سمعنا أم كلثوم ولم نسمع عنها

استطاع الكتاب في ألف صفحة تقريبًا توثيق رحلة «الست» السياسية بدقة، وجَمْع ما تفرَّق في الكتب والصحف قديمًا ليقدّمها لنا بعين مختلفة.

المطربة المصرية أم كلثوم (1967) / Getty Images
المطربة المصرية أم كلثوم (1967) / Getty Images

سمعنا أم كلثوم ولم نسمع عنها

حسام الخولي

يروي منسق حفل أم كلثوم في فرنسا أن أميرًا عربيًا قدَّم مئة ألف فرانك لحجز تذكرة في الصف الأول، فأخبرته الموظفة بنفاد التذاكر. كانت التذاكر تُباع في السوق السوداء، وظن الرجل أنها تريد أكثر، فعرض مئتين ثم خمسمئة. لم تغيِّر الموظفة موقفها، فأخبرته مرة أخرى أنه لم تعد هناك تذاكر فعلًا. أخرج الأمير مسدسه في الهواء، فاضطرت الموظفة تحت تهديد السلاح أن تحجز له مقعدًا بين صفين. 

هكذا كان يصل حب «الست»، ومن الحب ما قد يقتل.

عزيزي القارئ: هل تعرف أم كلثوم؟ 

قبل أن تسبَّني بسبب وقاحة طرح هذا السؤال بألفاظ لن أذكرها خوفًا من الرقابة، أطلب منك أن تنتظر قليلًا حتى أزيدك وقاحة وأجيب عنك بأنك غالبًا لا تعرفها.

عندما تصل شهرة إنسان إلى درجة واسعة كالتي حققتها أم كلثوم، سيبدو التساؤل عن معرفتها سخرية، بينما قد تكون هذه الشهرة الواسعة حجابًا أيضًا عن معرفتها. الجميع سمعها، ولكن قلة فقط اهتموا أن يسمعوا عنها. وإذا لم تكن ثلاثينيًا مثلي، وكنت من الجيل السابق أو الذي عاصر آخر حياتها، فهذا يعني شيئين: أولًا أن «ثمانية» يتابعها قراء من أجيال مختلفة، وأنك اطَّلعت على عشرات الكتب التي تحدثت عن الدور السياسي الذي لعبته أم كلثوم. 

آخر هذه الكتب صدر عن دار تنمية للنشر بعنوان «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي» لكريم جمال الذي حاول شرح مشوارها من زاوية مختلفة قد نجهلها، وهي زاوية نشاطها السياسي.

يمكن النظر إلى مسيرة أم كلثوم من خلال محطتين: الأولى نجاحها في ترسيخ غنائها المحافظ والبعيد عن غناء ألفاظ الطقاطيق الجريئة، وهي التجربة التي ثبَّتتها كمطربة العصر الجديد. الثانية دورها السياسي الذي بدأ في حرب 67 منذ إطلاقها شعار «أم كلثوم معكم في المعركة»، وهذه هي الفترة التي اختار الكتاب تحليلها.

تسببت هذه الحرب بحزن جماعي بعد هزيمة الجيش العربي بقيادة العراق وسوريا ومصر والأردن في مواجهة إسرائيل، واحتلت إسرائيل بعدها غزة وأجزاء من سيناء، وربما جاءت الحاجة في أعقاب تلك الهزيمة إلى أصوات يثق بها العامة لترميم الخراب النفسي والسخط الجماعي، فكان من هذه الأصوات وأكثرهم تأثيرًا شعبيًا «الست».

لذلك سعى الكتاب للتنقيب عن رحلتها الاستثنائية خلال هذه الفترة التي حوَّلت صوتها من مجرد موهبة غنائية عظيمة إلى عنصر أساسي في إعادة بناء المدينة المهزومة لتصبح سيدة مصر الأولى. «أصبح غنائي مُجنَّدًا لهدف عظيم قادم هو تحويل الهزيمة إلى انتصار والثأر من النكسة»، هذه الكلمات كتبتها أم كلثوم عن نفسها.

خلال تسع سنوات دارت داخل محافظات مصر ودعمت المهجَّرين، ثم سافرت وأقامت عدة حفلات غنائية وسياسية في ليبيا والمغرب ولبنان وتونس. جمعت التبرعات وسعت لتوحيد الصفوف والمصالحة بين رئيسها المصري عبدالناصر والرئيس التونسي بورقيبة، ثم سافرت للعالم وصولًا إلى موسكو التي تلقت فيها خبر موت عبدالناصر.

في هذه الرحلة تخلصت أم كلثوم تمامًا من لقب «مطربة العهد القديم» ورحلتها القديمة التي كادت تعجِّل بانتهاء مشوارها الفني مبكرًا، في مقابل ضخ الأمل في الأرض المهزومة. فاستفادت أم كلثوم من السياسة التي أنقذتها، لكنها أفادت النظام السياسي أكثر وأعادت الثقة لكل الرجال.

والحفل الذي أخرج فيه الأمير العربي مسدسه لم يكن مجرد حفل موسيقي، بل كان ضمن رحلات أم كلثوم المجهدة لاستعادة الثقة العربية بعد هزيمة حرب 67، «قادت الست في فرنسا تظاهرة سياسية، لم تكن حفلة». هذه الحكايات تبدو غائبة عن جيل لاحق لن يتخيل كيف يمكن لمطربة تحقيق كل ذلك.

استطاع الكتاب في ألف صفحة تقريبًا توثيق هذه الرحلة السياسية بدقة، وجَمْع ما تفرَّق في الكتب والصحف قديمًا ليقدّم لنا «الست» بعين مختلفة. لكنه لم يُفرد مساحة كافية لتحليل هذا المشوار ولم يقدِّم تصورًا جديدًا تمامًا، بل اكتفى بمسح التراب عن الأرشيف وربط مشوار الفن مع رحلة السياسة.

كنت سأفضِّل أكثر سرد الحكاية في خط زمني واحد غير منفصل كقصة بانورامية طويلة ومتصلة بدل تقسيمها الفصلي الذي بدا أكاديميًا أحيانًا. قد يكون العرض الأكاديمي أسهل في تلقِّي المعلومة، لكني كنت أحتاج إلى التورط أكثر في العرض من خلال السرد، سردِ حكاية امرأة داوت جراح بلدها بالصوت، لجيلٍ قد لا يعجبه اليوم طول أغاني «الست» في زمن يتسابق لاهثًا نحو السرعة. 

فهذا الجيل سمع أم كلثوم، لكنه لم يسمع عنها كفاية.


  1. حازت الدار المصرية اللبنانية على جائزة أفضل دار نشر عربية في معرض الشارقة الدولي للكتاب في نسخته الثانية والأربعين، وحققت دار ملامح للنشر والتوزيع جائزة أفضل دار نشر محلية. وفازت رواية «باب الوادي» الصادرة عن دار الشروق للكاتب المصري أحمد طيباوي بجائزة أفضل كتاب عربي في فئة الرواية.

  2. صدر حديثًا عن دار ممدوح عدوان كتاب «مرايا» لإدواردو قاليانو بترجمة صالح علماني، كما صدر حديثًا عن دار تكوين كتاب «ما لا يُقال: حوار بين غرباء في عزلة» لدانة فيصل مدوه.

  3. فازت ترجمة قصة «حسين شاشي» للأديبة الليبية نجوى بن شتوان وترجمة العمانية فاطمة الحارثي بجائزة مجلة دنفر لعام 2023.

  4. انضمت مدينة «الطائف» إلى قائمة «اليونسكو» للمدن الإبداعية في الأدب ضمن خمس وخمسين مدينة في العالم تميّزت بتسخير الثقافة والإبداع في تخطيطها التنموي.


من نُهاد الهاشمي:

  1. الظل والحرور: منتخبات من السير الذاتية، فهد الجريوي

    سير ذاتية مقتطفة في بحور الحياة المتعددة تمنحنا رؤية العالم من منظور آخر، بدءًا بتجاربنا في التعليم والسفر والعمل والأدب والكتابة والقراءة والعائلة وانتهاءً بعصارة الأيام. يأخذنا الكاتب إلى حكايات من سبقونا وينتقي التجربة التي يشاركها من 150 سيرة ذاتيَّة مختلفة.

  2. أنت جواب السؤال، هيرمان هسه

    حرص هيرمان هسه على تواصله مع الشباب والردِّ على رسائلهم، ونتج من خلال ذلك ثراء معرفي وأدبي ونصائح يجول بها في أعماق النفس والفكر، بأسلوب لا تختلجه المجاملة، بل يتمثل بالحقيقة ويتجسَّد بالواقع في مواضيع حول الكتابة والأدب والأعمال الفنية. وفي هذه الرسائل تعددت آراؤه ما بين تشجيع شاب على المضي قدمًا ودعوة شابٍ آخر للتنحّي عن الكتابة.

  3. هيا نشتر شاعرًا، أفونسو كروش

    عائلة تشتري شاعرًا أليفًا وتخصص له زاوية تحت الدرج!
    هذه رواية تمتاز بأسلوب تهكمي ساخر ومليئة بالرسائل العميقة وراء كل جانب منها، تجسد أطياف المجتمع بتنوع مشاربهم واتجاهاتهم الثقافية بالعائلة، وما الشاعر إلا رمزيَّة للثقافة والفن. تضمنت الرواية مفردات خشنة بعيدًا عن اللغة الشاعرية والأرقام المملة، ويسخر فيها الكاتب من الماديات التي تطغى على المجتمعات فتنسيهم وجودهم الإنساني، وتجعل الشاعر سلعة رخيصة والثقافة هشة ضعيفة.

  4. الكتابة والتناسخ: المؤلف في الثقافة العربية، عبدالفتاح كيليطو

    يمتاز أسلوبه بالبساطة والعمق في آن معًا، أقرب ما يكون إلى كتاب نقد أدبي. يستقي الكاتب آراءه من التطرق للنصوص السابقة ونقدها وتبيان تفاصيلها بمقالات تتناول الأدب والشعر وأصنافها المختلفة، ويتحدث حول الكتابة وما تستلزمه من اتكاء على النصوص السابقة واستنساخها وربطها بسابقتها، ويحكي عن المحاكاة واقتباس النصوص من قراءاتنا السابقة.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.