الحراسة المشددة على عافيتنا وعبادة صحتنا

ينبغي النظر إلى الصحة كمنتج اجتماعي وسياسي بدلًا من النظر إليها كمنتج فردي. وهو الأمر الذي بدأت تلاحظه منظمات عالمية كثيرة وتتبناه في خطاباتها.

عراك دائم مع معايير الصحة / Getty Images
عراك دائم مع معايير الصحة / Getty Images

الحراسة المشددة على عافيتنا وعبادة صحتنا

أمل السعيدي

يقول الممثل الأمريكي التايواني «شينق وان» (Sheng Wan) في عرضه الكوميدي «سويت آند جوسي» (Sweet and Juicy) إنه عندما يريد مكافأة نفسه يسمح لها بالنوم على بطنه، هذه الجريمة الكبرى التي لا تغتفر، يفعل هذا وهو يتلقى عشرات التنبيهات عن خطورة النوم بهذه الطريقة؛ فيضحك الجمهور بلا توقف!

يبدو أننا جميعًا نقترف الجرائم كل يوم، فلقد عرفت مؤخرًا أنني لا أتنفس بطريقة صحيحة منذ وعيت هذا العالم، كما لم أقاطع السكر قط، وفي سنة ونصف زاد وزني نحو أربعين كيلوقرامًا دفعة واحدة. لم يتورع أحد عن تقديم النصيحة إليّ؛ فأنا أبدو أكبر من عمري! كما تلقت عائلتي أسئلة عديدة حتى من الغرباء عن المصيبة التي حلت بابنتهم مع زيادة وزنها.

وفي محاولاتي لإنقاصه التي تسببت في تدهور صحتي النفسية كنتُ أتراجع أحيانًا لمصلحة الخطاب الذي يفند انتقاد الجسد (body shaming)، ويعترف بحق البدناء في الاستمتاع بأجسادهم. قيل لي فعلًا إني استُبعِدتُ من فرص في عملي بسبب الزيادة الملحوظة في وزني، وعندما خسرتُ كل هذا الوزن الزائد لم تتوقف الأسئلة في الاتجاه المضاد عن ملاحقتي. 

هذا هو ما سيأتي عليه كتاب «متلازمة العافية: خرافة الإنسان الكامل» للباحثين: كارل سيذرستروم وأندريه سبايرس المترجم حديثًا إلى العربية عن دار «صفحة سبعة» السعودية.

 أيديولوجية العافية

تحوَّل الجسد وأصبح مركزيًا في حياتنا الحديثة، وانخرطنا في نوع من الوسواس للحفاظ على صحتنا الجسدية والنفسية يرعاه خبراء التغذية والمتخصصون النفسيون وخبراء النجاح، متقلدين بذلك «مرتبة الكهنوت» التي حظي بها رجال الدين في وقت سابق.

أحدث هذا كله إزاحة أيديولوجية يُنظر من خلالها إلى المرضى والمكتئبين على أنهم خائرو القوى وضعفاء الإرادة ومنبوذون. فالبدناء على سبيل المثال منحرفون يستمتعون بطريقة غير شرعية ودون حياء بما يجب على كل شخص عاقل بالغ أن يقاومه، وبات المدخنون مرفوضين من الجميع بعد أن كان نشاط التدخين هو المرفوض!

تمكنَت هذه الإزاحة من تحويل المتع في حياتنا إلى التزامات جديدة، وأصبح هدفنا من الحفاظ على صحتنا ورعاية أنفسنا الاندماج بدلًا من التمتع بالعافية، ويصب هذا كله في سبيل تحسين إنتاجيتنا ومِن ثَمّ تحسين قيمتنا في السوق. فالمرض وفقًا لتعبير ديفيد هارفي الذي اعتمده الباحثان هو «عدم القدرة على العمل»؛ حيث تُعد عقولنا وأجسادنا مجرد موارد اقتصادية.

الأورويلية الجديدة وعقيدة السعادة

يعتمد الباحثان في الكتاب على تعبير «الأورويلية الجديدة» المأخوذ من شهرة الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته «1984» التي تتحدث عن الرقابة والوصاية الصارمتين اللتين يفرضهما الأخ الأكبر أي (السلطة). فعلى المنوال نفسه بدأت المؤسسات تقنين فضاءاتها حتى لا تستوعب إلا الأصحاء والمعافين، وذلك إما عبر تنفيذ تقاليد تتابع صحة الموظفين قسرًا وإما بأن ترفض توظيف المدخنين أو البدناء.

إلا أنهما ينبهان على مسألة في غاية الخطورة هي انتقال مجتمع السيطرة هذا حتى إلى منازلنا وأماكننا الحميمة. ويستخدمان تعبير الفيلسوف الفرنسي دولوز «مجتمع التحكم»، حيث نكون محتجزين في كل مكان، في أجسادنا وفي منازلنا، وتصبح المشكلات الصحية خطيئة الفرد التامة، بل قد يُعد الإخفاق في الحفاظ على الصحة إخفاقًا أخلاقيًا. 

يحدث هذا بالتوازي مع قناعة مكرسة بأنه لم يعد من المهم أن نناقش مسألة إنشاء عالم أفضل وتغيير واقع حال البشر على اختلافهم، بل أصبح الأمر كله يتعلق بمسألة اختيار نمط الحياة الشخصية وتغيير أنفسنا. وهذا ولّد أنماطًا جديدة للرقابة الذاتية التي تحقق لنا المزيد من الأداء الجيد والإنتاجية؛ فها نحن نراقب حالة نومنا عبر الساعات الرياضية التي نرتديها، ونحسب سعراتنا الحرارية بدقة.

لقد أفرز ذلك اقتصادًا كاملًا قائمًا على استخدام «اليقظة» ويعتمد على مزيج هجين من تعليمات تطوير الذات مع مبادئ من الديانات والروحانيات الشرقية بأسلوب تجاري بسيط وجذاب للوصول إلى السعادة دون تقديم تعريف واضح لها. فما السعادة حقًا؟ هل يمكن أن نجيب عن هذا السؤال ببساطة؟ يقتبس الباحثان عن الروائي الأيرلندي صامويل بيكيت (في مسرحية انتظار قودو)، حيث يطلب فلاديمير من إستراقون أن يقول إنه سعيد وإن لم يكن ذلك صحيحًا، ويوافق إستراقون على طلب صديقه في النهاية قائلًا إنه سعيد، ثم يضيف «والآن ماذا نفعل وقد صرنا سعداء؟». 

نجح العالم اليوم في إزاحة المعنى السياسي للسعادة الذي اعتمدته مجتمعات كثيرة على مدى التاريخ، ومنها المجتمع الإسلامي والمجتمع اليوناني، حيث اعتقد الناس في المجتمع اليوناني مثلًا بأن سعادتهم لا تتحقق في عزلتهم وتحقيقهم للملذات الحسية الفردية، بل كان العيش والتصرف الجيدان شرطين أساسيين لحياة سعيدة.

أخيرًا ينبغي النظر إلى الصحة كمنتج اجتماعي وسياسي بدلًا من النظر إليها كمنتج فردي. وهو الأمر الذي بدأت تلاحظه منظمات عالمية كثيرة وتتبناه في خطاباتها التي تؤكد دور السياسات العامة في الإصابة بمرض السكري على سبيل المثال والاكتئاب والقلق وغيرها من الأمراض.

في الفصل الأخير من الكتاب يعتمد الباحثان على مقتطف من أحد أجزاء ملحمة الكاتب النرويجي كارل أوفه كناوسقارد «كفاحي» الأشبه بسيرة ذاتية للكاتب، يحكي فيه عن إصابته في إحدى المرات التي كان يلعب فيها كرة القدم بكسر في الترقوة؛ فقضى وقتًا رائعًا مع إصابته، إذ «حرره المرض من المطالب اليومية وسمح له أخيرًا بأن يعيش كما يحب... متعته الحقيقية تبدأ مع لحظات السلبية والاستسلام.»

كانت تجربة قراءة هذا الكتاب شيقة حقًا، دفعتني إلى العودة إلى كتاب ميشيل فوكو المهم «نشأة الطب السريري» وكتاب «المرض كاستعارة» لسوزان سونتاق، لكن قبل هذه العودة تمددتُ طويلًا بتبطّل دون فعل شيء، أي شيء؛ فهذه هي العافية الحقة.


  1. حازت رواية «النهايات السعيدة» للروائي المصري أحمد ناجي جائزة «ساويرس» الثقافية لأفضل عمل روائي بفرع شباب الأدباء، كما فازت بجائزة النشر والترجمة إلى الإنقليزية. وجاءت في الوصافة رواية «فيكتوريا» للكاتبة كارولين كامل.

  2. تصدر قريبًا عن دار «عصير الكتب» الرواية الحائزة على جائزة «كلارين» لعام 2017 «جثة لذيذة» للكاتبة الأرجنتينية أقوستينا باثتيريكا بترجمة محمد الفولي. تقع أحداث الرواية في زمن كابوسي يأكل فيه البشر بعضهم لحوم بعض حرفيًا ومجازيًا.

  3. يصدر قريبًا عن دار «الكرمة» للنشر الكتاب الفلسفي «قديسو التشاؤم» للفيلسوف يوجين ثاكر بترجمة أنور الشامي.

  4. توفيت في الثامن من هذا الشهر (يناير 2024) الأديبة والناقدة المصرية سيزا قاسم عن عمر يناهز 89 عامًا. من مؤلفاتها «طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم الأندلسي: تحليل ومقارنة» و«بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ» و«القارئ والنص: العلامة والدلالة».


من رزان الهاشمي:

  1. موت صغير، محمد حسن علوان

    استطاع الطرح الأدبي لشخصية ابن عربي أن يجعلك تتعمق أكثر في دواخلها وأن تلتقي ابن عربي المحب والإنسان والشاعر والصوفي والرحّالة الباحث عن الحقيقة. ستلتقي به صديقًا وأبًا وزوجًا، وتتجول في أفكاره التي لا يعبّر عنها وتلك التي يعلق بها في حواراته، وستشدّك الصفحات بسبب المقدمات المقتبسة على لسان ابن عربي والمختارة بعناية لكل فصل تنتقل إليه. قد تكون الرواية أقرب إلى سيرة أدبية؛ إذ استند محمد حسن علوان على مخطوطة متخيلة لابن عربي، وكانت اللغة المطروحة في العمل خير رفيق لعرض أسفاره وحياته بعيدًا من التعلُّق بشباك الأحداث وصحتها الامبريقية في التاريخ.

  2. حياة الكتب السرية: ليلة قرأ فرانكشتاين دون كيخوت، سانتياقو بوستيقيو

    استهلَّ الكتاب حكايا الأدب المنسي الخفيَّة والليالي التي جمعت حكاياتهم لتكتمل بذلك قصة مستقلة. ستتعرف الترتيب الألفبائي الذي قد يتداعى الوقت في عالمنا اليوم دونه، وسترى المدن التي تستعدّك للقراءة. وربما تتأكد أن كتب الأدب العالمي تحمل كتّابًا سريّين، وسيظهر لك شكسبير بوجه لم تتوقعه من قبل. ستتعلم أن الزنزانة غير المحسوسة أشد خطرًا من تلك الموجودة؛ إذ في أحلك ممرات السجون خرجت لنا أفضل الكتب. ستصاحبهم في القراءة والكتابة وفي وقت نشوء الفكرة، وستُفتح لك أبواب ونوافذ على عالم الأدب الذي سُرد في هذا الكتاب بطريقة خفيفة على القارئ ومحببة إليه.

  3. مانديل بائع الكتب القديمة، ستيفان زفايق

    استطاع زفايق أن يجعلنا ننظر إلى أنفسنا بعين «مانديل» بائع الكتب المهووس؛ فلكل قارئ جانب خفي يتمنى لو أحيط عالمه بطبقة رقيقة تفصله عن وجه العالم المظلم في الخارج وتبقيه في حميمية عالية بينه وبين كتبه ومجلاته ومقهاه المفضل، دون أن يدفع ثمن ذلك باهظًا. أما «المجموعة الخفيَّة» فتشكِّل الهوس ذاته بشخصية فذة سلبته الحياة الشيء الوحيد الذي أفنى حبه الحقيقي كله لأجله؛ فكانت التحف القديمة ما يعطي الرجل المسن سببًا للبقاء، لكن حال دون ذلك العمى والفقر. 
    قصتان مختلفتان يربط بينهما زفايق بالحلم وصعوبة الانغماس فيه، وتلك اللحظات الصغيرة والأخطاء التافهة التي قد تسلب منك كل ما كان جزءًا منك يومًا.

  4. في جو من الندم الفكري، عبدالفتاح كيليطو

    أن تكون في حلبة قتالٍ خصمك الوحيد فيها نفسك، هذا ما قد يشعرك به الكتاب في أول وهلة. تنقّل كيليطو بسلاسة وتواضع بين مقالاته؛ ليطرح عدة تساؤلات في اللغة وتشكُّل النص الأول و«الصواب الذي يعيش في الخطأ». لن تخرج من هذا الكتاب خالي الوفاض، بل ستكون لديك قائمة كتب جديدة وربما قصائد وأبيات تغذِّي بها لياليك الطويلة. أكثر ماقد يزكِّي الكتاب، وإن كان في غنى عن ذلك، هو أسلوب كيليطو النادر القادر على أخذك من نفسك في أكثر الموضوعات أكاديمية وأشد التساؤلات عمقًا، وأزيد على ذلك سعادتي لرؤية روح القارئ والباحث الشغوف لشخصية بورخيس الذي «تعلَّم العربية فوفَّى».

نشرة إلخ
نشرة إلخ
منثمانيةثمانية

لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.

+280 مشترك في آخر 7 أيام