صرف الأدوية باستخدام العملات الرقمية

يعاني مخزون الدواء في قطاع الصحة السعودي من هدر مالي وعجز في التموين، وحتى تُحل المشكلة نحتاج إلى تطبيق العملات الرقمية.

تتأثر جودة الرعاية الصحية في السعودية سلبًا بالتذبذب المُتكرر في الإمداد الدوائي للقطاع الصحي. يحدث ذلك رغم تخصيص الميزانية العامة في السعودية 2021 نحو 175 مليار ريال سعودي لقطاع الصحة والتنمية الاجتماعية. 

وتظهر ملامح النقص الدوائية أكثر على المؤسسات التابعة لوزارة الصحة. فهي أكبر مزود لخدمات الرعاية الصحية في السعودية، إذ توفر أكثر من 62% من رعاية المرضى المنومين

وعلى إثرِ هذا النقص يضطر الصيادلة إلى إحالة الكثير من الوصفات الدوائية إلى الصيدليات التجارية كإستراتيجية للتكيف مع النقص في أصناف دوائية أساسية. وتعجز الرقابة في هذه الحال عن منع استغلال الصيدليات التجارية للنقص ببيعها البدائل الدوائية الأعلى سعرًا. 

لهذا نحتاج اليوم إلى بناء هيكلة جديدة للنظام الصحي قادرة على إظهار أسباب هذا النقص واحتوائه. وقد يكون تسخير العُملات الرقمية لصالح القطاع الصحي حلًّا جذريًّا لهذه المشكلة.

أسباب نقص المخزون الدوائي

في عام 2011، نشرت «الحوليَّة الصيدلانية البلجيكية» (Annales Pharmaceutiques Belges) تقريرًا بعنوان «من أفغانستان إلى زيمبابوي». ويشير التقرير إلى بلوغ مشكلة نقص الأدوية حدًّا سيجعلها مع الوقت مشكلة عالمية معقدة. وأدرج التقرير إحدى وعشرين دولة متأثرة بصور مختلفة من مشكلة الإمداد الدوائي، إذ يتوزع النقص على مختلف مراحل سلسلة التوريد العالمية. 

وفي عام 2013، أقيم مؤتمر في كندا لمناقشة المشكلة على مستوى عالمي شاركت فيه حكومات وشركات من دول مختلفة كأميركا وأستراليا وجنوب إفريقيا. 

وفي السعودية لدينا عوامل محلية رئيسة تساهم في هذه المشكلة. ومعظم تلك العوامل إدارية، منها ضعف إدارة أنظمة التوريد وسياسات الشراء القديمة وطريقة إعداد القوائم الدوائية.

كما طرحت دراسة أخرى العامل البشري في مشكلة النقص. فطريقة استهلاك الأدوية وإدارة المخزون من العوامل المساهمة في تفاقم المشكلة على مستواها التنفيذي. وتعد هذه المشاكل في إطاريها الإداري والتنفيذي وجهان لعملة واحدة. 

المشاكل المرافقة للدواء المجاني 

بطبيعة الحال، يختلف التعامل مع المنتجات الموفَّرة مجانًا عن المنتجات مدفوعة الثمن. فمع الأدوية المجانية نشهد تساهلًا في تخزينها وفي صرف بدائل للضائع منها. فلا يتحقق الصيدليّ من سبب فقدانها خصوصًا مع الأدوية منخفضة السعر. 

ولا توجد جدية في التعامل مع الأدوية المسترجعة التي لم تستخدم. فقد تُراكِم الممرضة الدواء في الجناح كمخزون يسهل الرجوع له. وفي حالات أخرى تتأخر إعادة الأدوية المسترجعة التي تحتاج لحفظها في برودة الثلاجة فينتهي المطاف إلى رميها. 

وفي الوقت نفسه يصعب على الصيدلية متابعة طريقة حفظ الدواء وصلاحيته. أضف إلى ذلك أن المريض يصرف أدويته من مستشفيات مختلفة وتتراكم عنده مما يزيد من الهدر الدوائي.  

تنمو هذه المشاكل غالبًا في المنشآت القائمة على نظام «يوزع مجانًا ولا يُباع»، ولا يُعاني منها القطاع الخاص القائم على الرأسمالية. لكن مع الأزمة الاقتصادية التي سببها وباء كورونا تبينت جدية المشاكل التي تسببها تلك الظواهر.

وجاء نظام وصفتي الذي أطلقته شركة نوبكو الحكومية كي يخفف عبء هذه الأعراض الحتمية عن كاهل النظام الصحي الحكومي. إذ يضمن توفر الأدوية عبر ربط المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية بالصيدليات بغرض تيسير استلام المريض دواءه من أقرب صيدلية مجتمعية. 

لكنّ النظام يَحُل مشكلة عدم توفر الأدوية للمرضى المراجعين للعيادات الخارجية فقط، ولا يحلها للمرضى المنومين في المنشآت الحكومية الصحية المختلفة.

أنواع أنظمة الرعاية الصحية

هناك أربعة نماذج مختلفة من الأنظمة الصحية المعتمدة حسب أنظمة كل دولة وسياستها.

  1. «نموذج بيفرج» (Beveridge Model) في بريطانيا حيث توفر الحكومة الرعاية الصحية مجانًا من مدفوعات الضرائب.

  2. «نموذج بسمارك» (Bismarck Model) في ألمانيا. وتوفر فيه كل جهة بشكل منفرد الضمان الصحي الإجباري على العاملين فيها باستقطاع جزء من المرتب الشهري. 

  3. «نموذج التأمين الصحي الوطني» (Medicare) في كندا، ويعد خليطًا بين نموذجي «بيفرج» و«بسمارك». يوفر فيه القطاع الخاص الرعاية الصحية لكن بتمويل من الحكومة وبرامج تأمين مدفوعة من المواطن.

  4. «نموذج الدفع المباشر» (Out of Pocket). ويدفع فيه المرضى تكاليف الخدمة الصحية من مالهم الخاص. 

وكتب الدكتور أحمد العامري، المستشار في تحسين الرعاية الصحية، مقالًا حول التحديات والإمكانيات في إصلاح نظام الرعاية الصحية السعودية. ذكر فيه أن «نظام الرعاية الصحية مزيج بين مؤسسات وبرامج تملكها الحكومة وتُديرها بحيث توفر 77% من الخدمات. ويدير القطاع الخاص المتبقي إما من خلال التأمين الصحي أو الدفع المباشر.» 

وأضاف «أما بالنسبة للقطاعات الحكومية، تُقدِّم وزارة الصحة 60% من كامل الخدمات الصحية بينما توفر الجهات الصحية الحكومية الأخرى كوزارة الدفاع والحرس الوطني والمستشفيات الجامعية والمستشفيات التخصصية 17% من الخدمات. علاوة على ذلك توفر الحكومة أيضًا تمويلًا طويل الأجل بفائدة منخفضة لمؤسسات الرعاية الصحية الخاصة.»

وبما أن النظام الصحي الرسمي في السعودية يعتمد نموذج «بيفرج» فقد تبدر تساؤلات حول تمويله. وهل تعتمد الحكومة في تمويل خدماتها الصحية على الضرائب، لا سيما بعد فرض نظام ضريبة القيمة المضافة في عام 2018. 

في الواقع، وبناءً على المرسوم الملكي الخاص بالنظام الصحي، لا يقتصر تمويل خدمات الرعاية الصحية فقط على الميزانية العامة للدولة. إذ يعتمد أيضًا على إيرادات الضمان الصحي التعاوني والوقف والهبات وغيرها. وعلى ذلك لا تقوم خدمات الحكومة الصحية كُليًا على مدفوعات الضرائب كما الحال في نموذج «بيفرج».

ومن الطبيعي أن يأخذ النموذج شكلًا مختلفًا في السعودية. فكُل دولة حُرة في تصميم نظام الرعاية الصحي الذي يلبي احتياجات مواطنيها على أفضل وجه. 

دخول العملات الرقمية القطاع الصحي

العملة الرقمية أصولٌ رقمية تُستخدم لإجراء صفقات من تبادل منتجات أو خدمات. وتأتي العملة الصحية الرقمية بكونها فكرة ريادية جديدة تتطلب خلق نظام صحي أنسب للنمو بكفاءة عالية. نظام أشبه بنموذج «التأمين الصحي الوطني» شكلًا، أما جوهريًا يتعامل بالعملات الرقمية بدلًا من المال. 

ولا تُعد هذه المحاولة الأولى من نوعها لجذب العملات الرقمية للقطاع الصحي. فهناك الكثير من الشركات والمنصات الصحية الرقمية تقدم خدمات صحية واستشارية مجانية عن بُعد. وتعتمد تلك الشركات تداول العملات الصحية مع عملائها، ومن بين تلك العملات «دوك.كوم توكِن» (doc.com token). 

وفق هذا النظام، يُكافأ العملاء بعملات تُمكنهم من شراء العديد من الخدمات والمنتجات الصحية التي توفرها الشركة الرقمية. كما توفر خيار تحويل هذه العملات إلى نقود بالدولار.

مثلًا تقوم منصة «لمبو» (lympo) على جمع بيانات اللياقة البدنية، وتكافئ مستخدميها على الممارسات الصحية كالمشي والأنشطة الخارجية بعملات صحية. والهدف الرئيس من مختلف العملات الصحية خلق قاعدة بيانات صحية لامركزية تُغذي الكثير من الأبحاث المستقبلية.

انطلق في السعودية برنامج التحول الصحي. وهو أحد برامج الرؤية الجديدة لتمكين التحول الشامل في القطاع الصحي ليكون نظامًا صحيًا فعالًا ومتكاملًا. بوجود البرنامج تصبح الأرض اليوم أخصب لفكرة العملات الرقمية. لا سيما مع تبني فكرة الملف الصحي الموحد عبر تطبيق صحتي

إذ يُمكن الاستفادة من الملف الموحد في صنع قاعدة بيانات بلوك تشين لنظام «العُملات الرقمية الصحية» (Medical Token Currency).

وقد كان للحكومة الإستونية السبق في تبني تقنية البلوك تشين منذ عام 2016. ويجري اليوم التعامل مع جميع فواتير الرعاية الصحية في إستونيا من خلال تقنية البلوك تشين، حيث تصل نسبة الوصفات الصحية الرقمية 99% من مجموع الوصفات. 

كيف تُطبَّق العملات الصحية في السعودية؟ 

يمكن تطبيقها عبر توفير محفظة إلكترونية لكل مواطن على منصة واعدة كـ«توكلنا»، تُربط فيها العملة بقيمة متفق عليها من الريال السعودي. فتُربَط مثلًا بعشرين ريالًا سعوديًا أو أربعين أو حتى مائة. وتختلف قيمة العملة وعددها بناءً على مقدار المال الذي يصرِفُه المواطن بعد حساب المتوسط في السنة وتحويله لعملة صحية.

هكذا سيُعاد تقسيم حصص المال بالعدل وتوزيعها في جيوب المواطنين بدلًا من تمركزها تحت مسمى «كُل المواطنين». وسيصبح ضروريًّا دراسة طبيعة السوق الصحي السعودي عن كثب ومعرفة معدل صرف الأدوية واستهلاكها. وذلك بغية حساب متوسط صرف المال على الرعاية الصحية والتأكد من تغطية المبلغ المصروف كعملة صحية احتياج المواطن خلال السنة. 

ويُمكن إعادة تقييم تكلفة الحصص كُل خمس سنوات مثلًا، أو خلال الأزمات المفاجئة. أما تقييم العملة الصحية فيعتمد على السوق الصحي واستقراره، تمامًا كما الحال مع نظام العملات الرقمية كالبتكوين. فتُحدَّد قيمتها كل يوم بناءً على تحرك السوق الذي تعمل فيه أو سير النشاط الذي تعتمد عليه.

البتكوين: عملة تداول أو أصل لحفظ القيمة؟

حتى تفرض البتكوين قيمتها كعملة تداول معترف بها عالميًّا فلا بد من شروط أساسية تحققها، فهل تتوفر بها تلك الشروط؟

27 سبتمبر، 2021

كما يحتاج تطبيق هذا النظام تعريف قيمة الأدوية داخل المنشآت الحكومية بالعُملات الصحية بدلاً من الريال السعودي. وبالنسبة للمرضى الذين تتطلب حالتهم الصحية صرف مال أكثر من المتوسط، تُوفَّر لهم مبالغ إضافية بعد تقديم المريض الوثائق الصحية اللازمة. هكذا ستساهم هذه الآلية في توفير الرعاية الصحية لجميع المواطنين وبجودة كبيرة مضمونة.

ما التأمين الأنسب للعملات الصحية؟

يوفر نموذج «بيفرج» الرعاية الصحية للجميع بتكلفة معقولة لكن لا يتجنب مخاطر الجودة الرديئة. في المقابل، يحقق نموذج «بسمارك» جودة عالية لكن لا يمكنه ضمان الرعاية بتكلفة معقولة. 

ووفقًا لدراسة نُشرت في عام 1994، تتمثل أفضل فرصة لتحقيق قاعدة مالية موثوقة للخدمات الصحية في استخدام مزيج من هذين النهجين، أي في «التأمين الصحي الوطني». ويعد النموذج عمليًّا وواعدًا في كثير من الدراسات، لذا بالإمكان استخدامه قالبًا جيدًا لضخ العملات الصحية فيه. 

ويكمن أهم عنصر لنجاح هذه الفكرة في المتابعة الصارمة لمؤشرات «الأداء المالي الرئيسة» (Financial Key Performance Indicators). إذ يُعد أداة قياس لمتابعة مدى تحقيق الأهداف وضبط عملية حركة هذه العملات الصحية، مع تطبيق أنظمة مكافأة وعقوبات مدروسة لضمان تحقيق توفر الدواء للجميع.

ما المزايا والعيوب المُتوقعة؟

ستساعد هذه المنهجية الموظفين العاملين في سلسلة الإمداد الدوائي في الحصول على قوائم أدق وستسهل متابعة مخزون الأدوية وضمان توفيرها قبل نفادها. كما ستمكِّن وزارة الصحة من متابعة الأدوية والتحقق من خروجها ودخولها على نطاق أكبر وذلك بمتابعة حركة العملات الصحيّة.

وسيتحسن تعامل جميع الأطراف تجاه الأدوية وتقدير الخدمات المجانية التي توفرها السعودية. فمن جهة سيقل الهدر الدوائي إثر التساهل في حفظ الأدوية أو توزيعها على الآخرين أو حتى في التسوق الدوائي بين المستشفيات الحكومية. ومن جهة أخرى، يضمن المريض توفر أدويته التي يحتاجها، ويرى قيمة حقيقية فيها كونه اشتراها بعملاته الصحية.

في المقابل، قد تخلق منهجية العملات الصحية مشكلة كبيرة في خصوصية المرضى والشركات، لكنها ستمكِّن القطاع الصحي الحكومي من الوصول لمعلومات أدق. فمثلًا تبنت هيئة الغذاء والدواء السعودية نظامًا للتتبع ومراقبة مسيرة الدواء من الشركة المُصنِعة وصولًا إلى المريض، وستسهِّل العملات عملية سحب الأدوية التي تظهر فيها مشاكل لاحقًا.

كذلك قد يرى البعض في تطبيق العملات الصحية هدفًا تجاريًّا، ويتخوّف من تحويل القطاع الصحي الحكومي إلى قطاع تجاري. هذه مخاوف مشروعة، لكن يمكن تخفيف وطأتها بالنظر إلى القطاع الصحي الخاص التجاري. فرغم كونه قطاعًا ربحيًّا، يحظى بإقبال جيد حتى من موظفي القطاع الحكومي؛ فأغلبنا يبحث عن خدمة بوقت قياسي وجودة عالية. 

وفق هذا المقترح سيناقض نظام العملات الصحية أصله، إذ يقوم مفهوم العملات الرقمية على فكرة اللامركزية. لكن بالإمكان تضييق دور الحكومة بحيث يقتصر على توفير العملات المُتفق عليها، وجعل النسبة الأكبر من قاعدة البيانات لامركزية. 

ستُسهل علينا هذه النسبة استغلال قابلية تحول هذا النظام لأغراض تجارية. إذ سيصبح بالإمكان استخدام قاعدة البيانات لخلق فرص تنافسية لظهور عملة صحية محلية أخرى. وعليه ستستفيد المنشآت الصحية الخاصة المسؤولة عن توفير تأمين صحي لموظفيها من قاعدة البيانات وتبني عملتها الصحية الخاصة من خلال «بلوك تشين فورك» (Blockchain fork).

هل سنفقد العلاج المجاني؟ 

العلاج لم يكُن ولن يكون مجانيًا، فالدولة من تتحمل تكلفة العلاج. لذا قد يعتقد البعض أنَّ مع تأمين عدد محدود من العملات الصحية لكل مواطن سيكون العلاج مجانيًّا فقط حتى تنفد العملات.

لكن في الحقيقة يُحسَب عدد العملات على متوسط الاحتياج، وإذا زادت الحاجة يطلب المريض حينها إعادة شحن العملات. وقد يُطلَب من المريض إرفاق وثائق للوضع الصحي مع تكرار طلب الشحن أكثر من مرة. 

لا يهدف نظام العملات الصحية إلى فرض حدود على المواطن، بل للحفاظ على حقوقه. إذ ستعمل العملات الصحية كشرائح تتبُّع لآلية تدوير المال المخصص للأدوية لدراسة السوق واحتياجه ورؤية المشاكل بوضوح.  Click To Tweet

كما سيفرض النظام آليات صارمة في سلسلة تمرير الدواء من وزارة الصحة إلى المستوصفات، فتُراقَب كل عملة في دخولها وخروجها حتى نحد من الهدر. 

بالطبع سيتطلب تطبيق نظام العملات الصحية بشكله هذا دراسات بحثية وتحليل تجارب سابقة لمعرفة جدوى الفكرة ومدى ملاءمتها لنظام الإدارة الصحية في السعودية. ورغم وجود أبحاث تنتقد تغيير بعض الدول نظامها الصحي، لا يمكننا الاستناد عليها وإسقاطها على السعودية.

فالنظام الصحي السعودي يتميز بتوجهات مختلفة. لهذا نحتاج أولًا إلى إجراء دراسة تحليلية شاملة على إحدى المنشآت الصحية السعودية لمعرفة مدى ملائمة هذه الفكرة. وبناءً على نتائج تلك الدراسة نبدأ التنفيذ. 

السعوديةالعملات الرقميةالقطاع الصحيالرأسماليةالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية