كريسبر: مستقبل التعديل الجيني
بدأت ثورةٌ بحثيّة حول كريسبر، وظهر اهتمام العلماء والشركات به واضحًا بالأرقام، فقد تخطّى كريسبر تقنيات تعديل جينيٍّ مهمةٍ أُخرى كـ (تالين TALEN) و...
منذُ السبعينات تقريبًا، والعلماء مهتمّون بإيجاد سبلٍ بسيطةٍ لتعديل الجينات، ذلك أنّ تعديل الجينات سيكونُ حلاًّ للعديد من الأمراض الوراثية أو مساعدًا للبشر على التحكم أكثر بالأجناس الأُخرى على الكوكب. مع ذلك، لم يتمكن العلماء من إيجاد طريقةٍ تجتمعُ بها المقدرة الكافية على التعديل، وسهولة الاستعمال ورخص السعر.
لكن تقنيّة (كريسبر) CRISPR جاءت لتغيِّر كلّ هذا، فمنذُ أن بدأت بالظهور على سطح الاكتشافات العلميّة عام 1987، لاقت اهتمامًا واسعًا من العلماء، فكريسبر كانت تقنيةً مثاليّة لاحتياجات وتطلُّعات العلماء حينها، كانت تقنيّةُ “كريسبر” سهلة الاستعمال، ورخيصةً ومُقتدِرةً في نفس الوقت.
منذُ ذلك، بدأت ثورةٌ بحثيّة حول كريسبر، وظهر اهتمام العلماء والشركات به واضحًا بالأرقام، فقد تخطّى كريسبر تقنيات تعديل جينيٍّ مهمةٍ أُخرى كـ (تالين TALEN) و(أصابع الزنك). وصلت عدد الأبحاث التي ذكرت كريسبر ما بين عاميّ 2013 و2014 إلى أكثر من 400 بحثٍ علميّ، فيما وصلت الأموال المنفقة على تمويل كريسبر إلى أكثر من 80 مليون دولار أميركي خلال عام 2014، مع العلم أنّه قفز من 20 مليونًا إلى الـ 80 بين عاميّ 2013 و2014 فقط!
طريقة جديدةٍ أسهل للبشر لتسريع انقراض المخلوقات
ما هي (كريسبر) إذن؟
إنّها ببساطة تقنيةٌ واعدة للتعديل الجينيّ، تعتمد في التعديل على طريقة محاربة البكتيريا للفيروسات، حيثُ تقومُ تقنيّة كريسبر بما يشبه قصّ الجين واستبدال قواعدَ محدّدةٍ فيه بقواعد أخرى مرغوبة تُعدِّل صفاتٍ معيّنة في الجين، يمكن تطبيق تقنيّة كريسبر على أجنّة الحيوانات والبشر معًا، ممّا سيفتحُ لاحقًا -كما سيتّضح- بابًا من الانتقادات والأسئلة حول مدى أخلاقيّة كريسبر.
تخيّل أن يدخل أحدٌ إلى بيتك بلا استئذان، فيستحلّه ويستبدّ أهله، وبعد زمنٍ طويلٍ من الاحتيال والمضايقات يُقرّر أن يبيد وجودك أزليًّا من المنزل، لا يبدو ذلك لطيفًا، صحيح؟ إنّ هذا هو ما نفعلُه -أو قد نفعلُه على الأقل- باستعمال كريسبر، فمن المُمكن باستعمال هذه التقنيّة أن نحذف وجود نوعٍ كاملٍ من المخلوقات كما لو أنّهُ لم يوجد، كيف هذا؟ يمكنك أن تُشبِّه هذا بتدخلٍ في سير العمليّة التطوُّرية، ففي الخطّ التطوُّريّ الزمنيّ يمكن أن ينقرض نوع ما إن ظهرت في أحد أجيالِه طفرة لا تُناسبُ العوامل الطبيعيّة، أمّا استعمالنا لكريسبر فإنّه سيسمح لنا بخلقِ هذه الطفرة وتسريع انقراض ذلك النوع.
عندما يولد مخلوقٌ ما بتشوُّهٍ مظهريّ كتغيّرِ لونِه عن باقي نوعهِ مثلًا، ينقرض هذا المخلوق غالبًا بسرعة، وينقرض معه نسله المحتمل، لكنّ هذا لا يحدثُ إلّا بزمنٍ تطوُّريٍّ طويلٍ نسبيًّا، بينما يُمكننا باستعمال كريسبر أن نُعدّل جينات عيّنةٍ كبيرةٍ من النوع مثلاً لتغيير لونها أو إظهار العُقمِ فيها، ممّا يسبّب انقراض هذا النوع أو تهديده بالانقراض على الأقل. إنّ الاستخدام السيّء لكريسبر يبدو ببساطة كطريقة جديدةٍ أسهل للبشر لتسريع انقراض المخلوقات التي تشاركُنا سطح هذا الكوكب، والتي تبدو مشاركتُها لنا مزعجةً بعض الشيء.
لا تأخذ فكرةً خاطئةً عن كريسبر، فهو لا يهدفُ أساسًا إلى تسريع انقراض المخلوقات الأخرى، لكنّ ذلك ممكن، وهذه هي المشكلة، مع ذلك، يمكن لكريسبر أن يكون حلاًّ فعّالاً في صراعنا مع الأمراض. ماذا لو عدّل كريسبر مرضًا خطيرًا، ليمنع وجودهُ؟ هذا ما فعلهُ باحثون من لندن في بحثٍ حول إمكانيّة تعديل جينات إناث البعوض لمنعها من نقل الملاريا، وقد تمّ هذا التعديل باستخدام كريسبر.
سأختمُ قولي هذا بتساؤل، لو ولد شخصٌ بتشوّهٍ نتيجة تلاعبٍ جينيّ خاطئ وقابل العالم الذي شوّه حياته، ما ردّةُ فعله المُتوقّعة؟ كريسبر تقنيّةٌ واعدة، ومفيدة، وستُحسّن حياة البشرفي المستقبل لا شكّ. علينا مع ذلك ألّا نتناسى وجود علماءَ كُثر يدعون إلى التريُّثِ بشأن كريسبر. فمن الواضح أنّ التسرُّع بقضيّةٍ مصيريّة كهذه -خصوصًا من قبل الشركات التجارية التي تدفعُ الملايين في سبيل تطوير كريسبر لصناعة علاجاتٍ أكثر فعاليّة- هو أمرٌ من شأنه أن يسبّب أزمةً جينيّةً، وأخلاقيّة.