لن تتخلى السعودية عن الصين لأجل أمريكا

أي معاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة لن تكون على حساب علاقات السعودية مع الدول الأخرى؛ فعالم اليوم متعدد الأقطاب.

هشام الغنّام

ادّعت وكالة بلومبرق قبل مدة في تقرير انتشر انتشار النار في الهشيم أن وزارة المالية السعودية أعربت لبعض الدول الأعضاء في مجموعة السبع عن معارضتها لمصادرة الأصول الروسية المجمدة، ووجهت إليها ما وصف بأنه تهديدات ضمنية بأنها ستبيع سندات الديون الأوربية، خصوصًا السندات الفرنسية، في حال مصادرتها للأصول الروسية. 

ورغم نفي وزارة المالية السعودية صحة تلك المعلومات، مؤكدةً أنه «لم يُعرَب عن أي تهديدات من هذا القبيل»، وأن علاقاتها بمجموعة السبع والآخرين «مبنية على الاحترام المتبادل، وعلى مناقشة كافة القضايا التي تسهم في التنمية العالمية وفي تعزيز متانة المنظومة المالية الدولية»، إلا أن الخبر مهم؛ للفته الانتباه إلى قدرة السعودية على التأثير في قرارات دولية إستراتيجية. 

سؤال مشروع

نقول ذلك لأن الكثير من السعوديين يتساءلون: ما إذا كانت المعاهدة الدفاعية التي يجري الحوار بشأنها بين السعودية والولايات المتحدة ستضع قيودًا على علاقات السعودية مع الصين؟ وهو سؤال مشروع في ظل التسريبات الإعلامية التي رافقت هذا الحوار والتي تقول إن الولايات المتحدة اشترطت مسألتين لإبرام المعاهدة:

الأولى أن تتعهد السعودية بعدم بيعها نفطها للصين بالعملة الصينية (اليوان)، وأن تستمر في بيعه عليها بالدولار الأمريكي، والثانية أن تضع السعودية قيودًا على تطوير علاقاتها التجارية مع الصين، تحديدًا في المجال التقني.

إن أي إجابة عن هذا السؤال ستكون ناقصة إذا لم توضع المعاهدة الدفاعية في السياق الذي ظهرت فيه.

العرض الأمريكي والمطالب السعودية

يذكر القارئ أن العلاقات الأمريكية السعودية لم تكن في أفضل حالاتها عندما قدم الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض في 2021، ويذكر أيضًا تصريحاته المسيئة للمملكة في أثناء حملته الانتخابية ورغبته في تقليص العلاقات معها، بل ممارسته الضغوط السياسية عليها. ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 وما رافقه من أزمة النفط العالمية التي أدت إلى ارتفاع أسعاره بعد سنوات عديدة من الانخفاض المتواصل منذ يوليو عام 2014، وهو ما دفع الرئيس بايدن إلى زيارة السعودية في يوليو 2022 لطلب رفع سقف إنتاجها من النفط؛ لخفض أسعاره العالمية.

لكن السعودية لم تستجب لطلبه، بل تعاونت مع منظمة أوبك بلس بخفض إنتاجها من النفط بعد زيارته بشهر واحد بمليوني برميل؛ بهدف الحفاظ على سعر معقول لبرميل النفط؛ وهو ما أدى إلى توتّر العلاقات بين البلدين وتهديد الولايات المتحدة بالمصادقة على قانون «نوبيك» الهادف إلى تحرير التحكم في أسعار النفط من قبضة دول أوبك، عبر تعريضها لقوانين مكافحة الاحتكار، وهو تشريع طرحه أعضاء من الكونقرس الأمريكي بهدف رفع الحصانة عن أعضاء دول أوبك وشركاتها النفطية؛ وهذا يسمح بمقاضاتها بذريعة التواطؤ على رفع أسعار النفط. وردّت السعودية حينها بأن أي إجراء من هذا القبيل سيدفعها إلى تعميق علاقاتها شرقًا (مع الصين وروسيا) على حساب الولايات المتحدة، وهو ما دفع الأخيرة إلى مراجعة سياساتها تجاه السعودية وبدء حوار إستراتيجي معها في يناير عام 2023 بهدف تطوير العلاقات بين البلدين وحل خلافاتهما.

جاء في هذا السياق مقترح المعاهدة الدفاعية ومشروع بناء محطة لإنتاج الطاقة النووية قادرة في الوقت نفسه على تخصيب اليورانيوم. والمقترح هدفه إلزام الولايات المتحدة بضمان تزويد السعودية بما تحتاجه للدفاع عن نفسها إذا تعرضت لهجمات مثل التي حدثت في سبتمبر عام 2019 وأدت إلى تقليص إنتاجها من النفط إلى النصف لمدة شهر كامل. ويهدف أيضًا إلى أن تمتلك السعودية المعرفة والأدوات لتخصيب اليورانيوم لتقليل اعتمادها على النفط والغاز في إنتاج الكهرباء واستهلاكها على الصعيد المحلي؛ وهذا سيوفر للمملكة فائضًا من النفط للتصدير، حيث تستهلك حاليًا ثلث إنتاجها من النفط للأغراض المحلية، على رأسها إنتاج الكهرباء.

في مقابل هذه المطالب السعودية جاء العرض الأمريكي باستعدادهم لقبولها إذا قبلت السعودية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل وإذا قبلت أيضًا الشروط المذكورة أعلاه بشأن علاقاتها مع الصين. الأمريكيون أصروا على أن الكونقرس لن يقبل أية اتفاقية دفاعية مع السعودية إلا إذا كانت مصحوبة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. في سياق ذلك، كما يعلم القارئ، اشترطت السعودية لحصول ذلك أن يوجد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو على أقل تقدير أن يوضع في مسار مؤد في نهايته إلى حل عادل للقضية الفلسطينية بما يقبله الفلسطينيون، وهو موقف منسجم مع المبادرة العربية التي قدمتها السعودية في عام 2002 للسلام مع إسرائيل.

هذا سياق المباحثات بين الطرفين السعودي والأمريكي، وجميعنا نعلم اليوم أن الحكومة المتطرفة في إسرائيل رفضت التعهد بقبول حل للقضية الفلسطينية مؤدٍ إلى إنهاء الاحتلال، وهو ما جمّد أو أجّل تنفيذ الاتفاق بين السعودية والولايات المتحدة. الأخيرة لا تستطيع طلب موافقة الكونقرس على معاهدة دفاعية مع السعودية دون التطبيع مع إسرائيل، لقناعتها بأن الكونقرس سيرفضها، والسعودية لن تذهب لتطبيع علاقاتها مع دولة تشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني ولا تريد وضع نهاية لهذا الصراع المستمر منذ سبعة عقود. 

أهمية الصين

لكن بعيدًا عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يبقى السؤال المتعلق بتأثير أية معاهدة دفاعية بين الولايات المتحدة والسعودية على علاقات الأخيرة مع الصين مسألة محورية لنا، لارتباطها بتجارتنا الخارجية ونقل التقنية العلمية والعسكرية، فضلًا عن التقارب السياسي بيننا وبين الصين.

تجاريًا، تعد الصين الشريك التجاري الأول للمملكة؛ ففي عام 2022 بلغ حجم التجارة معها 105 مليارات دولار أمريكي، كان إجمالي الصادرات الصينية إلى السعودية 39 مليار دولار، في حين بلغت وارداتها من السعودية 66 مليار دولار. وبالمقارنة، بلغت تجارة السعودية مع الولايات المتحدة خلال العام نفسه 35 مليار دولار (الصادرات الأمريكية إلى السعودية 12 مليار دولار ووارداتها منها 23 مليار دولار). وهنا من المهم ملاحظة أن الميزان التجاري مع الصين يميل لمصلحة السعودية بشكل كبير، وهو ما يوفر لها العملة الصعبة التي تحتاجها لتحقيق رفاهية مواطنيها ورؤية 2030.

والصين أيضًا مهمة للمملكة بسبب دورها في مشاريع البنية التحتية التي تنفذها شركات صينية، حيث نفذت الصين في السعودية بين عامي 2005 و2023 مشاريع بقيمة 43 مليار دولار. يضاف إلى ذلك التعاون الوطيد في مجال الفضاء والطاقة المتجددة وتقنية المعلومات والاتصالات، حتى في المجال العسكري. ذكرت شبكة CNN، على سبيل المثال، أن الصين تساعد السعودية على الإنتاج المستقل لصواريخها الباليستية منذ عام 2021، وعلى إنتاج المسيرات وتطويرها داخل السعودية، مع نظام اتصالات متكامل ونظام تحكّم في الطيران وكاميرات ورادارات وأنظمة كشف لاسلكية. 

وغنيٌ عن القول أن الصين أقرب سياسيًا إلى السعودية من الولايات المتحدة؛ فكلا البلدين يؤمنان باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وبسياسة عدم الاعتداء، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي واحترام القانون الدولي. 

الفرص والقيود

السؤال المتعلق إذن بتأثير أية معاهدة دفاعية على علاقاتنا مع الصين هو جوهري لنا، وللإجابة عليه علينا أن نستحضر نظريات العلاقات الدولية، تحديدًا تلك المتعلقة بنظرية الفرص والقيود. 

تكاد الفرص تكون معدومة في عالم أحاديّ القطب؛ ولذلك تُملي الدولة الأشد قوة في العالم المحتكرة للنظام الدولي شروطها على الآخرين، والدول المغامرة بالخروج على النظام الدولي الأحادي القطبي ستعرّض نفسها للعقوبات الاقتصادية وربما الاحتلال والتدمير. 

شاهدنا ذلك عندما انهار الاتحاد السوفييتي وتفردت الولايات المتحدة في العالم، فقصف الناتو صربيا عام 1998، وفكّك يوغوسلافيا إلى ثلاث دول دون قرار من مجلس الأمن، ولم يتمكن أحد في العالم من التصدي له. وكذلك احتلت أمريكا العراق عام 2003 دون قرار من مجلس الأمن أيضًا، ولم يوقفها أحد.

لكن العالم اليوم لم يعد أحادي القطب، فالصين اليوم عملاق اقتصادي لا تستطيع الولايات المتحدة وأوربا عزله عن بقية العالم ولا تستطيع حتى هي الاستغناء عنه. الصين رابع أكبر شريك اقتصادي للولايات المتحدة نفسها بقيمة 690 بليون دولار في عام 2022، وهي ثاني أكبر شركاء أوربا الاقتصاديين، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما في عام 2023 نحو 739 بليون يورو، وهو ما يمثّل 15% من حجم التبادل التجاري الأوربي. ويلاحظ هنا أن حجم تجارة أوربا مع الولايات المتحدة بلغت 17% في العام نفسه، بمعنى أن أهمية الصين تجاريًا لأوربا بقدر أهمية الولايات المتحدة لها.

أيضًا، في عالم اليوم، يمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين لم يتمكنوا من عزل روسيا ومحاصرتها بعد غزوها لأوكرانيا؛ إذ لم تفلح العقوبات الاقتصادية الصارمة بحقها في تدمير اقتصادها وإخضاعها، والسبب يعود إلى تعدد قطبيّة عالم اليوم، وهو ما يسمح للدول بهامش متسع من الحركة، ولا يأسرها لسياسات دول بعينها.

وبجانب كل ذلك هناك مسألة إضافية بالغة الأهمية، وهي أن السعودية تسعى إلى «تصفير» صراعاتها الإقليمية المعوقة لتحقيقها رؤية 2030، ومن هنا جاءت عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران برعاية الصين، ولذا فإن حاجة السعودية إلى المعاهدة الدفاعية ليست ملحّة كما يعتقد البعض. ويضاف إلى ذلك أن التأثير الصيني في إيران كبير؛ لكونها الدولة ذات الأهمية العظمى لها؛ لدورة الحياة الاقتصادية فيها، ولكون الصين معنية بنجاح المصالحة التي رعتها، ولتطوير العلاقات بينهما. 

هل ستتنازل السعودية

هذا يعني أن للسعودية هامشًا متسعًا للمناورة السياسية لن يمكّن الولايات المتحدة من فرض شروطها عليها عند توقيع أية معاهدة دفاعية معها. بالتأكيد سيكون على السعودية أن تقدم تنازلات للحصول على المعاهدة التي تريدها مع الولايات المتحدة، لكن هذه التنازلات لن تكون جوهرية ولن تضعف أو تقوض علاقاتها مع الصين. والحقيقة أن هذه العلاقات لا يمكن للمملكة الاستغناء عنها، وأي تنازل يقدم لأمريكا سيكون مشروطًا بالتزام الأخيرة بتعويضه للمملكة.

في الوقت نفسه علينا أن ندرك أن الصين لا يمكن أن تكون بديل الولايات المتحدة في توفير الأمن للمملكة، فليس للصين أي قواعد عسكرية أو حاملات طائرات في الخليج العربي، ولا تاريخ لها في الدفاع العسكري عن دول أخرى. والأهم من كل ذلك أن السعودية تستخدم منذ عقود طويلة أسلحة أمريكية وجيشها مدرب عليها، واستبدال أسلحة أخرى من الصين أو روسيا بهذه الأسلحة يحتاج إلى سنوات من التدريب بعد امتلاكها، وهذا يحتاج أيضًا بحد ذاته إلى سنوات عديدة. بلغةٍ أخرى: إن كانت هناك للمملكة اتفاقية دفاعية ستوقَّع فإنها ستكون مع الولايات المتحدة وليس مع غيرها.

ولكن أي معاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة لن تكون على حساب علاقات السعودية مع الدول الأخرى؛ لأن عالم اليوم متعدد الأقطاب، ويفسح للمملكة مجالًا واسعًا للمناورة السياسية، يسمح لها بالحفاظ على علاقاتها مع الصين وتطويرها.


فاصل ⏸️


يصعب أن نحدد طموحات الصين بعيدة الأمد، ولكن ليس واردًا أنها تستطيع، أو حتى تريد، أن تستبدل الولايات المتحدة في تبوّء مركز القوة العظمى الأولى بالعالم.

تناقش جيسكا ويس، خبيرة الشؤون الصينية في جامعة كورنل، في مقالتها «حتى الصين ليست مقتنعة أنها ستستبدل أمريكا» مدى قناعة القيادات الصينية نفسها بالمنافسة الأمريكية، ومدى توافق أفعالهم مع التصريحات المتعددة المناهضة للسيطرة الأمريكية على العالم.

وفي مقالة جيسن دوقلاس وريبيكا فينق «اقتصاد الصين في ورطة. للرئيس أولويات أخرى»، يحللان المشاكل الجذرية في الاقتصاد الصيني، بدئًا من اقتصاد نموّه يتضاءل، ومعدلات استهلاك محلية تنخفض، واستثمارات خارجية تتناقص، إلى مجتمع يشيخ وأزمة عقارية تلوح بالأفق.


«الصين لن تنتصر على أمريكا» كان عنوان حلقة سابقة في فنجان، تحدّث فيها المحلل الاقتصادي والمالي بسام نور عن مشهد الاقتصاد العالمي والمنافسة ضمنه بين أمريكا والصين، وواقعية استمرار النمو الصيني لحد تفوّق اقتصادها على الاقتصاد الأمريكي.


الفكرة العامة التي طرحها محمد آل جابر من الممكن إسقاطها على المجال الصحي. مشكلتنا الأساسية في هذا المجال نموذج العمل في المستشفيات الحكومية أكثر منها افتقارًا للكفاءات والإمكانيات. 

وبحسب ما نسمع فهذا ما تسعى شركة الصحة القابضة لتغييره حاليًا. يبقى التحدي في النموذج الجديد الذي يركز على تجربة العميل، ورفع كفاءة الخدمة والعمل على الجانب الوقائي قبل العلاجي. وإذا نجحت الشركة في مهمة تغيير ثقافة المنظومة -وهو أمر غير سهل- أتوقع أننا مقبلون على ثورة صحية.

إبراهيم بالي

أشارك في هذه الفقرة رسائل القراء وآرائهم حول أي رأي طرحه العدد السابق، سواءً وافقوه وأضافوا عليه أو نقدوه.

شاركنا رأيك بالرد على هذه الرسالة، أو عبر بريد النشرة safha@thmanyah.com، على ألا يتجاوز مئتي كلمة.

متطلّع لأفكارك!


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
منثمانيةثمانية

نشرة أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات تحليلية لكتّاب بمجالات عدّة. يمنحونك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+490 مشترك في آخر 7 أيام