كيف يتصالح الجمهور مع تشفير الدوري السعودي؟

وصلت أصداء الدوري السعودي بقوة إلى الشارع المصري، فكيف لقرار تشفير البث أن يساعد في تطوير الدوري ومواصلة تحقيق متابعة جماهيرية عالية؟

قبل أيام كانت مباراة الهلال والنصر في نصف نهائي دوري أبطال آسيا. وأمرٌ منطقي حديث الشارع السعودي عن أهمية تلك المباراة، لكن ما حدث في القاهرة لم يكن معتادًا أبدًا. لم يكن حديث الجماهير المصرية حول مباراة الهلال والنصر مجرد حديث سطحي عن مباراة ديربي عربي يستحق المشاهدة، بل حديثًا فنيًّا وتكتيكيًّا خالصًا.

أسماء مثل قوميز والدوسري وتاليسكا تعرفها الجماهير المصرية جيدًا. بل ولها متابعون ومحبون، ومنتقدون أيضًا، وفقًا للأداء في كل مباراة.

وبالنظر إلى الحساسية بين كرة القدم المصرية والسعودية، فهذا الاهتمام لم يكن عاديًا أبدًا. فهناك اعتقادٌ راسخ عند الجماهير المصرية أنَّ كرة القدم في مصر هي الأفضل عربيًّا، وأن الدوري السعودي مهما ضُخَّت فيه من أموال لن يقدم كرة قدم حقيقية كالتي تقدمها مصر.

اليوم أصبح هذا الاعتقاد بالأفضلية للكرة المصرية من الماضي. والسبب بمنتهى النزاهة أن كرة القدم السعودية أصبحت أفضل بشكل واضح، ولهذا فالحديث عن الدوري السعودي كمنتج يستحق المشاهدة حديثٌ له رجاحته.

كيف يشاهد السعوديون كرة القدم؟

شاهدت الديربي السعودي عبر رابط غير رسمي على تطبيق تويتر، وأثار استغرابي مشاهدة ثلاثمائة ألف شخصٍ آخر عبر الرابط. ربما تظن أن حجم المباراة السبب في زيادة عدد المشاهدين، لكن في الحقيقة نسبة عالية من السعوديين أنفسهم يشاهدون مباريات الدوري المحلي عبر روابط تويتر غير الرسمية.

قبل بداية الموسم الحالي تزايد الحديث عن تشفير بث المسابقات السعودية بشكل ملحوظ. لكن شبكة قنوات «إس إس سي» الفضائية -المالك الحصري لتلك المسابقات- أعلنت في النهاية أن بمقدور الجماهير المشاهدة بشكل مجاني عبر قنواتها. لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة.

فقد قرر المسؤولون تقسيم المشاهدين إلى فئتين. الفئة الأولى تنادي بعدم تشفير البث. ويستطيع هؤلاء مشاهدة مباريات الدوري السعودي وكأس خادم الحرمين الشريفين والسوبر السعودي عبر قنوات «إس إس سي» لكن بتقنية الدقة القياسية (SD) دون وجود استديو تحليلي أو حتى تعليق مميز، وبالطبع دون مقابل مادي.

على الجانب الآخر قرر المسؤولون أن المنتج الذي يقدمونه يستحق دفع المال مقابله. فهم يملكون إلى جانب المسابقات المحلية حقوق بث بطولات الاتحاد الآسيوي سواء للأندية أو المنتخبات. كما أنهم على يقين بأن المشجع الرياضي شغوف حد الارتباط بتفاصيل كرة القدم وليس مجرد المشاهدة.

من هنا خاطب المسؤولون الفئة الثانية على الفور. إذ أكدت القناة على نقلها جميع الأحداث الرياضية العالمية التي تستضيفها السعودية بالإضافة إلى بطولات الاتحاد الآسيوي. وسيكون النقل عبر باقة الرياضة المتاحة على منصة شاهد «في آي بي»، وكذلك على جهاز «جي أو بي إكس» (GOBX) الفضائي بتقنية الصورة فائقة الدقة (HD).

كما ستنقل المسابقات السعودية المحلية لكن بشكل آخر تتوافر فيه تغطية شاملة لتلك المباريات. فتضم محتوى برامجي متنوع واستديوهات تحليلية واستضافة المحللين الفنيين المختصين. حددت القناة سعر الاشتراك بين ثمانية وخمسين ريالًا إلى خمسة وسبعين ريالًا. اشترك البعض ورفض  البعض، لكن في النهاية قرر جزء كبير مشاهدة المباريات عبر الروابط المسروقة!

لا أحد يشاهد عبر شاهد

ما حدث فعلًا أن المسؤولين قرروا تشفير البث دون التأكد من تمام جودة الخدمة المقدمة. حتى أن المتحدث الرسمي عن شبكة قنوات «إس إس سي» نصح المشاهدين بعدم استخدام الهاتف أثناء مشاهدة المباريات حتى لا يتأثر البث بجودة الإنترنت.

لماذا إذن يتعلق البث بالإنترنت إذا كانت شريحة الجمهور المستهدف لا تتمتع بإنترنت جيّد؟ الحقيقة أن:

تشفير البث ليس المأزق. إذ لا يمانع مشجع كرة القدم دفع المال لأجل مشاهدة ممتعة، لكن مقابل خدمة احترافية. حتى هؤلاء الذين يرفضون تشفير الدوري، إذا تطور الدوري نفسه قد تتغير آراؤهم. Click To Tweet

والمقصود هنا ليس البث الداخلي فقط لكن البث الخارجيّ أيضًا. أن يدفع مشاهد أجنبي المال لأجل مشاهدة مباريات الدوري السعودي، فهذا قمة ما يطمح له أي دوري. لكن كيف تصنع دوري يستحق أن يُدفع مقابل مشاهدته مع ضمان تقديم خدمة بث مميزة؟

إذا كنت تريد الإجابة فلن تحصل عليها قبل يوم السبت. فعشاق كرة القدم يعرفون أنه لا يوم أفضل من سبت إنقليزي ممتاز. نعم، الدوري الإنقليزي النموذج الأفضل فيما يتعلق بجودة الدوري وعوائد البث.

قصة الدوري الإنقليزي

يذكر الصحفي جوشوا روبينسون في كتابة «النادي» (The Club)، قبل حوالي ثلاثين عامًا كانت كرة القدم في إنقلترا في أسوأ أشكالها. حتى أنه في عام 1985 اندلع حريق في ملعب برادفورد بسبب عُقب سيقارة أُلقي فوق كومة من القمامة المتكدسة تحت المدرجات. لم تتوافر طفايات الحريق داخل الملعب وأدى ذلك إلى وفاة ستة وخمسين شخصًا.

كانت كرة القدم تكافح من أجل تغطية نفقاتها. يُنظَر إليها بقلقٍ دائم داخل الدولة كمصدرٍ للمشاكل، وسط مطالب ملحة لتحسين حالة الملاعب حفاظًا على أرواح المشجعين.

لم تمتلك الأندية القدرات المالية لتلك التحسينات المطلوبة، فألقت اللوم على مسؤولي الاتحاد الإنقليزي الذي يدير اللعبة. فما تحصل عليه الِفرق من أموال نتيجة البث أو الفوز بالبطولات لا يكفي لتطوير الرياضة أو المنشآت.

من يقتل لاعبي كرة القدم؟

اكتظت الأعوام الأخيرة بجداول مباريات كرة القدم بين بطولات الأندية والمنتخبات حدًا أصبح يتهدد اللاعبين بخطر الإصابة أو حتى الموت.

9 سبتمبر، 2021

تمثَّل لب المشكلة في توزيع الاتحاد العوائد على الفرق الاثنين وتسعين المكونة لكل درجات الدوري الإنقليزي. ومع نمو طموحات الأندية المكونة لدوري الدرجة الأولى، أصبحت تنظر إلى ما تبقى من الأندية الإنقليزية على أنها عبء.

هنا أدركت تلك الأندية أن الحل یکمن في إقامة دوري منفصل لا يشرف عليه الاتحاد الإنقليزي. بل تديره رابطة اختارتها الأندية ذاتها برئاسة رجل يدعى ريك باري.

وقَّعت الأندية الاثنين وعشرين المكونة لدوري الدرجة الأولى آنذاك على اتفاقية الأعضاء المؤسسين في يوليو 1991. أرست الاتفاقية مبادئ الدوري الإنقليزي الممتاز منها: الاستقلال التجاري والالتزام بالترقية والهبوط وصيغة محددة لتوزيع الإيرادات.

هكذا أصبح هناك دوري إنقليزي ممتاز، لكن ذلك في حد ذاته لا يجلب المال. المال أتى من أميركا، بفضل عوائد البث التلفزيوني للمباريات عبر شبكة سكاي المملوكة للملياردير روبرت مردوخ.

البث الذي صنع نجاح الدوري الإنقليزي

روبرت مردوخ هو إمبراطور الترفيه في أمیرکا ومالك شبكة «بي سكاي بي» الإنقليزية حينذاك، إذ كان يؤمن أن التلفزيون الإنقليزي هو الأفضل. لكنه اصطدم بعزوف الجمهور الإنقليزي عن مشاهدة المحطات التلفزيونية مدفوعة الأجر.

كان قد استثمر ملياري جنيه إسترليني في «بي سكاي بي»، ويخسر مليون جنيه إسترليني في الأسبوع. إذ لم يتعدَّ عدد المشتركين في قناته 500 ألف مشترك. فكَّر الرجل ببساطة أن الحل الوحيد لاستقطاب الجماهير الإنقليزية يكمن في حصوله على الحقوق الحصرية لبث مباريات الدوري الإنقليزي. ودفع أكثر من 300 مليون جنيه إسترليني للفوز بتلك الحقوق.

لم يكتف مردوخ بذلك، بل غيَّر من شكل كرة القدم نفسها عبر شاشات التلفاز وأيضًا في الملعب. فقدمت شبكات سكاي شكلًا جديدًا من حيث الإخراج الهوليودي وأطقم المذيعين والطائرات الدعائية التي تحلق قبل المباريات.

صحيح يُبث الدوري السعودي بأحدث التقنيات، ويضخ مسؤولو كرة القدم أموالًا هائلة في صورة لاعبين ومنشآت، لكن هناك فارق جوهري بين أموال تتحصل عليها الأندية عن طريق البث وأموال تتحصل عليها الأندية في صورة دعم أو هبة.

كيف تساهم أموال البث في تطوير الأداء؟

قررت إدارة الدوري الإنقليزي الممتاز أن توزَّع عوائد البث التلفزيوني بنسبة (25:25:50). تُقسَّم 50% بالتساوي، ثم 25% بناءً على الظهور التلفزيوني مع وجود حد أدنى معين لكل نادي. ثم تُقسَّم النسبة المتبقية، 25%، وفقًا لموقع الفريق في الترتيب النهائي.

الأهم هنا أنه بصرف النظر عن مقدار الأموال المتدفقة، ينال النادي صاحب المركز الأول ربحًا بمعدل 1.8 ضعف ما يناله النادي صاحب المركز العشرين.

هنا يكمن المكون السري للوصفة التنافسية في الدوري الإنقليزي الممتاز. صناعة إطار للحفاظ على الأندية الصغيرة غنية نسبيًا، وجعل الهبوط من الدرجة الأولى كارثة مالية.

فأصبحت بذلك كل مباراة في الدوري مهمة وأكثر تنافسية الآن، سواء كان النادي يطارد اللقب أو يهرب من الهبوط. كل مباراة على مدِّ ثمانية وثلاثين أسبوعًا في السنة تساوي ملايين. ويتجلَّى ذلك على أرض الملعب، إذ لم يعد أحد يتهاون بعد الآن، حتى عندما يتأخر بهدفين أو ثلاثة.

هكذا أصبح الدوري قويًا ندَّيًا، وكل الفرق أصبح لديها من المال ما يمكّنها من شراء اللاعبين والتنافس بقوة. ونتج عن ذلك وجود مشتركين أكثر، ما يعني جني شركة البث مالًا أكثر. ويعني هذا بالتبعية أن الصفقة القادمة للبث ستكون بمبلغ مالي أضخم.

تطوَّر الأمر عبر السنوات. وبلغت قيمة الصفقة الأخيرة لحقوق البث التلفزيوني مع الشركاء الحاليين سكاي و«بي تي» وأمازون 4.8 مليار جنيه إسترليني رغم جائحة كورونا. أما حقوق بث الدوري خارج إنقلترا فهذا أمر آخر.

تُقسَّم حقوق البث الخارجية إلى حزم إقليمية منفصلة، ويكون التعامل وجهًا لوجه مع شركات المحطات التلفزيونية دون وجود وسيط. وفي عام 2004 بيعت الحقوق الدولية للدوري بمبلغ 325 مليون جنيه إسترليني، بزيادة قدرها 83% عن الدورة السابقة. وفي عام 2007، قفز الإجمالي إلى 625 مليون جنيه إسترليني. 

في حين شهدت دورة 2010 بيع حقوق ملكية الدوري الإنقليزي الممتاز في الخارج بقيمة 1.4 مليار جنيه إسترليني.

الدوري السعودي إلى العالميَّة

إذا كان المسؤولون في السعودية ينفقون أموالًا ضخمة من أجل تطوير الدوري السعودي فلتكن تلك الأموال في صورة عوائد بث. لكن بشرط تقديم الخدمة بشكل محترف للمشاهد، وتوزیع تلك الأموال على الأندية بعيدًا عن أسماء الفرق الكبرى ومحبي الهلال وداعمي النصر ومريدي الأهلي وعاشقي الشباب.

أما إذا كنت مقتنعًا أن الدوري السعودي متى شُفِّر لن يجني المال المناسب، سأخبرك أنني كنت أشكك في هذا الأمر، لكنني تيقنت من استعداد الكثيرين دفع المال من أجل مشاهدة هذا الدوري بشرط خدمة محترفة ومباريات تتسم جميعها بالنديَّة.

تأكدت من ذلك يوم نطقت القاهرة اسم «البُليهي» وكأنه لاعب أوربي ذو اسم مستساغ على لسان المصريين. أعلم أن المشجع المصري ليس مرجعًا لتحديد جودة الدوري السعودي، لكنني أتحدث عن حساسية مفرطة، وأدرك من أعماق قلبي أنه ليس سهلًا على المصريين الاعتراف بهذا التفوق. كما أن اسم البليهي ليس سهلًا على ما أظن، بدليل نطقهم إياه بالضمة.

الدوري السعودي هو الدوري الأفضل في المنطقة العربية، وإذا وُضعت الإمكانات المتوفرة في إطار احترافي يضمن النديَّة، فحتمًا سيصبح الدوري السعودي دوريًّا عالميًّا.

الجماهيريةالدوري السعوديالرياضةكرة القدمالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية