هل تايوان فتيل الحرب العالمية الثالثة؟
يتصاعد الحديث حول احتمال وقوع نزاعٍ أميركي صيني محوره تايوان، وحتى نعرف جدية تلك الاحتمالات، لا بد من العودة أولًا إلى التاريخ.
لا تعد تايوان قضيةً ذات اهتمام بالغ في أوساطنا. فلا روابط جغرافية أو اقتصادية أو سياسية ذات شأن مهم يجمعنا بها. فذلك البلد الشرق آسيوي بقعةٌ تتضاءل، بل تختفي، أسفل عدسة حديثنا حول القارة الآسيوية.
وحتى وقتٍ قريب، لم أتصورها تحمل كل تلك الحساسية بالغة التعقيد حدَّ احتمال كونها فتيل إشعال نار الحرب العالمية الثالثة.
تايوان تاريخٌ من الصراعات
بدأت حركة الهجرة إلى جزيرة تايوان لاستيطانها والإقامة فيها بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر مع رجل يدعى «شيه شان فو». حثَّ فو أسرابًا من الجماعات الصينية على الاستقرار في جزيرة تايوان فرارًا من الغزاة المغوليين والتتار، وبحثًا عن نعيم الحرية والأمان.
لكن ذلك النعيم لم يستمر، إذ سرعان ما طارد جحيم الحروب والصراعات تلك الجزيرة. فعلاقتها مع النزاعات وسلطات الاحتلال ليست وليدة عصر قريب. ويشهد التاريخ على تلك العلاقة منذ عام 1206 حين صنع المغولي جنكيز خان منها محميةً لإمبراطوريته.
تجددت الصراعات على الجزيرة عام 1624 مع قدوم الغزاة الهولنديين إليها زحفًا من أوربا. سرعان ما لحق بهم الإسبان واحتلوا الشمال الأقصى عند موقع العاصمة تايبيه، قبل أن يبسط الهولنديون كامل سيطرتهم ويطردوا الإسبان منها عام 1642.
سبعة وثلاثون عامًا كان امتداد تاريخ الهولنديين في تايوان. حتى أتى «تشنق تنشق كون» من البر الصيني، بقيادة جيش تابع للأسرة الملكية الصينية «مينق»، ليكسر صمود الهولنديين وتستعيد الصين سيطرتها على جزيرتها التي لم تنسها.
تلاها صدامٌ صينيّ فرنسي على الحدود بين إقليم يون يان الصيني وأراضي الهند الصينية. وبعدها بتسع سنوات عادت عجلة الاضطرابات مرة أخرى على الجزيرة إثر نزاعٍ بين الصين واليابان حول كوريا.
الصين الشعبية والصين الوطنية
أعلن ماو تسي تونق انتفاضته وثورته على القوميين عام 1949 ليصبح مؤسس جمهورية الصين الشعبية ورئيسها. وتمثَّل التحدي الأكبر أمام تلك الجمهورية في تفكك ثلاث جزر كبيرة خارج السيادة الصينية: هونق كونق تحت الاستعمار البريطاني، وماكاو تحت الاستعمار البرتغالي، وتايوان التي قرر رئيس الصين تشانق كاي تشيك الفرار إليها بعد هزيمته أمام ماو.
أعلن تشانق كاي شيك تايوان دولة «الصين الوطنية». لتبدأ حقبة جديدة فقدت معها الصين بوصلتها في تمثيل الشعب الصيني وآرائه دوليًا، رغم الفارق الكبير جدًا بين قدرات الصين وتايوان في كافة المناحي.
زاد العبء على جمهورية الصين الشعبية مع تحوُّل تلك الرقعة الجغرافية منطلقًا لمسلسل لا ينتهي من الابتزاز الأمیرکي ضدها بمختلف أشكاله السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية.
وتزامنت ولادة جمهورية الصين الشعبية تحت حكم ماو مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
وبما أنَّ الصين اشتراكية فمن الطبيعي وقوفها ندًّا مناوئًا لأميركا. فسعت أميركا لتصنع من تايوان عدوًا يشغل الصين، إذ اعترفت بالصين الوطنية أو تايوان ممثلًا للشعب الصيني. Click To Tweet
ولأن دوام الحال من المحال، وجدت تايوان نفسها تخوض معترك العزلة عن العالم. فقد أصبحت الجزيرة الصغيرة بين فكي التنين الصيني الذي يطوقها. وبدأ الحلم الأميركي یبتعد عنها بعدما استقبل الرئيس الأميركي جيمي كارتر الزعيم الصيني دينق شياو بينق عام 1979، معلنًا اعترافه الصريح بالصين الشعبية ومؤكدًا أنها من يمثل الشعب الصيني.
بعدها شهدت ثمانينيات القرن الماضي حقبة جديدة ومختلفة بين الصين وتايوان. فقد عاد الدفء بين البلدين لكن بحذر شديد، وشهدت معظم النواحي، على الأخص الدبلوماسية والاقتصادية، ازدهارًا ملحوظًا. وهكذا، بعد قرابة نصف قرن، أعلنت تايوان نهاية الحرب مع البر الصيني.
لماذا عادت أميركا إلى تايوان؟
في محاولة منها للملمة ما تبعثر من جسدها الجغرافي، استعادت الصين سيطرتها على هونق كونق عام 1997 بنظامٍ لم يشهد له العالم مثيلًا: دولة واحدة بنظامین. فجسدت الصين في سيطرتها هذه نموذجًا مغريًا لعودة الجزيرة التايوانية، لا سيما بعد مسارعة ماكاو للعودة عام 1999.
لكن رفضت تايوان كل العروض المغرية، ساعيةً لضمان ابتعادها عن أي نفوذ خارجي يسيطر عليها.
إصرار تايوان قابله عزيمة صينية لاستكمال مشروع شرعت في تنفيذه. ففي عام 2004 أصدرت الصين ما يسمى بقانون «مناهضة الانفصال» الذي ينص على حق الصين في استخدام الوسائل غير السلمية ضد تايوان إذا حاولت الانفصال عن الصين.
وفي عام 2016، انتُخِبَت الديمقراطية التقدمية تساي إنق وين رئيسةً لتايوان، التي يرفض حزبها رفضًا قاطعًا الانضمام للجناح الصيني. جاء انتصارها بالتزامن مع انتصار ترمب في الانتخابات الأميركية. ولدى حديث ترمب الهاتفي مع إنق وين، أعاد العلاقة مع الجزيرة المعزولة، ضاربًا بالاتفاقية الأميركية الصينية الموقعة عام 1979 عرض الحائط.
تعهدت الولايات المتحدة لاحقًا بتزويد تايوان بأسلحة دفاعية، وشددت على أن أي هجوم من جانب الصين من شأنه أن يثير «قلقًا كبيرًا». ليأتي بايدن في بداية فترة رئاسته ويؤكد على تلك العهود.
يحلل الكاتب «هال براندز» في صحيفة «بلومبيرق» سر الاهتمام الأميركي بتايوان. فالجزيرة تشكل حلقة توازن عسكري في غرب المحيط الهادي بأكمله، كونها أول سلسلة الجزر الممتدة إلى الفلبين. ويضمن تواجد الولايات المتحدة حماية الجزر الأخرى من أي اجتياح صيني، الذي لو حدث سيعظِّم حتمًا الهيمنة الصينية.
كما أن انسحاب الولايات المتحدة وتركها تايوان دون بذل أي مجهود للحفاظ على أمنها، سيؤثر سلبًا على المصداقية الأميركية. وسيدفع حلفاءها، اليابان والفلبين وكوريا، لإعادة النظر في تحالفاتهم وعلاقاتهم معها.
نزاع القطبين حول قيادة العالم
هل تكون تايوان فتيل الحرب العالمية الثالثة؟ لا يمكن لأي شخص أن يعطي إجابة قطعية على هذا التساؤل حتى رئيسي الصين والولايات المتحدة نفسيهما. لكن ثمة معطيات يمكن لنا استشراف المستقبل بناءً عليها. فالمؤكد، أنَّ ضمَّ تايوان للصين من عدمه مؤشرٌ لصاحب الكلمة الأقوى بين القوتين العظميين، التي بدورها سترجح كفة إحداهما في قيادة العالم.
الصين في رحم الأيديولوجيا
وعمومًا، نادرًا ما تظهر الصين حدَّة موقفها في تناولها هذا الملف الساخن، فآخر تلك المواقف الحادة كانت عام 2019. إذ هدد الرئيس الصيني شي جين بينق، بشكل مباشر لم يعتد عليه العالم، استعادة تايوان سواء بالطرق السلمية أو الإجبارية. لكن في خطابه الأخير قبيل أيام تعهد بإعادة الوحدة سلميًّا.
في حين جاء رد بايدن صارمًا في هذا الملف. ففي لقائه الأخير مع شبكة سي إن إن، سئل عن إمكانية أميركا الدفاع عسكريًّا في حال شنت الصين هجومًا على تايوان وأجاب: «نعم. نحن ملتزمون بذلك.»
أخيرًا، تغيُّر موازين القوى بين قطبين لا يأتي عادةً بنعومة وانسيابية، بل لا بد من عراك يخرُّ له أحد الطرفين. والحاصل الآن أن أميركا تريد الحفاظ على نفوذها، والصين ترغب بالظفر بقيادة العالم الذي يبدأ بالاستحواذ على تايوان. إذ لا يمكن للصين أن تقود العالم إن لم تستطع حتى قيادة محيطها.