كيف سيطر «شي إن» على سوق «الجيل زد»؟
نجح «شي إن» في اكتساح سوق تجارة الأزياء الإلكترونية معتمدًا على «الجيل زد» كقاعدة مشترين، فيما تُثار الأسئلة حول مدى أخلاقية أساليبه.
يكاد لا يخلو تصفحي اليومي على الإنترنت من إعلانات موقع «شي إن». تنبثق من كل مكان، فيصعب تجاهل تواجده التسويقي الكثيف الموجَّه من خلال خوارزميات إنستقرام ويوتيوب وتويتر.
وعلى ما يبدو، يؤتي هذا النهج في التسويق ثمره. ففي مايو 2021، تفوّق «شي إن» على أمازون كأفضل تطبيق تسوق في متاجر التطبيقات في أميركا، إذ اكتسح عالم الموضة السريعة بشراكاته مع المؤثرين و«أكواد» تخفيضاته الكثيرة. وبذلك أصبحت شركة صينية جديدة نسبيًا إحدى عمالقة التسوق الإلكتروني.
مطلع عصر الموضة السريعة
تقليديًا، اعتمدت دور الأزياء الكبرى على نظام الأربعة مواسم لإطلاق تشكيلاتها الجديدة. وكان يستغرق هذا النظام نحو سنتين من مراحل تصميم القطع والبحث عن الموارد ومعالجة الأقمشة والإنتاج بكميات كبيرة ثم توصيل الملابس إلى المتاجر للبيع. استمر نظام الإنتاج هذا حتى نهاية الثمانينيات، ثم بدأ يتغير مع دخول زارا إلى السوق.
قلبت زارا عالم الأزياء رأسًا على عقب حينما قدّمت نموذج «الموضة السريعة». إذ سرَّعت خطوات إنتاج الملابس وبسّطت عملية التوصيل لتستغرق وقتًا أقل. وبالاستفادة من نظام «التصنيع بالاستجابة السريعة» (Quick Response Manufacturing)، احتفظت الشركة بموادها الخام في المتناول عوضا عن البحث عنها، فلا تنتج قطعًا إضافية إلا بوجود طلب عليها.
كما ساعد تقليدها تصاميم العلامات التجارية الكبرى في إسراع خط الإنتاج لديها، متفاديةً في الوقت ذاته مطابقتها. اكتفت وحسب بصنع قطع مشابهة للتصاميم المنتشرة في السوق، فتمكَّنت بذلك من ركوب أمواج توجهات المستهلكين بسرعة، وجذبهم لمنتجاتها الأقل سعرًا.
وهكذا تركت زارا بصمة فارقة بها في عالم الأزياء. فقلَّصت الوقت اللازم للتصميم والإنتاج والتوزيع من سنتين إلى أربعة أشهر، واستبدلت نظام المواسم الأربعة بتوفير قطع جديدة طوال العام. بالطبع لقي النظام الجديد إقبالًا كبيرًا، وحذت حذوها شركات أخرى مثل «إتش آند إم» و«فوريفر 21».
وداعًا زارا مرحبًا «شي إن»
بحلول عام 2010، ظهرت متاجر إلكترونية للأزياء تمهد إلى بزوغ عصر «الموضة فائقة السرعة». لم تمتلك تلك الشركات أي متجر على أرض الواقع، بل اعتمدت كليًّا على مواقعها الإلكترونية وتطبيقاتها كـ«أسوس» (Asos) و«فاشن نوڤا» (Fashion Nova) و«جولي شيك»، ومؤخرًا «شي إن».
سرعان ما شكّلت المتاجر الإلكترونية منافسًا قويًّا في إمبراطورية الموضة السريعة المهيمنة على أسواق العقد الماضي. ووجَّهت الجيل الجديد من المستهلكين نحو العصر الإلكتروني في عالم الأزياء.
وبلا شك يقود «شي إن» هذه المرحلة الجديدة. فقد استولى المتجر الإلكتروني على مكانة عملاقة مماثلة لسلسلة «إتش آند إم» و«زارا» بأسعار أقل وارتفاع لعدد تحميلات تطبيقه. ووفقًا لمنصة تحليل أداء المواقع «سميلار ويب» (similarweb)، يعد «شي إن» اليوم أكثر مواقع الأزياء والملابس زيارةً في العالم.
كيف كسب «شي إن» قاعدة «الجيل زد»؟
ما يقدّمه «شي إن» من قطع عصرية وأسعار زهيدة يطابق أذواق «الجيل زد». فهذا الجيل من المستهلكات المراهقات يتخذن قراراتهن الشرائية -لا سيما في الملابس- متأثرات بإنستقرام وتك توك. ويستغل «شي إن» هذه الميزة بعقده الشراكات مع المؤثرات والتسويق من خلالهن.
ولا يعد مفهوم التسويق عبر المؤثرين بجديد في عالم الأزياء، فقد استفاد «فاشن نوفا» من المؤثرين على إنستقرام. وحساب «شي إن» في إنستقرام مليء بصور المؤثرات، لكنه ذهب إلى حد أبعد، فتعاون مع مؤثرات في تصميم تشكيلاته الجديدة وإطلاقها.
منها مثلًا شراكته مع عارضة الأزياء البحرينية المهرة، والتي صمّمت تشكيلة حصرية للموقع. كما تشارك الموقع مع المغنية كيتي بيري، إذ انتقت مجموعة من قطع الملابس والإكسسوار من الموقع ونسّقتها بتشكيلة حصرية.
ويرفع ظهور العارضات والممثلات والمغنيات في قطع أنيقة من «شي إن» من مكانته كمتجر ويزيد جاذبية منتجاته. فاقتناء مؤثرة تستطيع شراء فستان بآلاف الدولارات قطعةً متواضعة السعر من «شي إن» يشد جمهور المستهلكات، فيرين فيها قطعةً فاخرة ومرموقة رغم سعرها المنخفض.
لا يمكن اختصار تفوّق «شي إن» على منافسيه فقط بإستراتيجية اشتراكه مع المؤثرات. فقد نجح أيضًا في توفير تنسيقات تلائم اختيارات «الجيل زد»، كقمصان تحمل شعارات الفرقة الكورية «بي تي إس»، وتنانير كالتي تظهر في برامج الأنمي والمسلسلات الكورية.
كما يبيع الموقع مقاسات كبيرة بتنسيقات عصرية، على نقيض بعض الشركات الأخرى التي لا تشمل جميع المقاسات، أو تقدّم مقاسات كبيرة لا تلبّي أذواق «الجيل زد».
كيف ارتفعت أرباح «شي إن»
جاء اكتساح التسوق عبر الإنترنت خلال الجائحة بأرباح طائلة على «شي إن»، إذ حقق إيرادات تقدر بنحو عشرة مليارات دولار في 2020. وازدهر التسوق عبر الإنترنت في العام الماضي توازيًّا مع الخطوات الاحترازية في إغلاق المتاجر أو تقليل عدد زوارها.
حينذاك تسوَّق نصف المستهلكين السعوديين عبر الإنترنت أسبوعيًا على الأقل، وشكلت الملابس مشتريات أكثر من 49% من متسوقي الإنترنت.
كذلك استفاد «شي إن» من إستراتيجية تسويق منتجاته في تك توك إذ زادت من شعبيته لدى «الجيل زد». وأصبحت عمليات الشراء الهائلة من العلامة التجارية اتجاهًا شائعًا على المنصة. فيُظهر الوسم #sheinhaul على تك توك مقاطع حصلت على 2.6 مليار مشاهدة. كذلك هناك مقاطع الوسم #fail والتي تهدف إلى إظهار موقع «شي إن» على أنه لا يستحق أموال زبائنه.
لكن في النهاية، هدف الفيديو ورأي صاحبه لا يصنعان فرقًا مهمًّا في نجاح التسويق، فالهدف تحقيق الانتشار. ففي الحالتين سيشتري المستخدمون كميات كبيرة من الملابس من الموقع ليعرضوها، مما يُنتج محتوىً تسويقيًا لـ«شي إن» دون أن يدفع فيه شيئًا.
وأدى هذا الهوس الجنوني نحو الشراء إلى تحول دور المؤثرين في تك توك حيث أصبح يعتمد كليًّا على الاستهلاك. فمع كل مقطع تعرض فيه مستهلكة مشترياتها من «شي إن» ويحظى على مشاهدات وتفاعل، تستمر في إنتاج محتوى مشابه. Click To Tweet
وهكذا تبدأ دوامة التسوق المستمرة ثم إدمانه طمعًا في إرضاء المتابعين.
كما يتميز «شي إن» بقدرته الفائقة على متابعة مستجدات السوق، إذ يجمع بيانات العملاء ويحلّلها فوريًا. ثم يستخدمها في تصميم قطع جديدة في أقل من ثلاثة أيام، مما يمنحه تفوقًا على منافسيه. فمتى ما أصبحت قطعة ملابس معينة «ترندًا» على تك توك بين عشية وضحاها، سيتمكن «شي إن» من زيادة إنتاج القطعة وتحقيق الإرضاء الفوري لطلبات الجمهور.
هكذا نجد عشرات الآلاف من القطع المتوفرة على الموقع، مع ألف قطعة جديدة تضاف يوميًا. إذ يؤمن «شي إن» بالزيادة المفرطة، ويضع عددًا كبيرًا من المنتجات بمتناول الكثير وبأسعار رخيصة.
هل سرعة «شي إن» أخلاقية؟
هذه السرعة الخيالية في الإنتاج والأسعار المريبة لا يمكن تحقيقها دون ممارسات تثير الشكوك في أخلاقيات «شي إن»، بدءًا بإهمال التبعات البيئية وانتهاءً بعدم الشفافية حول القوى العاملة.
فوفقًا لتقرير وكالة رويترز في شهر أغسطس 2021، لم يكشف «شي إن» للحكومة البريطانية عن معلومات ظروف العمل وسلسلة التوريد، وهو أمر يتعين عليه فعله تحت قانون المملكة المتحدة. وفي السابق ذكر «شي إن» على موقعه في الإنترنت اعتماد هيئات معايير العمل الدولية لمصانعه، ثم حذفت لكونها معلومة خاطئة.
كيف نطبق مفهوم الاستدامة في صناعة الأزياء؟
ومن الآثار السلبية أخلاقيًّا في «شي إن» الإساءة لثقافات العملاء. فقد واجه استياءً من عملائه لبيعه عددًا من المنتجات بأسلوب مسيء للخلفية الدينية والثقافية، منها سجادة صلاة إسلامية عرضها كبساط مزخرف. اعتذر «شي إن» عن تلك الأخطاء، لكن أخطاء كهذه قد تتكرر في نموذج إنتاجه السريع المعتمد على نسخ تصاميم دون دراسة دلالتها.
وحتى اليوم لا يزال الكثير مجهولًا عن ممارسات العمل في «شي إن» وخطه الإنتاجي. ويواصل المتجر التزامه الصمت فيما يتعلق بالموضة الأخلاقية والاستدامة.
كيف نحدّ من عجلة الاستهلاك المفرط؟
تعد صناعة الأزياء إحدى أكثر القطاعات كثافة في استخدام الموارد الطبيعية في العالم، وضمن أكثرها تلويثًا. فهي تستخدم مئات القالونات من الماء في صنع ثوب قطني واحد. وفي عام 2015، انبعث عن إنتاج منسوجات البوليستر وحده نحو 706 مليار كيلوقرام من الغازات المضرة.
وتصنَّع معظم ملابس «شي إن» من أقمشة صناعية تُعد المصدر الرئيس في إطلاق ألياف بلاستيكية دقيقة في المحيطات.
بدأ المستهلكون والشركات في إدراك هذا الضرر. فشاع الاتجاه إلى شراء الملابس المستعملة من مواقع مثل «ديبوب» و«بوشمارك» و«إتسي»، والتي تزداد استخدامًا وشعبية. كما شاع الاتجاه إلى إصلاح الملابس والعناية بها بدلًا عن رميها. وتقدم شركة «باتاقونيا» (Patagonia) أدلة تعليمية وخدمات إصلاح القطع التي تبيعها حتى تطيل من عمر استخدامها.
سيصعب على شركات الموضة السريعة إبقاء أسرارها مخفية عن أعين المستهلكين، لا سيما في عصر «الجيل زد» الواعي لمجريات العالم. وفي نهاية المطاف، أيًّا تكن المؤثرات والإستراتيجيات التي تتبعها تلك الشركات والمتاجر، يظل القرار الأخير بالشراء في أيدينا.