عزلة سوشال ميديائية

نصل مرحلة الاستياء من انغماسنا في وسائل التواصل الاجتماعي فنقرر اعتزالها مؤقتًا، لكن سرعان ما سنكتشف مدى تغلغل «السوشال ميديا» في ذواتنا.

يضيق ذرعًا كلما رأى معدل استهلاكه المرعب للهاتف. يتحقَّق من عدد الساعات متحسرًا على كل دقيقة قضاها بلا منفعة تعود عليه. فيتخذ قراره بحذف جميع تطبيقات التواصل الاجتماعي فترةً من الزمن. 

لكن قبل حذفها، يسجل دخوله مرةً أخيرة ليعلن أمام الجميع أنه سيأخذ عزلةً تطهّر ما شاب تفكيره وخاطره بفعل هذه العوالم. ويأسى على انقضاء الأيام التي لم يكن للإنسان فيها كل هذا الحضور الإنترنتيّ الذي يسلبه ذاته وأوقات هواياته.

أخيرًا، ها هو الآن حرٌّ. استيقظ مبكرًا، وقرر الذهاب للمطعم الذي رآه سابقًا في «ستوري» أحد المؤثرين. وقبل مغادرته، تذكَّر أن يحمل معه روايةً وَقَع عليها في حساب أحد قرَّاء تويتر، إذ أعجبته اقتباساتها المصورة. لدى وصوله للمطعم، اضطر لفتح الإنستقرام حتى يتصفح صور أصناف الأطعمة المتعددة. أغراه طبقُ بيض البيندكت بفعل تعليقات المنشور فطلبه.

وما إن وصل طعامه وقهوته، حتى رتَّب صديقنا الأغراض بتجاورٍ منطبع في مخيلته، والتقط صورةً تبان فيها أشعة الشمس متراقصةً حول البخار المتصاعد. وذكّر نفسه أن يرفعها على حساباته بمجرد انتهاء العزلة. 

ما اعتبره صديقنا جزءًا من عزلته النقيّة ليس عودةً إلى ذات «ما قبل السوشال ميديا»، بل عزلة يعيشها جزئيًا عبر ما تعلَّمه خلال أوقاته في مختلف التطبيقات. وليس هذا أمرًا سيئًا. 

فالتهويل المبالغ فيه لمساوئ منصات التواصل الاجتماعي يغفل حقيقة أنَّ رؤانا للعالم اليوم -بل العالم في حد ذاته- أصبح مُصاغًا ضمن تفاعلاتنا مع محتواها. سواء تمثلت تلك التفاعلات في اختيارنا لسلعةٍ دون أخرى، أو ممارستنا لهوايةٍ جديدة، أو حتى انفتاحنا على معارف لم نحط بها قبلًا.

لحظة «السوشال ميديا» فاصلة في تاريخنا لأنها تعيد تشكيلنا، بسلبياتها وإيجابياتها. وأيُّ محاولة للـ«عودة» إلى أصالةٍ قبل هذه اللحظة لا تعدو كونها نوستالجيا تولّدت أصلًا من تفاعلنا نحن مع عوالم التواصل الاجتماعي.

لا تسئ فهمي، ليست هذه دعوة للترشيد في استهلاك منصات التواصل الاجتماعي أو موعظة لاقتناص خيراتها واجتناب شرورها، بل محاولة للإشارة إلى مدى تغلغلها في تشكيل ذواتنا وتصوراتنا. فحتى قرارك الاعتزال مؤقتًا إقرارٌ بأنَّ «السوشال ميديا» باتت واقعًا لا ينفكّ عن عالمك.

سوشال ميدياالرأيالسلطة
نشرة أها!
نشرة أها!
منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+640 مشترك في آخر 7 أيام