بماذا ينفعك المشي في نزهة؟ 🚶

متى آخر مرة خرجتَ في نزهة مشي؟ إن كنت ستحسب جولة المشي في النادي معلَّقًا بعداد الخطوات ومستغرقًا في حلقة بودكاست، أو ممارسة المشي السريع في المجمعات ومطالبتك المارة أن ينزاحوا عن طريقك، فلا هذه ولا تلك نزهة مشي.

نزهة المشي هي ما وصفه روبرت فالسر في كتابه الصغير جدًّا «نزهة المشي» (The Walk)؛ مقالة شخصية عن صباحٍ قرَّر فيه، بعد معاناة من التحديق إلى صفحة بيضاء، أن يخرج للتنزه مشيًا في البلدة يقضي فيها حوائجه التي ما انفكّ يؤجلها، ويسّري عن نفسه قليلًا.

يعزُّ عليّ ألا أشاركك كل أوصاف نزهة المشي وفوائدها التي يستطرد روبرت فالسر بحماسة مشرقة في سردها على مد 86 صفحة. لذا سأقتطع لك الفائدة المهنية، بما أنَّ قلقنا من انخفاض الإنتاجية الإبداعية هو ما يثنينا أساسًا عن ترك المهام بين يدينا والانطلاق في نزهة مشي، مخافة إضاعة وقتنا في التسكّع بلا هدف بدل الكدح في العمل على المكتب.

بعد قضاء فالسر حوائجه لدى الخياط والبنك ومكتب البريد وتلبيته دعوة غداء لسيدة ثرية ترعى الفنون، وبعد التقائه صدفة بأناس من أهل البلدة واستمتاعه بأحاديث جانبية معهم، يتوجه إلى مهمته الأخيرة لدى مكتب الضرائب للمطالبة بعدم رفع الضريبة عليه لأنه كاتب كادح ومنشغل. فيجيبه موظف الضرائب: «لكن الناس دومًا يرونك تتمشى في البلدة!» 

فيجيبه:

«أتمشَّى! أكيد سأتمشَّى لكي أتنشَّط وأحافظ على صلتي بالعالم الحيّ من حولي، فدون هذه الصلة أعجز عن كتابة نصف كلمة زيادة في قصيدة أو نثر أو مقال. لولا نزه المشي سأموت، سأجبر على التخلي عن حرفتي. وبدون المشي سأعجز عن التقاط القصص والتفاصيل والمواقف التي بها أبني نصوصي.

في نزهة مشي مطولة، آلاف الأفكار تخطر لي، لكن إن بقيت حبيس البيت تنضب أفكاري وأجلس متحسرًا على حالي. نزه المشي ليست صحية فحسب، بل أحتاجها للتقدم في مهنتي، وفي الوقت نفسه تسرّي عني وتسليني، لأعود إلى بيتي بعدها وأكدُّ في العمل لساعات دون انقطاع.

التنزه مشيًا يغذي خيالي، فالطبيعة تكشف جمالها لعينيِّ المشّاء الذي لا يمشي مطأطأ الرأس بل ينظر إليها بعينين مفتوحتين صافيتين. فالمشّاء يلحظ كل تفصيل صغير، ينتبه إلى الطفل والكلب والذبابة والفراشة والسنونو والدودة والزهرة والرجل والبيت والغيمة...وفي هذا التأمل يتعلم المشّاء كيف يضع خلفه تذمره واحتياجاته وتضحياته. فإن لم يفعل ذلك فهو يمشي بنصف روح، ومشيٌ كهذا لا يعوَّل كثيرًا عليه.

هل تدرك أنّي في مشيي يعمل دماغي بكامل طاقته، وأني أكون في أنشط فترات عملي متى بدا عليّ السرحان والتسكّع بلا هدف، خاويًا من أي مسؤولية؟ هل تدرك أني في نزه المشي ألتقي صدفة بعمالقة، بأساتذة، بمصرفيين، ببائعي كتب، برعاة للفن والآداب، وأتفق معهم في أحاديثنا على ما يساعدني؟

باختصار، أنا أكسب قوت يومي بعرق جبيني كما يفعل الجميع، وأتعامل مع مهنتي بكامل الجدية والاجتهاد، حتى إن بدا عليّ أني خاوٍ من الهموم ومتفرغ للمشي. لذا أرجو أنَّ بتفسيري لك عمّا تعنيه لي نزه المشي قد أقنعتك بطبيعتها النبيلة ودورها في حرفتي.»

فورًا اقتنع موظف الضرائب بتفسير فالسر (والذي للعلم يمتد على صفحات والمذكور هنا اجتزاء بسيط منه)، وأتمنى أن تقتنع أنت أيضًا بقيمة نزه المشي في تعزيز إنتاجيتك وعملك الإبداعي. وعمومًا، إن لم تكن لك ثقة في كلام فالسر الشاعريّ، ابحث في قوقل وستجد عشرات الدراسات والكتب العلمية التي تدعم مقاله الشخصي بالبرهان العلمي.

معلومة سريعة عن المشّاء 🚶🏻‍♂️🌳

في أواخر عشرينيات القرن الماضي أودع فالسر نفسه طوعيًّا في مصح نفسي في سويسرا حيث عاش بقية عمره، وحتى حينذاك واظب على التنزه مشيًا كل يوم. في صبيحة الكريسماس عام 1956، توفي فالسر في نزهة مشي.

ذكرت لك في بداية التدوينة أنَّ حماسته المشرقة تمتد على 86 صفحة، والكتاب من 89 صفحة. لدى وصول فالسر إلى البحيرة قبيل غروب الشمس، وفي أوج حماسه وإيجابيته وهو يقطف الزهور ليحضرها معه إلى بيته، ينقض عليه الاكتئاب:

«جَلْدُ-الذات ربَّت على كتفي من الخلف ثم وجدته أمامي، يقطع عليّ نزهتي. الذكريات الشريرة تملكتني، ورحت أوجّه إلى نفسي اتهامات شتّى أثقلت قلبي. كل المرات التي فشلت فيها خطرت لي، وكل التصرفات العنيفة والرغبات الجامحة والعواطف القبيحة غمرتني، وكل إنسانٍ تعرضت له بأذى رأيته، ووجدتني غارقًا في الأسى.»  

بعد مغيب الشمس، رمى فالسر الزهور عن يده وعاد إلى بيته. 

South China Morning Post

Chinese provinces bring in AI to stop cheating in gaokao university entrance exams

إيلاف محمد