفه مجددًا. وهكذا يستمر انزلاقه حتى يجد نفسه يصارع من أجل لقمة العيش. لا المدير يكترث، ولا الشركة تكترث؛ لأن غايتهما النهائية هي تحقيق الأهداف الربحية. فإن كانت حالة الموظف تؤثر على كفاءته في العمل فالمنطق البيروقراطي يحتم على الإدارة استبدال موظفٍ آخر كفء به.
ونرى بشاعة الوصمة أيضًا في تعامل قسم الطوارئ مع شكوى المراجِعَة، حيث يُعد هذا التجاهل من أنواع «الاضطهاد المعرفي» (Epistemic Injustice) الممارَس ضد مرضى الاضطرابات النفسية؛ فالطبيبة حَكَمَت على المراجِعَة بتَهويل شكواها دون التأكد من صحة ذلك؛ فهي استندت إلى تاريخها المرضي فقط، وقررت بناءً عليه ألّا تعطيها الأولوية في مُعاينة الشكوى. فماذا لو كان العَرَض الذي تشتكي منه حقيقيًا؟ ماذا لو كانت تصرخ ألمًا وسط لامبالاة الجميع؛ لاعتقادهم بأن ما تشعر به هو نِتاج تخيُّلات عقلها القَلِق؟
هذه السيناريوهات مُخيفة بحد ذاتها، لكن ما يُخيفنا أكثر هو إمكانية حدوثها لنا في الواقع. إنها تحثنا على مُساءلة إستراتيجية خطابات التوعية؛ فقد رأينا كيف يمكن للوصمة تهديد سلامتنا الجسدية والنفسية حتى المعيشية. لكن الإعلام التوعوي اختار توجُّهًا فردانيًا يعزل الإنسان عن سياقات حياته داخل مؤسسات المجتمع، ليحصر كل معاناته في الجانب النفساني، وليحصر كل الحلول في تثقيفه الصحي!
لنتوقف هنا قليلًا ونسأل أنفسنا: لماذا لا يوجد توجه توعوي لتثقيف المؤسسات عن الوصمة وممارساتها؟
مأزق إعلام الصحة النفسية
إن الإجابة عن هذا السؤال بديهية: نحن لا نرى حملات توعوية تخاطب مؤسسات المجتمع؛ لأنها ليست كيانات عاقلة، فلا يمكن أن نعاملها معاملة البشر! إنها منظومات مكونة من مجموعات بشرية، لكنهم يعملون وفق نظام بيروقراطي معين، وهذا يدفعهم إلى تأدية أعمالهم بشكلٍ أوتوماتيكي، كما لو أنهم أتراس في ماكينة عملاقة. وهنا يكمن تعقيد المسألة؛ لأن هذا النظام هو مَن يُمارس الوصمة من خلال موظفي المؤسسة.
لنعد إلى الأمثلة السابقة ونتصور الأمر على النحو الآتي:
لو قدمنا ندوة لجميع موظفي الشركة من مديري الأقسام إلى الطَلَبة المتدربين، وحاولنا تثقيفهم عن طبيعة الاضطرابات النفسية، فهذا لن يُحيّد الإدارة عن قرار فصل الموظف المكتئب؛ لأن قرارها كان مَبنيًا على أساس منطق بيروقراطي لا يعرف سِوى لغة القوانين ولا يسعى إلا لرفع كفاءة العمل بأسرع وأرخص طريقة ممكنة. حتى لو كان قسم الموارد البشرية مُتعاطفًا مع الموظف، فسوف ينفذون القرار اتباعًا لأمر المدير. وحتى لو كان المدير مُتعاطفًا مع الموظف فسيصدر القرار تحقيقًا لرغبات مجلس الإدارة. وهناك احتمال كبير بأن أعضاء المجلس لا يعرفون مَن الموظف ومم يشتكي، إنه مجرد رقم في ملفات الشركة في نظرهم.
وهذا ينطبق أيضًا على المراجِعَة في الطوارئ، حيث تُشكّل الظروف التي توجِدها المؤسسة البيروقراطية داخل المستشفيات، الدافع الرئيس وراء التمييز في ترتيب أولوية الحالات المرضية. ولو سألنا الطبيبة عن سبب تجاهلها شكوى المراجِعَة لأجابت بأن هناك عشرات المرضى على الأسِرّة، وعشرات المرضى في قاعة الانتظار، كما أنه لا يوجد سِوى عدد قليل من الأطباء لمعاينتهم. ومن بين أوجاع مرضى القلب، وأوجاع ضحايا الحوادث، وغيرها من الأوجاع التي يُعاينها أطباء الطوارئ يوميًا، ستجد وصمة الاضطرابات النفسية طريقها إلى ممارساتهم، لتزرع الشكوك المتخفية وراء المنطق الطبي، وتدفعهم إلى تسخيف معاناة المرضى النفسيين، بحجة أن عقولهم القَلِقة قد هوّلت ما يشعرون به.
إن المسؤولية هنا تقع على عاتق المؤسسة أولًا؛ لأنها أوجدت الظروف المُمَكِّنَة لارتكاب الأفراد مثل هذه الممارسات. لذا نقول: إذا أردنا حماية المرضى من أثر الوصمة في حياتهم فعلينا تحديد مكامن الخلل في الصورة الكبرى بجوانبها النفسانية والاجتماعية، ثم العمل على إيجاد حلولٍ متوافقة مع كل مشكلة؛ فلا يُعقل الاعتماد على المحتوى التوعوي لتصحيح المشكلات المؤسساتية؛ فالموظف بحاجة إلى قوانين تردع مديره عن اتخاذ قراراتٍ تعسفية بحقه، والمراجِعَة بحاجة إلى قوانين تُلزم المستشفيات بتوفير عددٍ كافٍ من الأطباء لتقديم خدماتٍ لائقة. وهذه القوانين تأتي نتيجة التعاون مع الجهات المختصة على المستوى التنظيمي، حيث يتشارك الجميع تحسين أوضاع المؤسسات وخدماتها على أرض الواقع.
الحقيقة المسكوت عنها
في هذه اللحظة يمكننا رؤية مأزق خطابات التوعية بكل وضوح: إنها عاجزة عن التعاطي مع التعقيدات الاجتماعية للوصمة، وهذا دفعها لتهميش هذه الجوانب وإخراجها من الصورة عند صياغة مفاهيمها.
الإشكالية هنا لا تكمن في العجز بحد ذاته، بل في خداع عامة الناس بخصوص مُعاناتهم وما يمكن فعله لمساعدتهم. ففي الواقع لا أحد يُطالب إعلام الصحة النفسية بإصلاح مشكلات المجتمع، ولا ننتظر من نجومه اتخاذ مواقف حازمة تجاه القضايا الشائكة. لكنهم ارتكبوا إثمًا فظيعًا حين صوَّروا مُعاناتنا على أنها نِتاج اعتلال أدمغتنا وعطب جيناتنا وسوء فهم المجتمع لذلك؛ فقد تعمَّدوا إخفاء أثر هذا العالم الذي يحتضن صراعاتنا في الحياة، ليُسلِّطوا الضوء علينا كأفرادٍ معزولين عما يحدث من حولهم، كما لو أن الحروب والمآسي والجشع والظلم هي مجرد عوامل هامشية لا علاقة لها باضطرابنا النفسي!
هذه مسألة في غاية الأهمية ولا يمكن تجاهلها، وعلينا مُصارحة أنفسنا إذا أردنا الوصول إلى الحقيقة خلف كل هذا الخداع.
من المسؤول عن هذه الحالة المتأزمة في عصرنا الحاضر؟ كيف يستفيد من حجب الحقائق ونشر الأكاذيب بخصوص معاناتنا النفسية؟ وما السبب الحقيقي وراء شح إنتاج المحتوى الذي يناقش الوصمة من المنظور الاجتماعي؟ إن التفكر في الإجابات المحتملة لهذه الأسئلة يوحي لنا بوجود قيودٍ مفروضة على المواضيع التوعوية وما يمكن قوله عند الحديث عن الوصمة وممارساتها. وهذا يعطينا انطباعًا مُشابهًا لتطور أحداث القصص البوليسية، حين يكتشف فريق التحقيق أن القضية التي يعملون عليها أعمق مما تبدو في الظاهر، وأن إجابة كل سؤال ستقودهم إلى سؤالٍ آخر أشد تعقيدًا مما سبقه.
وكما هو الحال مع هذه القصص وقضاياها الغامضة، نجد كل الخيوط الممتدة على جدار الأدلة (الأكاذيب الإعلامية، والتوعية المُقيَّدة، والمعاناة المسكوت عنها) تشير إلى علامة الاستفهام الكبرى في المنتصف. فحين تتشابك الأمور وتتعقد المسائل وتنقطع كل سُبل التقدُّم يأتي الفَرَج من هذا المأزق بعودة المحققين إلى أصل القضية؛ ليراجعوا معطياتها ويستوعبوا سياقاتها ويتفقَّدوا ما غفلوا عنه في مسرحها. وهذا ما يجب علينا فعله: العودة إلى البدايات لمحاولة فهم دوافع الكذب الإعلامي، ولكشف أسرار خطابات التوعية الفردانية.
سينشر الكاتب في مدونته مقالتين قادمة تتمةً لهذه المقالة.
تقص الكاتبة إيما سيمكن، في مقالتها «لا تُحصر الأمراض النفسية بالاكتئاب والقلق. لم لا نتحدث عن ذلك؟»، تجربة تشخيصها بالاكتئاب ثم في وقتٍ لاحق بثنائي القطب، واختلاف تعامل محيطها الجذري بين الحالتين: بين تفهّمٍ ودعم في حالة الاكتئاب، وتوجّس ووصمة في حالة ثنائي القطب.
تحلل في هذه المقالة الازدواجية في تعامل المجتمع مع الأمراض النفسية، وأسبابها، وسبل تجاوزها.
في حلقة «لماذا ارتبطت المصحات النفسية بالمجانين» من فنجان، يتحدث قائد الإستراتيجية السعودية للصحة النفسية الدكتور ياسر الدباغ عن واقع الوصمة في السعودية وتأثيرها في صورة العلاج النفسي في المجتمع.
يرى الضيف أنّ فصل المستشفيات النفسية، مثل «إرادة» (الأمل سابقًا) و«شهار»، عن المستشفيات العامة، على رغم تعدد تخصصاتها، مما يعزز الوصمة السلبية لمراجعيها.
من أهم مصالح أمريكا أن لا تخسر نقاط قوتها، وهي دول الخليج وليست السعودية فقط، في حين أن الصين -بالأخص- هي مصدر الإزعاج الأول لاقتصاد أمريكا.
مثلًا، يتضح ذلك من ظهور الصين في سوق الهواتف الذكية المنافس بقوة لأمريكا. ناهيك عن الأسواق الأخرى التي ظهرت فيها الصين، كسوق السيارات الذي غزت به الصين أسواق الخليج بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة.
وهذا يؤكد لنا أن الصين باتت تمثل منافسًا شرسًا ومؤثرًا على مصالح أمريكا الدولية. ويُعد الشرق الأوسط أحد أهم المناطق التي شكّلت الصين فيها شراكات كبيرة، لا سيما منطقة الخليج.
تقارير دولية عديدة تحدثت عن التنافس بين الصين وأمريكا في الخليج؛ ما يجعل دول الخليج أمام امتحان اختيار أفضل الشراكات في عدة مجالات.
أعتقد أن الصين هي أفضل حل للخروج من ظل أمريكا المفروض على دول الخليج، فهي فرصة لتحقيق ما ترنو إليه الدول التي سئمت احتكار أمريكا لرسم السياسات الإقليمية والعالمية، والتي هي غالباً ما تراعي مصالحها أولًا، مع إهمال مصالح الدول الأخرى.
أحمد ممدوح
أشارك في هذه الفقرة رسائل القراء وآرائهم حول أي رأي طرحه العدد السابق، سواءً وافقوه وأضافوا عليه أو نقدوه.
شاركنا رأيك بالرد على هذه الرسالة، أو عبر بريد النشرة safha@thmanyah.com، على ألا يتجاوز مئتي كلمة.
متطلّع لأفكارك!
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.