خرافة «من الصفر» في حكاية رائد الأعمال

إن نقطة الصفر التي ينطلق منها دعاة الاستثمار خرافة، والتنظير الفوقي المتعالي منهم ليس إلا إمعانًا فيها وإهانة ضمنية لظروف الآخرين.

نزولًا عند رغبة أحد الأصدقاء، حضرت ندوة استضيفت فيها مؤسَّسة شركة محلية تبلغ قيمتها السوقية رقمًا فلكيًا. تحدثت الضيفة عن رحلتها من الصفر معتمدةً على نفسها دون أي مساعدات عدا مساعدة بسيطة جدًا: تمكُّنها من مقابلة أحد كبار المسؤولين. وهذا المسؤول سهّل حصولها على التراخيص المطلوبة، بحكم نفوذ والدها وشبكة علاقاته.

تذكرني حكايتها بحكاية إمبراطوريّة دونالد ترامب المليارية التي صنعها ابتداءً من الصفر. فترامب استطاع تكوين نفسه بنفسه دون امتلاك شيء، عدا القرض الذي منحه إياه والده بقيمة مليون دولار. وبغض النظر عن التقارير التي تتحدث عن تضليلية هذه المعلومة وأن قيمة «قرض» الوالد تجاوزت ستين مليون دولار، لا تزال قصة ترامب تُقدَّم بوصفها قصة نجاح من الصفر.

يستحضر ذهني هذه الحكايات كل مرة أقع على تغريدات تنادي بضرورة الانعتاق من قيود الوظيفة وبدء «بزنس» شخصي، أو تغريدات تعلّم الناس كيفية إنفاق الراتب بما يسمح باستثماره وتوفير جزء منه شهريًا. القاسم المشترك بينها هو افتراض أصحابها معرفتهم بحقيقة النقطة «صفر»، وأنهم يتساوون مع الجميع في معايشتها.

لكن في الحقيقة هذا الافتراض ليس إلا نسخة معاصرة من «إذا لم يجدوا الخبز دعهم يأكلون الكعك،» إذ ينطوي على انفصال متعدد المستويات عن الواقع.

من أواخر التغريدات سلسلة تحتوي مثال تقسيم راتب شهري «بسيط» بشكل يضمن توفير 20% منه. يتضح من النظرة الأولى أنَّ المقصود موظف ينتمي للطبقة المتوسطة، ويحظى بامتياز العيش باستقلالية كما لو أنه مقطوع من شجرة. 

فمنذ لحظة استلام راتبه، يستطيع هذا الفرد إنفاق أغلب الراتب على مصروفاته الشخصية بفائض ترفي واستثماري. فليس ثمة ديون يسددها ولا التزامات عائلية يتكفل بها أو يسهم فيها، ولا حاجة لادخار مبلغ لشراء سيارة مثلًا. فضلًا عن افتقار التقسيمة للرأسمال الابتدائي الذي يؤهل الفرد للانتقال لمدينة أخرى للعمل.

إن نقطة الصفر التي ينطلق منها دعاة الاستثمار خرافة، والتنظير الفوقي المتعالي منهم ليس إلا إمعانًا فيها وإهانة ضمنية لظروف الآخرين وتدبيرهم لأمورهم. ويتجاهل هذا الخطاب الاستثماري الدعوي عشرات العوامل المحورية، سواء تمثلت في أثر بيئة النشأة البالغ على العديد من الفرص الحياتية، أو تباين سلم الأولويات (لا يصدق داعية للاستثمار أن هناك من لا يتشارك معه أولوياته)، أو حتى الصدفة السعيدة أحيانًا. 

الاستثمارالثروةالموظفالرأي
نشرة أها!
نشرة أها!
منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+640 مشترك في آخر 7 أيام